بتـــــاريخ : 11/12/2008 4:40:07 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1407 0


    محيط الدائرة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جان الكسان | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    -. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..‏

     

    ظلت هذه الكلمات تشغل ذهنه عدة شهور.. تتحدى محاكماته العقلانية وأعصابه التي باتت مستنفرة باستمرار..‏

     

    قال له صديقه القادم حديثاً من لندن حاملاً شيئاً من ثقافة اهلها وكثيراُ من ضبابها: في المخابر يجري العلماء التجارب العضوية على الفئران البيض. وأنت الآن فأر أبيض، ولكنك في الوقت ذاته العالم الذي يقوم بالتجرية، فعليك أن تهتدي إلى نفسك بنفسك..‏

     

    -. معنى هذا أنك تعارض فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي؟.‏

     

    -. أجل.. وأصر على ذلك.. سيعقد الطبيب المشكلة..‏

     

    -. ولكن مشكلتي أنني بلا مشكلة حقيقية.. هلاّ فهمتني أكثر؟.‏

     

    -. انني أفهمك جيداً..‏

     

    -. لا أصدق هذا، فأنا برأيك لستُ سوى فأر أبيض قد أصلح للتجربة أو قد لا أصلح.. إذهب إلى الشيطان أنت ولندن والعلماء..‏

     

    ...‏

     

    مدّ سبابته إلى الأمام فكانت ترتجف.. إنفتل إلى المرآة ونظر إلى وجهه.. لم يكن على صورته المعكوسة في صفحتها أية علامة من علامات الحزن أو الفرح.. رشق المرآة بالماء وعاد فتمدد على السرير يتأمل صوراً مرشوقة على الجدران لنسوة عاريات بأوضاع مغرية..‏

     

    قبل ذلك، كانت صورة (حبيس الدائرة) تشغل ذهنه كثيراً فمنذ أن حدثه صديقه الآخر القادم من الشمال عن ذلك الرجل وقبيلته وهو يسأل نفسه عما إذا كان واحداً منهم تاه مع الأيام عن موطن القبيلة؟‏

     

    قال له الصديق: في الجهة الشمالية الشرقية من بلدنا تعيش قبيلة إذا كان أحد أفرادها واقفاً في مكان ما، وجاء أحدهم ورسم حول مكان وقوفه دائرة، اما على التراب أو بقطعة فحم أو حوّار، فإنه يظل حبيس هذه الدائرة حتى يأتي أحدهم ويمحو جزءاً من محيط الدائرة ليخرج منها، وإلا فإنه يبقى ضمن محيطها حتى يوم القيامة.‏

     

    كانت الدوائر التي وزع عليها الشاب اناس العالم أربع دوائر متتالية بصورة عمودية، فالدنيا منها أسماها الدائرة القردية وطوّق بخط محيطها فئة من البشر لا يدبُّ أفرادها إلا في المسالك الحيوانية البعيدة، متنكبين ميادين العواطف والعطاءاءت الانسانية كلها..‏

     

    اما التي تليها فدائرة التواطؤ، وهذه حشر فيها الذين حوله جميعهم، والديه وأصدقاءه، وعاثرات الليل، وساقي المقهى، وبقية المخلوقات البشرية التي تنتظمها خيوط الحياة الاجتماعية.‏

     

    اما الدائرة الثالثة فيتخطاها رأساً إلى الرابعة ليقف أمام محيطها عاجزاً عن حصر أي انسان فيه، فهذه دائرة الفارس وهذا الا نموذج مات في دنياه وفي أذهان القطيع..‏

     

    ويعود إلى الثالثة، إلى دائرته هو.. ليجد نفسه وحيداً فيها، ويروح مع الأيام يحاول ان يجد نعتاً لها، وأخيراً يهتدي إلى تعريفها بدائرة الوعي المشلول‏

     

    أتعبه الوقوف ضمن محيطها.. تذكر حديث صديقه عن تلك القبيلة، وبدأ يقنع نفسه بأنه واحد من رجالها تاه عن موطنها، وظل رهين دائرته ينتظر قدراً يمحو أمامه شيئاً من محيط الدائرة يكون باباً للخلاص.‏

     

    هنا.. يقفز إلى ساح شعوره سؤال جديد: ماذا بعد الخروج من الدائرة الثالثة؟.‏

     

    -. ليس أمامك إلا أن تقفز إلى الرابعة، وتكون الإنسان الفارس أو تعود إلى الدائرة الثانية وتصبح واحداً من افراد القطيع المتواطئ.‏

     

    -. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..‏

     

    ماذا يريد هذا الصديق أن يقول؟. قبل أن يتكلف الحكمة ويستعرض أمامي رصيده من الثقافة، عليه ان يخرج من الدائرة الثانية، أن يكون- على الأقل- واحداً متميزاً في القطيع.. سأهزأ من الثقافة بطريقة جديدة، وأعرض حالتي على طبيب نفسي.. أليست تجربة مثيرة؟.‏

     

    ...‏

     

    كانت ساق سكرتيرة الطبيب أول ما لفت نظره وهو يدخل العيادة، ذلك لنها كانت بارزة بوضع مغر من خلف الطاولة التي تجلس إليها.. أما الساق الثانية فقد اختفت خلف المكتب..‏

     

    قال لها: جلستك مغرية.. ورائعة..‏

     

    قالت: ماذا تريد؟.‏

     

    قال: كنت أرغب في مقابلة الطبيب.. أما الآن فلا بأس أن تكوني أنت الهدف..‏

     

    قالت بهدوء: باستطاعتي أن أحدد لك موعد المقابلة مع الطبيب في الساعة السادسة من مساء الغد..‏

     

    -. هل لي أن أسألك: لماذا لم تغضبي من طريقتي في الحديث معك وأنا أراك للمرة الأولى؟.‏

     

    -. من واجبي أن أكون طويلةالبال مع الذين يقصدون العيادة.‏

     

    في اليوم التالي.. جاء في السادسة والنصف فمنعته سكرتيرة الطبيب من الدخول، قالت أن وقته المحدد قد فات، فصاح في وجهها: وهل نحن في مدرسة داخلية؟.‏

     

    وقبل أن تجيب، ظهر الطبيب أمام باب غرفته مستفسراًً عن سبب الصياح، فقالت السكرتيرة: إنه مريض الساعة السادسة..‏

     

    فصاح الشاب: لست مريضاً.. لم أتقدم لأي فحص حتى الآن.. قال الطبيب بهدوء وهو يبتسم: باستطاعتك أن تدخل لتواجه أول الفحوص..‏

     

    وعندما دخل الغرفة أشار الطبيب إلى أريكة وقال له:‏

     

    -. تستطيع أن تستلقي..‏

     

    قال: لن أفعل هذا.. إلا يمكن للطبيب النفسي، أن يتحدث إلى زائره دون أن يجعله في وضع المستلقي..‏

     

    قال الطبيب: كما تريد.. احلس على هذا المقعد..‏

     

    فرد الشاب بإصرار: بل سأظل واقفاً.. هل يزعجك هذا؟.‏

     

    قال الطبيب وهو يجلس خلف مكتبه: بالعكس.. تستطيع أن تكون في الوضع الذي تريد.. المهم أن ترد على أسئلتي..‏

     

    قال متسائلاً: ولماذا لا ترد أنت على اسئلتي؟‏

     

    رد الطبيب: ومن قال لك أنني أرفض الرد.. المهم أن يتحدث أحدنا إلى الآخر.. فقد أكون أنا بحاجة إلى نصيحة منك، أنا أرجو أن تفيدني عن اسمك حتى اعين لك خانة بين أصدقاء عيادتي..‏

     

    -. اسمي زياد..‏

     

    -. هذا الأسم الأول.. فما هو إسمك الكامل؟.‏

     

    -. زياد ليس إسمي..‏

     

    -. لماذا لا تقول لي إسمك الحقيقي؟.‏

     

    -. نفرض أن اسمي زياد.. أو ممدوح.. او بطرس.. هل يبدّل هذا من الموضوع شيئاً؟.‏

     

    -. إنها شكليات.. على كل حال أرجو أن أعرف اسمك، وثق أن دفتري بئر عميقة..‏

     

    -. اسمي ذوقان سفل التلة..‏

     

    -. هل تمزح ؟.‏

     

    -. بل هذا هو اسمي الحقيقي.. هل تريد أن ترى هويتي الشخصية!‏

     

    -. لا حاجة لذلك، لقد صدقتك‏

     

    -. قبل أن تكتب الاسم تذكر أنه لا يشكل بالنسبة إليّ أية عقدة.‏

     

    -. اعدك بأنني سأتذكر ذلك، والآن، هل أنت مصمم على توجيه الأسئلة؟.‏

     

    -. طبعاً..‏

     

    -. تفضل.. وتذكر أن مريضاً آخر ينتظر الدور بعدك..‏

     

    -. أنا لم أحضر إليك لأحلق ذقني.. سأدفع لك ما تشاء من المال بشرط ألا تقيدّني بالوقت..‏

     

    -. كما تريد.. والآن سل ما تشاء..‏

     

    -. ما هو اسم والدتك يا دكتور؟.‏

     

    -. رمزية..‏

     

    -. منذ متى تخرجت من الكلية؟.‏

     

    -. منذ ثلاثة أعوام..‏

     

    -. هل تتبوّل في فراشك؟.‏

     

    -.لا..‏

     

    -. لماذا بدأ الغضب على وجهك..‏

     

    -. لأنك.. آه.. عفواً.. انني لست غاضباً.. ولكنك تتخيل ذلك..‏

     

    -. هل اتابع أسئلتي؟.‏

     

    -. طبعاً.. تفضّل..‏

     

    -. هل حاولت أن تقيم علاقة مع سكرتيرتك؟.‏

     

    -. لا أسمح لك بهذا السؤال..‏

     

    -. ولكنك سمحت لي بأن ألقي ما أشاء من الأسئلة..‏

     

    -. إنك تتجاوز حدودك..‏

     

    -. هل يغفر لي هذا إعترافي بأنني مريض؟.‏

     

    -. الذي يعرف انه مريض، عليه أن يساعد الطبيب في تشخيص الداء.‏

     

    -. إذن.. ادع السكرتيرة..‏

     

    غضب الطبيب، وصاح بالشاب الواقف امامه: ولكن لماذا تحشر السكرتيرة في الموضوع.. هل تعرفها قبل الان ؟.‏

     

    -. لم أرها قبل الآن أبداً..‏

     

    -. إذن لماذا تريدني أن استدعيها؟.‏

     

    -. لتكون وسيلة ايضاح..‏

     

    -. ماذا تقصد؟.‏

     

    -. سأجعلها تجلس على هذا الكرسي، وسأرجوها أن تضع ساقاً فوق اخرى، ثم أروح أروي لك ماساتي صادقاً.. وقد أبكي..‏

     

    -. تصور أنها موجودة.. على الكرسي، وقد وضعت ساقاً على ساق.. وابكِ إن شئت..‏

     

    -. مأساتي يا سيدي الطبيب هي هذه المسافة القليلة التي ينحسر عنها ثوب المرأة.. أية امرأة، عن ركبتها عندما تجلس.. إن هذا البياض ينقر عيني.. يتحداني.. يجعلني أرتكب حماقات سخيفة، وحادة، ومختلفة، فاحاول أن أجد العزاء لدى العاثرات الأجيرات.. ويزداد اتساع المسافة البيضاء أحياناً، ولكني أحس بالقيء.. أريد علاقة نظيفة، غير مأجورة ولا رخيصة، أريد أن اتخلص من عقدة الركبة هذه..‏

     

    قال الطبيب بهدوء: أنت بحاجة إلى الحب..‏

     

    انفجر الشاب يضحك.. يقهقه.. كان يعلم أن الطبيب سيصل إلى هذه النتيجة.. كم هو غبي هذا الرجل الذي يتسربل بالبياض ويضع على عينيه نظارة طبية، ويكدس في غرفته الكتب الأجنبية..‏

     

    وقام الطبيب عن كرسيه كأنه يوحي للشاب بانتهاء المقابلة، فمد هذا يده إلى جنب بنطاله وأخرج ورقة نقدية كبيرة، رماها على مكتب الطبيب وقال: أنت أيضاً في الدائرة الثانية‏

     

    سأله الطبيب وهو يتقدم نحوه غاضباً: ماذا تقول؟.‏

     

    فرد الشاب: أقول أنك من القطيع المتواطئ..‏

     

    وهنا صاح الطبيب: اخرج من العيادة..‏

     

    ...‏

     

    وفي اليوم التالي، دخل الشاب عيادة الطبيب قبل موعد حضوره، وفوجئ بأن السكرتيرة ردت عليه التحية بابتسامة عذبة..‏

     

    قال لها: سأطلب منك معروفاً..‏

     

    قالت: اطلب..‏

     

    قال: اريد أن أطلع على الملاحظة التي كتبها الطبيب بجانب اسمي في سجله..‏

     

    قالت: آسفة.. هذا من أسرار المهنة المقدسة، ومن واجبي أن أظل أمينة عليها..‏

     

    قال: ولكني أريد الاطلاع على الملاحظة من قبيل الفضول فقط..‏

     

    قالت: آسفة.. لا أستطيع أن أطلعك على شيء.. ثم إنني لا أطلع عادة على السجل الخاص بالمرضى..‏

     

    قال: إذن.. سأطلب منك جميلاً ليس من أسرار المهنة..‏

     

    قالت: اطلب..‏

     

    قال: إخمشي ظاهر كفي بظفرك هذا الطويل..‏

     

    ...‏

     

    في المساء، كان الشاب والسكرتيرة يجلسان في حنوة حالمة باحد مقاصف المدينة..‏

    وفي نهاية الجلسة، اكتشف الشاب أن دائرته الثالثة كانت بلا محيط

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()