بتـــــاريخ : 11/12/2008 4:24:02 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 450 0


    أيام الكازوزة...

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محسن خضر | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    أيام الكازوزة محسن خضر

     

     

    جحافل ننطلق مغيرين على بائعي المثلجات.. ننفذ وصيته أو أمره بكل حماس:‏

     

    - اجمعوا كل أغطية الكازوزة التي تجدونها: بيبسي وسينالكو وليمونيتا وسيكو وكوكا كولا واسباتس وستيلا..‏

     

    ننقسم فرقاً وفرادى. نتابع حركة الأيادي والأفواه مشدودين، وننقض حينما نلمح غطاء زجاجة الكازوزة مفصولاً عن الزجاجة، نرصد لحظة طيرانه في الهواء وقبل أن يبلغ مستقره على الأرض نكون هناك،لا يخلو الأمر أحياناً من التدافع أوتلقي الضربات المؤلمة من قبل الزبائن أو الباعة أنفسهم.‏

     

    نتفنن في البحث عن الأغطية في أماكن غير مألوفة: أوعية القمامة المعلقة في أعمدة الاضاءة.. داخل المطاعم، وأمام أبواب السينما الصيفي في حينا، أودور السينما القريبة من الحي: بارك "وريالتو"والتاج "وهوليود وفيكتوريا". مرة واحدة غلبنا الحماس فجرفنا إلى سينما هونولولو بشارع علي شعراوي البعيد عن حينا..‏

     

    عبد الفتاح ومجدي العريف- وحدهما- يسلكان الطريق إلى سينما سهير بشارع الجيش أو سينما مصر بباب الشعرية، يقطعانه في ساعة كاملة في الذهاب والعودة.‏

     

    هذه الرغبة المجنونة في جمع أغطية الكازوزة يتقاسمها التحدي والفضول من ناحية، والرغبة في كسب وده، وتجنب غضبه.‏

     

    يحظى فايز الولد ذو الذراع الملتوية بتقدير خاص، ينتقي أماكن غير مألوفة، ويهبط على صيد وفير لا يخطر على بالنا،أحياناً يقصد بقالة على كيفك حيث يتجمع السكارى في ركن قصي داخل المحل، فينال أغطية غريبة الشكل لزجاجات مستوردة وأقلها صناعة مصرية عادة ما يكون صنف البيرة، وفجأة يختفي عن أنظارنا ويخبرنا بعد عودته بأنه قصد كازينو البستاني بميدان السكاكيني فيعود بحصيلة وفيرة من أغطية الكازوزة تاركاً أيانا نضرب أخماساً وأسداساً.‏

     

    كنت الأقل رصيداً، ولم تكن أمامي وسيلة لتصحيح الصورة إلا التضحية بمصروفي اليومي لشراء زجاجة كازوزة أوأكثر والانتفاع بالغطاء..‏

     

    تتجمع حصيلة التقصي والسعي والدوران تحت أقدام أخي الأكبر يتولى توجيهنا إلى تنظيمها ورصها وفرزها، يستبعد القديم والممسوح والمعوج، ننال عبارات القدح والتقدير تبعاً لانصبتنا، تنجح الحيلة وافرح بالأغطية التي اشتريت زجاجتها بحر مالي.‏

     

    تتحول الأغطية إلى قبة صغيرة، نتولى تعديل حوافها لتشبه فص الليمون الجاف بعد عصره،تتبقى الخطوة التالية الأهم..‏

     

    بعد دقائق تكون أنفاسنا منسحبة ونحن نرقب مقدم الترام الأصفر، رصصنا الأغطية مقلوبة حتى لا تنبعج، نخمن خط الترام القادم: سكاكيني- جماميز أو سكاكيني- لاظوغلي. ننقل الأعين بين ميدان السكاكيني وموقف الترام ناحية شارع رمسيس، تتراقص قلوبنا مع صرير العجلات الحديدية للترام الخشبي الأصفر بعرباته الثلاث، يختزل الكون نفسه في حركة الترام بعجلاته الثقيلة وهو يهرس أغطية الكازوزة في صرير مكتوم، نقف معتدلين أو منحنين أو مقرفصين نتابع حركة التسوية والفرد، بعد مرور العربة الأخيرة نتتقافز كالقرود، يحترم كل منا أغطية زملائه، نكون حريصين على ترك فواصل بين كل مجموعة وأخرى من أغطية الكازوزة، تحولت الأغطية الآن إلى دائرة رقيقة مكتملة من الصاج،يحذرنا بعض المارة أحياناً، فربما لا ننتبه ونحن نجمع الأغطية من فوق الشريط الحديدي إلى مقدم عربات الترام من الجهة الأخرى، وربما يبادر أحدنا بنقل الأغطية المفرودة إلى الشريط الموازي كي تسحقها عجلات الترام الثقيلة وتفردها مرة ثانية.‏

     

    تنور ينور في رأسي عند حركة الضغط، موسيقىمدهشة لا أستطيع وصفها بدقة، وتتسارع دقات قلبي كأنها تغنى وتشدو.‏

     

    يصبح من السهل الآن فصل غشاء الفلين المبطن للغطاء الصاج.‏

     

    نعود مهللين مصفرين مصفقين إلى منزلنا، نلقى بأغطيتنا المفرودة تحت أقدام أخي. يوجهنا إلى تصنيفها حسب أنواعها، ونبدأ في ثنيها لتصبح مثل نصف الرغيف البلدي بحيث تتحول إلى نصف دائرة، وتترك بعض الأغطية دوائر كاملة بلا ثني.‏

     

    بعد دقائق تحول أصابعنا الماهرة الأغطية إلى مقاعد وموائد ودراجات وأسرة وأرجوحات ومكاتب ودواليب، بعد الانتهاء نتفرغ لصنع عرش السلطان لنقدمه إلى أخي.‏

     

    نرص انتاج اليوم في علب الأحذية التي تمتلىء بها شرفة موريس جارنا اليهودي بالطابق الأول الذي هاجر بعد التأميم.. يقفز بعضنا كالقرود ويرمونها إلى الأرض لتتلقفها الأيدي وتنقلها إلى شقتنا، ربما نستعمل علب الدواء الكبيرة التي نحصل عليها من مصنع الأدوية بشارع كنيسة الاتحاد.‏

     

    في نهاية اليوم يكون أخي الشرير قد استولى على الحصيلة كلها مع وعد مكرر كاذب بتوزيعها علينا في الغد.‏

     

    في الغد المزعوم تتكرر المشقة والمعاناة والاستغلال، وتتوالى وعوده الكاذبة وأمانينا الطيبة بالحصول على حقنا المغتصب.‏

     

    يخرق بعضنا دائرة الظلم بسرقة بعض العلب من وراء ظهر أخي خلسة، أشاركهم الخديعة في تواطؤ لا ندم عليه.‏

     

    يتناقص مخزون العلب، يذهب أخي بها ولا يعود، أراقب مصروفه الذي يزيد يومياً.‏

     

    تتردد شائعات بأنه يبيع انتاجنا لحسابه لزملائه بالمدرسة الاعدادية، لا نملك دليلاً دافعاً يحسم الأقاويل، ولا نمتلك شجاعة التساؤل والمواجهة، من يجرؤ على التمرد وكسر دائرة التبعية والنفوذ؟ يمتلك أخي قدرات هائلة وسطوة غير محدودة ولغة معسولة وقبضته لا ترحم، من يمتلك سيف الانصاف وناقوس العدل؟‏

    بعد هذه السنوات الطوال أسأل نفسي متعجباً من غفلتنا: هل حولناه إلى أسطورة؟‏

    كلمات مفتاحية  :
    أيام الكازوزة محسن خضر

    تعليقات الزوار ()