خرجت برفقة ابني هشام من مكاتب صحيفة الخرطوم في يوم من أيام شهر أغسطس الماضي قاصدا السوق العربي وأخذت أمشي في الطرقات المزدحمة مثل درويش ذائب في وجده يرى في عالمه ما لا يراه الناس من حوله. الطرقات ضاقت بالبشر والسيارات ومياه الأمطار والوحل . الأرصفة الضيقة القذرة مشغولة بشتى أصناف البشر و العين لا تخطيء البؤس الذي يصبغ بلونه كل شيء. كنت أسعى في سيري للإفلات من الحاضر واسترداد شيء من عبق الماضي الذي لم يعد له وجود إلا في ذاكرتي التي عطلتها سنوات الغربة الطويلة. افتقدت التركيز على اللحظة والمكان فاصطدت قدماي أو قدما ابني هشام بأكواب بائعة الشاي التي كانت تشغل مساحة من رصيف الشارع. كانت الخسائر كوب شاي واحد. تنبهت لما جرى، استدرنا راجعين لبائعة الشاي التي لم تفقدها الخسارة هدوءها ، فسألتها عن سعر الكوب المكسور. أجابت علي سؤالي ببساطة متناهية. قلت لها إنني أسأل عن سعر الكوب الفارغ. أجابت مرة أخرى وهي تعيد ترتيب المكان من جديد. ألقت نظرة بلا اكتراث علي يدي الممدودة لها بثمن الكوب الفارغ (وزيادة شوية)، وسألتني لماذا تلك القروش فقلت لها إنها المبلغ الذي ذكرته ثمنا لكوب الشاي الذي تحطم. قالت لي إنها أعلمتني بثمن كوب الشاي فارغا ومليئا بناء على طلبي لكنها لم تطلب مني شيئا. قلت لها إن المبلغ هو تعويض لها عن الكوب الذي كسرناه. ردت علي بحزم قاطع إنها لا تقبل عوضا من أحد لأن من يعوض الخلق هو الخالق وحده. ثم أردفت قائلة إن الكوب (يومه تم) لأنه كان موضوعا في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ. طلبت منها أن تبيعنا كوبي شاي ، فرفضت لأن ذلك في اعتقادها تعويض بصورة غير مباشرة لأنه لو كانت بي حاجة حقيقية للشاي لاشتريته قبل كسر الكوب. هكذا قالت لي . كانت تتكلم بهدوء وثقة وتسد علي كل أبواب التعبير المادي عن أسفي لما جرى. لم يكن أمامي غير الإعتذار بالكلمات.كان البؤس الذي ترك بصماته على كل جزء من وجهها يخفي وراءه ثروة ضخمة من القيم.
نموذج رائع من غنى النفس والإيمان، وليس دون الإيمان غنى ولا بعده فقر. جاءت تلك السيدة كما تدل سحنتها من مكان فيه رائحة الموت متأبطة معها في رحلتها الطويلة إلى الخرطوم ثروة من القيم . لم تحصل على تمويل بنكي والمؤكد أنها لم تسمع في حياتها بكلمة بنك، ولم تحصل على إعفاء ضريبي أو جمركي ولم تسرق مال أحد ولم تشارك في تشييد مبنى المختبرات المنهار أو أي مشروع آخر فاشل أو مشبوه، ولم يجد اسمها طريقه لتقارير المراجع العام، ولم تمتلك بيتا مثلما لم يمتلك جاك شيراك النصراني بيتا هو الآخر، أو ربما كانت لها ذات يوم قطية ولم تسمع قط بساريا والياسمين، لم تحصل في حياتها على قرش واحد من الدولة في شكل رواتب ومخصصات وامتيازات شأنها في ذلك شأن كل عشيرتها، ولم تسمع بالبترول ولا حساباته السرية، ولكنها غنية لأن الغني من استغنى بالله والفقير من افتقر إلى الناس ولذلك لم يقهرها الفقر، لا تفهم كثيرا أو قليلا في كلمات التأصيل والتهليل والتكبير ولكنها تؤمن بعفوية وتلقائية أن الله هو الخالق وهو الضار والنافع وهو الذي (منه العوض وعليه العوض).
انتزعتني تلك السيدة من وسط ترف الرحيل إلى الماضي وأعادتني رغما عني إلى الحاضر. لا شك أن الحاضر جميل مثل المستقبل في وجود هذه السيدة الجميلة التي لم تسقط من ذاكرتي.. بائعة الشاي الغنية جدا التي ترفض التعويض من غير الله.