وردت قصة مقتل كعب بن الأشرف في صحاح كتب السنة والسيرة إلا أنها ليس فيها أبدًا ما ورد في السؤال من أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد رُمِي بين يديه برأس الرجل، كما أن هذا السياق خال من الملابسات الحقيقية التي تَمَّت فيها عملية إعدام كعب ، والتي توضِّح الْمُسَوِّغات التي من أجلها أُعْدِمَ، حيث إنه قُتِلَ؛ لأنه خائن، لا لأنه يهودي، ولا لأنه معارض(1).
كعب هذا رجل من اليهود الذين أقاموا في المدينة بعد معاهدة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تقضي بأن يحافظ طرفاها على أمن المدينة، وألا يخون أحد الطرفين هذا العهد، وألا يضر بالأمن، ولكنه ما أن رأى ما جرى بين المسلمين وأهل مكة في معركة بدر، وكيف أن المعركة انقضت بعودة المشركين موتورين إلا وراح يؤلب المشركين ويوقد نار الحقد في نفوسهم، وقد أنشأ شِعْرَه ليؤلب هذا الأمر ضد المسلمين.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه، فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل يثرب، فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر(2) من قومه، يزعم أنه خير منا، فقال: أنتم خير منه، فنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء :51](3).
ولم يكتف كعب بذلك بل راح يتحالف مع كفار مكة ضد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- يقول القرطبي: "لما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة"(4).
وعن عكرمة - رضي الله عنه - أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي - صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يغزوه، وقال: إنا معكم نقاتله(5).
قال المازري: "كان نَقَضَ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- وأعان عليه وهجاه وسبَّه عيانا"(6) وبذلك يكون كعب مجرما يستحقُّ العقاب، وعقاب المجرمين شيء سائغ في عُرْف الإنسانية جميعها.
لماذا هذه الطريقة؟!
كان لكعب منزلة في قومه كمنزلة كبار المجرمين الذين يحتمون بقبائلهم، وبعصبيتهم، وكان إلقاء القبض عليه وهو مُتَحصِّن بقومه على هذه الحالة مدعاة إلى فتنة أكبر تقوم بين طوائف المدينة، لا يؤمن على أمن المدينة بعدها.
وللموازنة بين درء هذه الفتنة الأكبر وإخماد نار فتنة قائمة بسبب جرائمه رأى من كلف بهذه المهمة أن التحايل للقبض عليه هو الطريقة الْمُثْلَى، ولهذا الأمر احتاط محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - ولم يعطه عهدًا ولم يُؤَمِّنه بكلمة، وإنما كلَّمه في أمر بيع وشراء(7) أتاه فقال له: أردنا أن تسلفنا وَسَقًا أو وسقين، فقال كعب: أرهنوني نساءكم، قالوا:كيف نرهنك نساءنا، وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهن أبناءنا فيُسَبَّ أحدهم؟ فيقال: رُهِن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة -يعنى السلاح- فوعده أن يأتيه فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم- فأخبروه(8).
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُؤَمِّن اليهود:
وليس أدل على أن الأمر ليس استئصالا ولا تطهيرا لعرق من أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيَّن للناس أن مقتله لم يكن إلا بسبب خيانته لوطنه وأُمَّته، فإن اليهود لما انزعجوا من مقتله جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وشكوا ذلك، فذكَّرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخيانته وما كان يحضّ عليهم، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا، قال: فكان ذلك الكتابُ مع عليّ - رضوان الله عليه- (9) وكم من بني يهود كان يعيش في المدينة آمنًا فما مُسَّ بسوء إلا بعد أن نقض عهدا! وانظر إلى موقف اليهود من مقتله فكيف لم يدافعوا عنه ولم ينافحوا.
الهوامش:
(1) انظر المستدرك على الصحيحين للحاكم 13/345.
(2) يقال للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر"صنبور" فقد أراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- صنبور نبت في جذع نخلة، فإذا قلع انقطع، فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له، وكذبوا، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين، و"المنبتر" و"الأبتر": المنقطع الذي لا عقب له. انظر تفسير الطبري 8/467 هامش بتصرف.
(4) تفسير القرطبي 18/4، أسباب النزول للواحدي 1/99، في ظلال القرآن 7/156، الدرر في اختصار المغازي والسير 39
(6) الديباج على صحيح مسلم4/412
|