الوحي برهان نفسه:
عرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بالوحي نفسه، فإنه منذ أن رآه في الغار وضمَّه ضمَّة شديدة جعلته يتنبَّه إلى ثقل ما سَيُوحَى إليه، وجعلته مُتيقِّنًا من أنه في حال تيقُّظ تام(1) يتلقَّى الوحي الإلهي، منذ ذلك الحين وهو عالم مُتَيَقِّن أن وحي الله قد تَنَزَّل عليه.
أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم قد حمل -ولا يزال- في آياته، وفيمن آمن به بُرْهانًا ساطعًا على أنه وحي الله للعالمين، ذلك فيما يحمله من إعجاز شهد به من قرأه بإنصاف(2)، وليست شهادة المنصفين-وعلى رأسهم أم المؤمنين خديجة(3) رضي الله عنها- بأن ما كان ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم وحي السماء إلا استظهارًا لما وجده من العظمة الكامنة في هذا الكتاب.
دور السيدة خديجة رضي الله عنها:
أما السيدة خديجة رضي الله عنها فإنها بدورها كزوج تخاف على زوجها الذي ما عهدت فيه إلا صِدْقًا بعد صدقٍ، وقد أخبرها بهذا الأمر المروِّع الذي لقي فيه مَلَكًا لأول مرة، يضمه إليه ويلقي له من الوحي ما يلقي، فلا شك أن بلغ به الأمر أن يخاف على نفسه فبادرت أولاً تطمئنه على حاله بما عرفت منه في سابق عشرته من جميل خصاله، وحيث إن الله لا يُعَوِّد عباده على أن يُخْزيهم وقد أحسنوا، ولذا قالت له: كلاَّ والله ما يُخزيك الله أبدا، إنك لَتَصِل الرَّحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضَّيف، وتُعِين على نوائب الحق.(4)
ثم هي امرأة تُرِيد أن تتيقَّن لدينها ففكَّرت ماذا تصنع بإزاء هذا الأمر الجديد؟
ولا شك أنها تعلم عن وجود الملائكة والشياطين، وأن من طبائع الملائكة أن لا تتراءى لامرأة إلا وهي مُحَجَّبَة، وهذا أمر عادي ألَمَّت به خديجة من معارف ورثتها عن آبائها -وهم لا شك كانت لهم معارف متوارثة بعضها هي بقايا علوم إبراهيم عليه السلام، أو حتى تعلمتها مما يبثُّه الحنفاء في مكة- فعملت هذه التجربة ثم تثبَّتَت لنفسها من أهل الخبرة بالأمر، فذهبت ومعها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ورقة بن نوفل. قال البيهقي:"وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطًا لدينها وتصديقًا، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، أراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشَّجر، والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليمًا.(5)
ومن ثَمَّ فإن توجيه القصة سائغ لا يحتمل التهويل الذي ورد في السؤال.
الهوامش:
-----------------
(1) راجع ملابسات هذه الحادثة وما تَمَّ فيها في صحيح البخاري كتاب بدء الوحي وكتاب التفسير باب قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} في فتح الباري لابن حجر العسقلاني. فتح الباري لابن حجر 14/130
(2) راجع في هذا –على سبيل المثال -ما كتبه علامة الأزهر الدكتور: محمد عبد الله دراز في كتابه الماتع (النبأ العظيم)، والأستاذ: مالك بن نبي في كتابه القيم: (الظاهرة القرآنية).
(3) كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من طليعة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإنسان إذا رأى النور ومشي وراء سراجه فهو من المنصفين.
(4) صحيح البخاري (1/8)
(5) دلائل النبوة للبيهقي (2/16
|