إن الأنبياء هم أعظم البشر باتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الأنبياء، والعظماء أصحاب النفوس العالية، والمقامات العظيمة، ينظرون إلى أمور لا يعتبرها غيرهم من الناس ذنوبًا، لكنهم ينظرون إليها على أنها ذنوب، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولهذا فإن استغفار هؤلاء العظماء لا يعتبر طلبًا لمغفرة الخطيئة والصفح عنها؛ لأنه لا توجد خطيئة أصلا!!
ولكنه يعتبر طلبا لرفع الدرجة والارتقاء في المنزلة لبلوغ الكمال!! ومراتب الكمال والشرف لا تتناهى .
وكثرة الاستغفار من سمات العابدين يتحقق به للعبد ترقٍّ في مراتب الكمال والشرف التي لا تتناهى؛ فهو عبادة بذاته يؤديه العبد ولو لم يقترف ذنبًا يستغفر منه، فإن الشعور بالتقصير سمة العابدين مهما بلغوا.
ولذا تراه صلى الله عليه وآله سلم قد قام الليل حتى ورمت قدماه، وفاء بهذا الواجب، واعترافًا بنعمة التوفيق الرباني، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" (1).
والعقل والتاريخ والتفسير القرآني ينفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب؛ أما العقل: فلأن الأنبياء متصفون بالأمانة في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فهم لا يخونون ولا يخطئون أبدًا، وقد أيدت المعجزات أمانتهم، وحَمّلهم الله رسالته التي لا يحملها إلا من كان أمينًا تام الأمانة، ولهذا فإن الله أمرنا أن نتبعهم من غير تفصيل، وفي هذا نفي لجواز الخطيئة عليهم، لأنه لو جازت عليهم الخطيئة لفصل الله لنا ذلك وأرشدنا إليه ولم يأمرنا باتباعهم مطلقًا هكذا دون قيد أو شرط.
أما التاريخ: فإن كتب التاريخ الصحيحة مجتمعة على أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت نموذجًا للأمانة التامة، فليس فيها خطيئة ولا ذنب، بل إن القرآن الكريم نفسه قد أثنى على النبي صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4]، وأمر باتباعه، ونص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يخطئ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] فكيف يدعى أنه أخطأ؟! ويدعى أن القرآن الذي زكاه هو نفسه الذي يقول ذلك؟؟!!
أما عن تفسير الآيات التي يزعم أن فيها وصفًا للنبي صلى الله عليه وسلم بالخطيئة ، فإن التفسير الصحيح الذي نصت عليه كتب التفسير يوضح أن [الوزر] في قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} يعني: الحرج، والحرج هو الضيق والصعوبة التي سببها عدم استجابة البعض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو الشدائد والمصاعب التي تعترض طريق الرسالة.
ومعنى [وضعنا] أى: حططنا، فالآية تمثل حالة إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلا عن حامله [أي: يزيله عنه] ليريحه من عناء الثقل (2)
ومن التفسيرات الصحيحة للآية أيضًا:
أن قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب وتطهيره من الأدناس، وعبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في نفي الخطيئة والذنب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة ، لمن لم يصدر منه زيارة، للمبالغة في انتفاء الزيارة منه (3).
الهوامش:
---------------------------
(1) صحيح البخاري (16/131).
(2) التحرير والتنوير (16/ 307). بتصرف .
(3) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 8/ 484. بتصرف .
|