ذكر القرآن الكريم في كثير من آياته معالجات لأحوال البيت النبوي، وذاك ليتم لكل مؤمن بالقرآن الكريم الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أحواله جميعها، حتى في بيته ومع نسائه.
قصَّة الإفك دليل على أن القرآن ليس صنيعا بشريًّا:
في البيئة العربية يضار المرء أي ضرر من أقل اتهام يلحق عرضه، خصوصًا إذا كان مظِنَّة التهمة هي زوجه، والعربي في هذه الحال التي تشير فيه أصابع الاتهام إلى امرأته يدفع عن عِرْضِه التهمة بما استطاع، ولا يتأخَّر عن أمر مثل هذا خصوصا مَنْ يدعي منهم شيئًا من الشَّرف أو الرياسة أو يكون له شيء من التأثير على قومه.
والذي حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم- فيما أُشِيعَ عن زوجه عائشة - رضي الله عنها- شيء من هذا.
فيا ليت شعري لماذا تأخر الدفاع عن هذه التهمة شهرًا كاملاً ؟!
وإذا كان القرآن من وضع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لماذا يتأخر واضعه وهو الذي يُضار بتأخر دفع هذه التهمة كل هذه المدة؟ لماذا تأخر في أن يُؤلِّف شيئًا يدفع التهمة عن نفسه وزوجه ؟!
وقد حدث أن نزل القرآن في غير هذا الأمر على التَّوِّ والفور كما حدث في أمر خولة التي سمع الله قولها وهي تجادل في نفسها، فنزل الوحي في الحال.
لا شك أنه كان ينتظر شيئًا ليس بيده إحضاره أو تنزله، ولو كان بيده ما أخَّره إلى أن تتجرأ ألسنة أتباعه على تداول التهمة في مدينته، وهذا المنتظر كان الوحي الإلهي، قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم :64]
النبي الْمُعَلِّم
وفي موقفه - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل نزول الوحي عليه ما يُوضِّح العظمة النبوية، ويُبيِّن كمال هذه النفس على نحو غير معهود من أمثاله في مثل هذه الحادثة، وذلك على النحو التالي:
1- توازن فريد يتجلى في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فهو الزوج الذي يضره هذا الحديث الذي يسير في أحب الناس إليه، وهو الْمُنْصِف الذي يزور زوجه ليقف على حالها ويطمئن على صحتها، ولا يلغي من حسابه ما سلف من سيرتها وعِشْرَتَها معه.
تقول عائشة - رضي الله عنها - وهي تصف حاله - صلى الله عليه وسلم- معها في مرضها: «وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - اللُّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فَيُسَلّم، ثم يقول:كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشَّرِّ حتى نقهت».(1)
ثم هو المتألم لحديث الناس عن زوجة بهذه الكيفية ولا يستطيع أن يُنْزِل بأحدهم عقوبة، حيث لم يكن تقرَّر في الشرع عقوبة القذف بعد.
2- شهوة أم بيان للرسالة:
ولا أدري كيف يُفَسَّر قوله - صلى الله عليه وآله سلم- لعائشة: «أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثُمَّ تاب، تاب الله عليه». (2)
كيف يفسر هذا على أنه شهوة أو نتاج شهوة ؟!
أكان الحق أن يغلق أمامها باب الرحمة الإلهية، وقد بعث بقبول توبة التائبين؟ أم يرميها بالتهمة كما يفعل الناس دون مراعاة لعِشْرَة أو حتى انتظار لدليل؟ أم أن واجبه أن يبين لها كما بين لغيرها ماذا يصنع إزاء المحنة؟
3-شهوة أم عاطفة سامية راقية :
وإن تعجب فاعجب لتفسير ما بدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاء زوجه الطاهرة بأنه شهوة جسد، وماذا كان عند عائشة ولم يكن عند غيرها من نساء المدينة يميزها عن غيرها اللهم إلا حبه لها وعاطفته نحوها، أما كان في وسعه لو أنه - أمر شهوة – إذ أشار عليه على بن أبي طالب أن يستبدلها بغيرها فالنساء -كما قال - غيرها كثير؟ أما كان في وسعه أن يفارقها وينكح غيرها من الأبكار اللاتي يملأن المدينة؟ هل هذا مرده إلى ما زعم من الشهوة أم هي عاطفة الزوج النبيل الذي لم يشأ أن يتخلى عن زوجه وقت محنة ليس على ما ادعوا عليها فيها من دليل؟
الهوامش:
--------------
(1) صحيح البخاري (14/31)
(2) صحيح البخاري (14/31)
|