كر علماؤنا فى توجيه هذا " التذكير " الحاصل بحذف علامة التأنيث من الخبر ، عدة وجوه ، لا نريد أن نطيل بذكرها كلها ، لذلك نكتفى بما يرد كيد هؤلاء الطاعنين فى نحورهم .
بعضهم يجعل " رحمة الله " فى معنى الغفران [ أو الرضوان ] فلذلك جاء الخبر " قريب " مذكراً .
وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج (2) .
* ومنهم من جعل " قريب " صفة لخبر محذوف مذكر تقديره : شىء أو أمر قريب ، ودليل هذا الحذف هو تذكير " قريب " .
* ومنهم من جعله من باب النسب ، أى ذات قرب ، كقولهم فى حائض : ذات حيض .
* ومنهم من جعل " قريب " مصدراً مستعملاً استعمال الأسماء مثل النقيق ، وهو صوت الضفادع . والضغيب وهو صوت الأرنب . والمصدر يُلتزم فيه الإفراد وإن جرى على جمع ، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما فى هذه الآية الكريمة .
* ويرى آخرون أن تأنيث " رحمة " لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز فى الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته ، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء . سواء كان فى ضرورة الشعر ، أو فى النثر .
وقال الحلبى تلميذ أبى حيان ، وهما من الأئمة الأعلام فى النحو :
" وهذا يجىء على مذهب ابن كيسان ، فإنه لا يقصر ذلك على ضرورة الشعر ، بل يجيزه فى السعة " (3) .
وقال الفراء : " قريبة وبعيدة إما أن يراد بهما قرابة النسب أو عدمها فيؤنثها العرب ليس إلا ، كقولهم : فلانة قريبة منى أى فى النسب وبعيدة منى أى فى النسب . أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان ، فتقول :
فلانة قريبة وقريب ، وبعيدة وبعيد ، والتقدير هى فى مكان قريب وبعيد . قال الشاعر :
عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد " (4)
يعنى أن الشاعر جمع بين الوجهين التأنيث والتذكير والموصوف مؤنث ؛ لأن " قريب " و " بعيد " أريد بهما القرب فى المكان والبعد فيه .
والآية الكريمة ليس القرب المذكور فيها مراداً به قرب النسب فيلزم تأنيثه ، وإنما المراد قرب الزمان ، والعرب تجيز فيه الوجهين : التأنيث والتذكير .
ولامرئ القيس ، وهو من شعراء الجاهلية ، وشعرهم حُجة فى إثبات اللغة ، بيت نحا فيه هذا المنحى ؛ فقال :
له الويل إن أمسى ولا أم سالم
قريب ، ولا البسباسة ابنته يُشكرا (5)
والشاهد فى البيت تذكير " قريب " مع جريانه على مؤنث " أم سالم " وهو نظير " قريب " فى الآية الكريمة .
والخلاصة :
رأينا فى الرد على هذه الشبهة أن القرآن الكريم لم يخرج عن سنن البيان العربى حين ذكَّر " قريب " فى الآية ، وهى مجراة على مؤنث مجازى غير حقيقى " رحمة الله " .
وكان أصح وأثبت ما ذكرناه فى الرد على خصوم القرآن ، هو ما قاله الفراء رحمه الله ، من أن العرب كانوا يفرقون بين القرب والبعد من النسب وبين القرب والبعد فى المكان والزمان :
فالأول : يلتزم فيه تأنيث ما جرى خبراً أو صفة لمؤنث .
أما الثانى : وهو القرب والبعد فى المكان والزمان فإنهم يجيزون فيه الوجهين : التأنيث والتذكير ، وقد ذكر - رحمه الله - بعض الشواهد الشعرية لشعراء هم حُجة فى إثبات اللغة ، وطرائق استعمالاتها . وبهذا تظهر براءة القرآن الناصعة مما حاول خصومه إلصاقه به من خطأ .
الهوامش:
---------------------
(1) الأعراف : 56 .
(2) وعلى هذا يكون التذكير قرينة على صحة حمل " رحمة الله " على غفران الله ، أو رضوانه . انظر : معانى القرآن للزجاح (2 / 380 ) .
(3) يعنى فى النثر دون اشتراط ضرورة تدعو إليه. انظر : الدر المصون (5 / 345 ) .
(4) معانى القرآن (2 / 382 ) والبيت لعروة بن حزام . وقد أورده للغرض نفسه أبو حيان فى البحر ( 4 / 313 ) .
(5) الدر المصون . الشاهد رقم ( 562 ) .
|