بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:52:36 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1071 0


    العناية الإلهية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : راكوتسي | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    قصة العناية الإلهية

    ذهبت وصديقي يان إلى إحدى المدن الرومانية الصغيرة لحضور عيد إقليمي يُقام فيها. فدخلنا مقاهي عدة، إلا أنني لا أدري لما لفت نظري شاب خلاسي، قاتم الملامح قاسيها، يشطب وجهه جرح عميق وطويل، فقال لي يان:
    ـ لقد استرعى انتباهك هذا الشاب، أليس كذلك؟ أترغب في سماع قصته؟
    فقلت له:
    ـ بالطبع ... إنك تقرأ أفكاري، فأنا أتوق إلى سماع خبره.
    ـ خبر الجرح ...
    ـ إنه ضربة سيف، ولا ريب!
    ـ كلا، إنه ناشئ عن لعنة.
    وخرجنا إلى الحديقة، وانتحينا ركناً منها، وجعل يان يسرد عليّ القصة التي أسوقها في ما يلي، قال:
    ((في العام 1847م كان النمساويون والرومانيون المتحالفون يحاصرون مدينة مجرية تدافع عنها حامية صغيرة، يعاونها في مهمتها الشاقة سكان المدينة الشجعان. وقد حملت هذه المقاومة العنيدة قائد المحاصرين على إصدار أوامره إلى جنوده بوجوب إطلاق النار على مَن يقع أسيراً من هؤلاء السكان. فلما انتهى الحصار بفوز النمساويين وحلفائهم الرومانيين وسقوط المدينة، لم يشأ القائد النمساوي تعديل أوامره السابقة، فأعدم كل مجري مقاوم في المكان نفسه الذي ألقي فيه القبض عليه.
    ومن أحد المنازل الحقيرة، وهو آخر منزل استسلم أصحابه إلى الفاتحين، خرج نفر من الرجال بينهم مزارع شاب ومعه طفله الذي لا يتجاوز الرابعة من عمره، خرجوا ليدفعوا حياتهم ثمناً للحرية التي تعشقوها. فدفعهم الجنود المتعطشون إلى الدماء دفعاً شديداً لا هوادة فيه أمام أحد الجدران، واصطفوا هم قبالتهم تمهيداً لإطلاق رصاصهم على صدور المساكين. سوى أن الضابط لمح وجه الصبي الجميل الضارب إلى الحمرة، وأعجبه منه عيناه اللتان تشعان بالذكاء والعزيمة الصادقة والشجاعة الخارقة التي يتحلى بها هذا الشعب، فاستدار نحو الجنود المتحفزين إلى الضغط على زناد بنادقهم وسألهم: (هل كان هذا الصبي يحارب مع الجماعة؟) فأجاب الجنود بالإيجاب.
    حدق الضابط النمساوي برهة بالصبي الوديع الذي كان ممسكاً بيد أبيه دون أن يدري ما يجري حوله من مآسٍ، ودون أن يعلم أي مصير ينتظره، فأخذته شفقة عليه. وأيقن الأب للحال ما يعتمل في نفس الضابط فشجّعه هذا الموقف على محاولة إنقاذ وحيده، وما عتّم أن بادره بقوله:
    ـ أنا واثق من أنك طيب القلب، يا سيدي، فهلا تكرمت عليّ بأمنية أخيرة قبل أن ألقى وجه ربي؟
    فقال له الضابط:
    ـ ليكن ما تريد ... تكلم!
    ـ اسمح لي أن أرسل بعض المال إلى زوجتي، فهي لا تبعد عنا كثيراً ...
    وفي تلك اللحظة وصل القائد يحيط به بعض الضباط ورجل في الثياب المدنية، بدين، قبيح المنظر. كان هذا الرجل رئيس البلدية الروماني الجديد، الذي عينته سلطات الاحتلال. واغتنم الأب الفرصة ليعرض مطلبه على القائد. فسأله هذا الأخير:
    ـ ومع مَن تنوي إرسال المال؟
    ـ مع ابني هذا!
    ـ وإذا لم يعد؟
    فهبّ الصغير وأجاب بعزم أكيد اقتنع معه القائد:
    ـ سأعود، يا سيدي.
    ـ حسناً، حسناً.
    والتفت إلى الوالد قائلاً:
    ـ أعطهِ النقود!
    فلما تسلم الصغير النقود قال له القائد:
    ـ إياك أن تبطئ. أفهمت؟
    وهرول الصغير مسرعاً، تتبعه عيون الضباط وقد رقّت قلوبهم لهذا المنظر. أما رئيس البلدية فكان يبدو مضطرباً وعاجزاً عن إخفاء خيبة أمله. ولم يشأ الضباط انتظار عودة الصغير في الشارع، فدخلوا أقرب حانة تاركين الجنود ورئيس البلدية في الخارج. وخشي هذا الأخير أن يطلق القائد سراح المزارع الأب شفقة منه على وحيده، وأيقن أن أوامره ممكنة التنفيذ في هذه الآونة، فأصدر الأمر إلى الجنود بإطلاق النيران على الأسرى. وانطلقت الرصاصات على الأثر مخترقة صدور المجريين المساكين.
    والتفت أحدهم إلى رئيس البلدية يلومه على سماحه للصغير بالذهاب قائلاً إنه لن يعود. ولكنه ما كاد ينهي كلامه حتى صاح جندي آخر صيحة ملئها الدهشة والاستغراب، داعياً رفاقه إلى التطلع في الوجهة التي يشير إليها ببنانه قائلاً:
    ـ غير ممكن ... ولكنه الصغير. إنه آتٍ. لقد وصل!
    وجحظت عينا رئيس البلدية، وقدحتا شرراً، وارتعدت فرائصه.
    كان الصغير يعدو مسرعاً صوب المكان الذي غار فيه والده. وكان شاحب اللون منهوكاً، يتصبب جبينه ووجهه عرقاً، وتلتصق شعراته بصدغيه الرطبين. وشق له طريقاً بين جماعة السفّاحين، فلم يرَ والده، فتقدّم إلى حيث تركه ... وشاهد المنظر المرعب!
    وانفجر باكياً بكاء مرّاً يفتت الأكباد، مردداً:
    ـ أبي لِمَ لم تنتظرني لنموت معاً؟ لِمَ لم تصبر قليلاً؟
    وألقى بنفسه على جثة والده المسكين الغارقة في الدماء، يحيطها بذراعيه، كما لو كان يريد أن يبعث فيها الحياة.
    وفقد رئيس البلدية تجاه هذا المشهد توازنه واربدّ لونه. كان سهلاً معرفة النزاع الذي نشب في أعماق نفسه: فهو موزع بين الغيظ الشديد لرؤية خططه تنقلب رأساً على عقب، وبين عاطفة الشفقة التي بدا في تلك اللحظة انه سيستسلم إليها. سوى أن الوحشية تغلبت على التعقل، فاستوى في مكانه وصاح بجنوده:
    ـ اطلقوا عليه النار!
    وانطلت عشرون رصاصة مجرمة تمزّق صدر الصبي الذي ذهب يلقى أباه في ديار الأبدية.
    وما هي إلا لحظات حتى خرج الضباط من الحانة حيث عبّوا من الشراب ما تعتعهم وأنساهم ما فيه، والأحداث المؤلمة التي تنتظرهم. ولكن القائد ما لبث أن ثاب إلى رشده ساعة لفحه الهواء الطلق المنعش، فتذكر ما كان من أمر الصغير الذي أرسل ليحمل بعض النقود إلى والدته. فتقدم من رئيس البلدية وسأله:
    ـ هل عاد الصغير؟
    فأجاب رئيس البلدية بصوتٍ جاف:
    ـ أجل.
    ـ هل عاد حقاً؟ ماذا تقول؟ وماذا فعلتم به؟
    ـ لقد أمرت باطلاق النيران عليه تنفيذاً لمشيئتك!
    فتراجع القائد إلى الوراء كمن لدغه ثعبان، وصاح بصوتٍ يشوبه الاضطراب والانفعال:
    وهل فعلت ذلك؟ طفل ابن أربع سنوات؟ كيف تدهورت إلى هذا الدرك من النذالة والحقارة؟
    وتناولت خيزرانته، وأهوى بها على وجه رئيس البلدية الروماني المشؤوم. فأصابه بجرحٍ بليغ، لا يندمل)).
    * * *
    قلت ليان:
    ـ وهكذا فإن الشاب الماثل أمامنا ليس إلا رئيس البلدية الذي حدثتني عنه وعن الجريمة الشنعاء التي ارتكبها؟
    فأجاب:
    ـ كلا، وهل تظن أنه ما يزال شاباً؟
    ـ إذاً؟ أنا لا أفهم!
    ـ إنه ابن رئيس البلدية.
    ـ وكيف يحمل هو كذلك آثار الجرح الذي أصاب والده؟
    فقال صاحبي بصوتٍ متهدج:
    ـ إنها العناية الإلهية، فقد وسمته بهذا الأثر البشع. والمعقول أن دم الشهيد الصغير يترك أثره في وجود أحفاد هذا الروماني النذل. إنها لعنة ستنزل بذريته. هذا، ونساء القرية لا يقبلن الزواج منه لخوفهن من أن يحمل الأطفال الذين يولدون من هذا الزوج وصمة العار على وجوههم!

    كلمات مفتاحية  :
    قصة العناية الإلهية

    تعليقات الزوار ()