بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:39:41 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1256 0


    الحكواتي و المغني

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : هزوان الوز | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    المقهى صاخب يعج بالحركة، ماسحو الأحذية ومعهم صناديقهم، باعة الكعك والجوارب والمتفرقات ومعهم سلال أو أكياس مدلاة من الكتف، يمدحون بضاعتهم بأصوات منغمة، ويجهد كل منهم أن يعلو صوته على أصوات الآخرين، بينما الرواد جالسون إلى طاولات مستديرة رصت بإزدحام ولا يكفون عن الصخب، ويناور النادل بمهارة بين الطاولات رافعاً الصينية إلى أعلى، ومرتدياً سترة قصيرة كانت في زمن ما بيضاء، وهو يبلغ الطلبات بصوت عال إلى المطبخ على الماشي، وأصوات أحجار الضامة تدوي عالياً، وحول اللاعبين يجتمع هواة الفرجة والألفاظ اللاذعة والمراهنة على هذا اللاعب أو ذاك، والتعليقات الحماسية والحدة والشجار، وكان مشجعو لاعبي النرد يتسمرون لحظة قبل إلقاء الزهر، وينقطع الضحك والجدال الحاد، وعلى الفور يتفجر الصمت الواهي بصيحات الاعجاب الصاخبة واللعنات والسباب، وأصوات باعة الصحف الرنانة تقتحم هذا الهرج والضجيج.‏

     

    لم يكن من رواد المقهى، وما دفعه لارتياده في هذا اليوم الخبر الذي نقله الأصدقاء عن حضور الحكواتي بعد غياب دام سنوات طويلة ليروي حكاياته الجديدة، ولم يبق على حضوره إلا دقائق معدودات.‏

     

    ساعد حسن الذي فقد قدمه اليسرى في الجلوس على الكرسي، بينما نزع صديقه نبيل بعد أن أخذ مكانه نظارته السوداء التي يخفي بها عينه اليمنى الزجاجية، وقعت عيناه على عبارة كتبت على الجدار: (مقهى الحرية يرحب بزبائنه الكرام).‏

     

    ابتسم، مما أثار خوف حسن ودهشته، فبعد الانفجار الهائل الذي حل في أحد مستودعات الذخيرة والذي كان مكلفاً بحراسته أصابه ارتجاج في الدماغ، ومنذ ذلك الوقت تنتابه بين فترة وأخرى نوبات هيستيرية.‏

     

    سأله حسن: هل أنت على ما يرام؟‏

     

    قال: نعم.. نعم.. ولكن مايثير استغرابي أن صاحب المقهى إلى الآن مازال مصراً على عدم تبديل اسم المقهى.‏

     

    سأله نبيل وهو زبون دائم لهذا المقهى: وماذا تريد أن يسميه ؟‏

     

    أجاب حسن بانفعال: مقهى المقموعين.. مقهى المهزومين.. أومقهى المعاقين.. أنظر إلى زبائن المقهى.. ذاك فقد احدى ذراعيه.. وآخر احدى ساقيه، وثالث حفرت الشظايا في جسده خنادق..‏

     

    قال نبيل: أنا لا أوافقك.. نحن شخصياً لم نهزم.. قدمنا كل ما نستطيع.. حاربنا حتى الرمق الأخير.. ولم يرفع أحد منا راية بيضاء.‏

     

    قال حسن: المهم أن عروضنا الآن انتهت بعد أن دفعنا الثمن باهظاً، والجميع نسينا، والدم الذي سفحناه صار سيارات آخر موديل وسكرتيرات أنيقات مغناجات مطلوب منهن أن يتحرين كل خمس دقائق ليراقبن تسريحاتهن الحديثة.‏

     

    وصل الحكواتي، هدأ الضجيج، لاعبو النرد والضامة توقفوا عن اللعب بأمر من صاحب المقهى، النادل طرد الباعة المتجولين، أخذ الحكواتي مكانه في صدر المقهى، رمى السلام على الحضور وبدأ الحكاية:‏

     

    ( كان يا ما كان.. ياسادة.. يا كرام.. كان الميدان فسيحاً، تجوس السكينة في أرجائه المترامية، والشمس الوهاجة تهيمن وتسقط عليه أسلاكاً من الحرارة والضوء.. فتطهره وتنيره، ونبات العليق والحشائش النضرة تطرز حواشيه، وتسبغ عليه منظراً خلاباً حالماً، وفي أقصى اليسار يجري الماء صافياً زلالاً في بحيرة مستطيلة، تلونه أشعة الشمس المتدفقة من أعلى، ياله من منظر رائع.‏

     

    من أحد جوانب الميدان ظهرت مجموعة من الشبان وقد زود كل منهم بدلو، يتحركون بخفة خرافية بين البحيرة وأرض الميدان القائظة الظمأى، يغمسون الدلو في البحيرة، يسحبونه ملآن، ويبدؤون في رش الميدان، ولم تمض لحظات على انتهاء عمل المجموعة الأولى حتىظهرت مجموعة أخرى من الشبان محملة بالكراسي، ماأن وصلت إلى منتصف الجهة الشرقية من الميدان حتى بدأت بصف الكراسي المريحة، المحشوة بالريش والديباج، ومغلفة بأقمشة الحرير والطيلسان، ومحلاة بالعقيق، ووضعت أمام صف الكراسي طاولة صغيرة، مصنوعة من خشب البلوط، ومزينة بالفسيفساء في نسق هندسي بديع ووضع عليها ابريق من البلور، يشي بلمعان متماوج آخاذ، وبداخله ماء سائغ، وحوله انتثرت طاسات من الكهرمان المزخرف، وأمام الطاولة فرشت السجادات العجمية.‏

     

    وبعد خمس ساعات من الانتظار أقبل شيخ المدينة إلى مكان العرض بخطوات وقورة متزنة، تشع من وجهه هالة من النور والنقاء، وتتدلى منه لحية كثة بيضاء، اقتعد الكرسي المبهرج خلف الطاولة المزركشة، أشاح بيده في الهواء، فاندفع في الميدان فرسان أشاوس زمراً متلاحمين، وعلى رؤوسهم الخوذ الفولاذية، وفي وجوههم جهامة الموت وشراسته، بعضهم يلوحون بالسيوف المهندة البتارة، وآخرون يشرعون رماحهم السمهرية البراقة إلى عنان المساء، وبعضها تتسقى سماً زعافاً، وبعضها تتصقل من حرارة الشمس وتتجلمد، وفي أيديهم الأخرى تلتمع الأدراق العتيقة الواقية، يتمنطقون بالزرود، ويتسربلون بالدروع، تختال بهم جياد عربية ضوامر، بسروج منمقة وثيرة، تدك الأرض بسنابكها القوية.. فتحفر أديمها، يزفرون العنف ويشهقون الدمار أثناء الصهيل المدوي، يخترقون الميدان في كر متأهب.. واقتحام بربري، ويختفون في الطرف الآخر، مخلفين الغبار وحوافر الخيل تطأ الثرى، وتثير العجاج في الميدان المهتوك.. حتى بات مترباً.بعد أن تحول إلى حومة وغى وقد نضبت مياه البحيرة، وديست الحشائش فذبلت واعتلى الغبار النمارق، وتحولت السجادات المفروشة إلى متاع مهترىء قديم في زاوية معتمة للقمامة، وقد تلاشى الشيخ مع حبات الغبار المثارة).‏

     

    صمت الحكواتي ليدلق في جوفه قليلاً من الماء، ثم عاد يكمل الحكاية:‏

     

    ( وفي المساء يا سادة.. يا كرام، استدعى شيخ المدينة إلى قصره حكيماً، ولما دخل عليه قال: مولاي شيخ المدينة، دعوتك قطعت عليَّ وحدة كنت أنشدها، وأقلقت راحة كنت أبغيها.‏

     

    - هذا خير أيها الحكيم من أن أكون في وحدتي المتوحشة، وقلقي المفترس.‏

     

    - عجباً.. وهذه المهرجانات والعروض اليومية.. ثم تشكو من الوحدة والقلق.‏

     

    - نعم.. لا تعجب لهذا، فهذه المهرجانات والعروض تقام بأوامري.. محاولاً من خلالها ادخال السكينة إلى نفسي.‏

     

    - إني لا أفهم شيئاً يا مولاي.‏

     

    تنهد شيخ المدينة بشدة تدل على همٍّ عظيم، ثم قال: الناس تكرهني، الجميع يدبرون حولي ما أخشاه، الكل يريد طعني من الخلف، حتى أنني ألمح في أصدقائي التذمر، وفي جنودي روح التمرد، فماذا أفعل؟‏

     

    قال الحكيم: هه.. تسألني ماذا تفعل؟ ألم تفكر بهذا عندما كنت تعدم المئات لأنهم رفضوا الاشتراك بحروبك الهيستيرية، لماذا لم تفكر بالأمر عندما ملأت سجونك بأناس لم يخلقوا لها، فما أمرك يا مولاي؟ تودع الأشراف خلف القضبان، وتطلق الذئاب في بلاطك حتى صرت طاغية، لكن اعلم.. رغم عرشك.. فإنك لست الأقوى في هذا المكان، وأن صراعاً سينشب في هذا القصر عما قريب وربما لن تجد أحداً يقف إلى جانبك.‏

     

    ارتعش شيخ المدينة كمن أصابته حمى، وسأل: لكن ماهي الوسيلة كي أنهي هذا الصراع لصالحي؟‏

     

    ابتسم الحكيم، وقال: دائماً تريد أن تنتصر أليس كذلك؟ إن روح الشيطان تسكنك يا مولاي واعلم أن الحقد بدأ عليك منذ اعدامك أول شاب، وحرقك أول سنبلة، وهذا الأمر كبر مع مرور الأيام حتى صار خطيراً.‏

     

    - إذن بدأ الصراع منذ زمن، وأظنك تعرف كيف سينتهي؟‏

     

    - نعم.. ولكن معرفتي لن تسرك.‏

     

    - قلها.. فلدي الشجاعة الكافية.‏

     

    صمت الحكيم قليلاً، ثم قال: مولاي.. لا أظنك ستدفع ثمن كل ذنوبك.. لأن حياتك أرخص منها مجتمعة، فالأمهات ينتظرن الفرصة لغرس أظافرهن في صدرك، ويعددن اليتامى لغرس أشواك الحقل في جسمك، والأشراف خلف القضبان يرسمون الخطط من الداخل لتفجير قصرك، والذئاب حولك تتأهب للانقضاض عليك.. وتأخذ مكانك.‏

     

    سأل شيخ المدينة: كل هؤلاء يعدون لي العدة.. حتى أعواني وأصدقائي؟‏

     

    أجاب الحكيم: ما كان للظالم يوماً أحد يحبه أو يخلص له.. ومن يخشاه يبتسم له.‏

     

    بدا الشيخ حزيناً منهاراً، فقال الحكيم مستهزئاً: إن حزنك لمزيف يا مولاي، كيف تحزن على أمرٍ فقدته، ولم تبذل جهداً للحفاظ عليه، سأنصرف الآن وأعود وحيداً إلى مكاني البعيد، عليك أن تنتظر الموت، سيأتيك اما من الأمام أو من الخلف، فهذا أقل ما تستحق إزاء أفعالك.‏

     

    وبينما كان الحكيم منصرفاً، قال له شيخ المدينة: ما الذي يمنعني من ذبحك كالشاة أيها العجوز الأحمق؟‏

     

    وقف الحكيم، ثم التفت برأسه فقط وأجاب: هذا يسعدني حقاً.. لأني لا أحب أن أشهد انكسارك ونهايتك، هذا الأمر يثير الشفقة في نفسي، ولكن اعلم أن نهاية المعركة بينك وبين خصومك هي واحدة مؤكدة.. بموتي أم لا، وبقائي حياً لن يغير من الأمر شيئاً.‏

     

    وخرج الحكيم من القاعة الملكية تاركاً شيخ المدينة في خوف عظيم).‏

     

    صمت الحكواتي ثانية، دلق في جوفه كوباً من الماء، ثم قال: وإلى اللقاء مساء غد لأسمعكم بقية الحكاية.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.‏

     

    ولم يكد الحكواتي ينهي كلامه حتى انتشر في المقهى صوت غناء، سأل أصدقاءه: هل تسمعون صوت غناء؟‏

     

    - ألا تدري بهذا المجنون؟‏

     

    - كلا.. لا أعرف أمره.‏

     

    - أوه.. إنه مجنوننا اليومي، يأتي كل يوم إلى هذا المقهى، ويزعق من الصباح حتى المساء، لقد أصبح هذا روتيناً بالنسبة لزبائن المقهى، فإذا لم يشاهدوه أو يسمعوه.. يبدو أن المكان ينقصه شيء ما.‏

     

    جذبه ذلك الصوت الجنائزي وهو يتماوج بين النغمات الشرقية الحزينة الطويلة، لكأن موجة هائلة من الدموع طاردت زورقه الصغير ثم قلبته وابتلعته، ثمة أنات غامضة تتطاير بين الحين والآخر فتكسب الغناء نسقاً جميلاً، لكن كلمات الأغاني غير مفهومة.. فالمهم أنه لا يعلم بالآخرين، وهذا على ما يبدو قد حقق للمؤدي شعوراً عالياً بالأمان والسيطرة على زمام اللحن، حيث لا رقيب، فهوالمغني وهو الجمهور.‏

     

    ***‏

     

    حضر في اليوم التالي كي يسمع بقية الحكاية، المقهى صاخب يعج بالحركة كما في الأمس، ولكن ما فاجأه تأخر الحكواتي وغياب المغني، سأل النادل:‏

     

    - ألن يحضر الحكواتي؟‏

     

    - خطف عند منتصف الليل من منزله.‏

     

    - وأين المغني؟‏

     

    - أي مغن؟!‏

     

    - مجنونكم اليومي!!‏

     

    -في طريقه إلى المقهى اصطاده قناص ماهر.‏

     

    وكان النادل يتحدث إليه وكأن أشياء عادية أو تافهة قد حدثت.‏

    خرج من المقهى، نظر نحو السماء.. يسألها المطر

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()