صاح أبو لافي على زوجته محاولاً حثها على إحضار الشاي قائلاً بصوت مدوٍ كالرعد:
ـ أي هاتي الشاي يا أم لافي عاد، هو الشاي ما خلص؟ والله لو إنها طبخة فوارغ لكانت صارت خالصة.
وضحك الجميع بينما كانت (أم لافي) ترد فزعة من وراء باب المطبخ قائلة بصوت حنون:
ـ يا الله يا أبو لافي، الشاي جاهز لكن اللي أخرني إنه رحت أجيب كاز من الدكان والبابوركان فاضي.
وقال أبو لافي ممتعضاً ومتهكماً:
ـ فاضي؟! والله عقلك اللي فاضي.
ولم يهدأ الجميع عن الضحك حتى بدأوا يشربون الشاي فعلاً ويغيرون مجرى الحديث.
* * *
قال (أبو الوليد) مطقطقاً بحياتٍ المسبحة التي بيده وهو ما زال ينظر لأبي يعقوب الذي كان منهمكاً بتعبئة غليونه من (علبة التتن الحديدية):
ـ يعني يا شيخ حسن هو الدخان حرام زي ما بتقول؟ وإذا كان حرام ليش في مشايخ بتشربه؟ أنا شخصياً بعيني هذه اللي بكرة رايح يأكلها الدود شفت الشيخ اسماعيل الجمل إمام مسجد أريحا بيدخن، يعني صحيح أنه جاهل؟ ورد (الشيخ حسن) قائلاً بحزم وذقنه الطويلة حتى أول صدره تهتز بعنف:
ـ أولاً يا أخ أبو الوليد الدخان حرام لأسباب كثيرة رغم عدم ورود نص شرعي فيه، لكن معظم العلماء فضلوا القول فيه بأنه مكروه، ثانياً حتى لو كان أي مسلم سواء كان عالماً أم غير ذلك تناول سيجارة ودخنها فهو بالطبع ليس مقياس لنا، الرسول وأصحابه هم قدوتنا وهم لم يدخنوا لأسباب نعرفها جميعاً.
وقال أبو الوليد محاولاً الرد على الشيخ:
ـ لكن كراهة الدخان مش معناه التحريم؟ والعلماء بيقولوا إنه مكروه وأنت بتقول طبعاً حرام، يعني إنت أفهم من العلماء يا شيخ حسن؟
ورد الشيخ حسن وقد بدأ يتضايق من النقاش:
ـ في السعودية مثلاً الشيخ بن باز وهو عالم كبير حرَّم شرب الدخان بفتوى رسمية. وقال أبو الوليد وهو يبتسم وينظر لمن حوله:
ـ لكن ملك السعودية بيدخن، أنا شفته بيدخن، يعني صحيح أنه جاهل؟
وقال الشيخ حسن وهو ينسحب من الحديث:
ـ إنت يا أبو الوليد بدك بس تجادل. يعني الدخان ما بيجيب الضرر؟ أنا شخصياً حرمته على نفسي، أما أنت فسواء دخنت أم لا فما دخلني فيك، أنا علي النصيحة بس.
وقال أبو الوليد بسرعة محاولاً تهدئة الموقف بشيء من المزاح:
ـ يا عمي خلي الدكاكين تبطل تبيع دخان وأبو يعقوب من الصبح رايح يبطل.. وضحك الجميع بينما قال (أبو يعقوب) معقباً:
ـ إذاً وحياة شواربك ما عمرنا بنبطل شربه، قال يبطلوا يبيعوه قال: أما رأي صحيح؟
* * *
عقّب أبو لافي على كلام عبد اللطيف المطلق للشيخ حسن بعد آذان العصر حول حتمية الصلاة في المسجد وأفضليتها عن غيرها قائلاً بنوع من التثاقل، فقال الشيخ جازماً:
ـ في الجامع أفضل، والنبي (ص) نهى عن الصلاة في البيوت والمساجد موجودة، والجامع ليش موجود؟ مش للصلاة. ورد (عبد اللطيف المطلق) بشيء من الجفاء قائلاً:
ـ لأمش للصلاة بس، الجامع للصلاة ولغير الصلاة، لكن الحق مش على الجامع، الحق على المسلمين اللي قصروا في حق المسجد هالأيام، زمان كان المسجد إذاعة وقيادة ومدرسة، معقول تعود أيام زمان؟
ورد أبو لافي بشيء من الشدة:
ـ أنا يا عمي قررت من زمان أن لا أصلي في الجامع إلا يوم الجمعة ويوم العيد بس، لكن إذا صار في جهاد حقيقي فأنا مستعد للصلاة كل وقت وزيادة.
وقال الشيخ حسن حاسماً الموقف:
ـ أنا رايح للمسجد واللي ناوي يكسب حسنات أكثر يلحقني.
وقال أبو لافي بصوت منخفض وكأنه يحدث نفسه بينما كان الشيخ حسن يخرج:
ـ أي لو أنك حريص على الحسنات الكبار هيك؟ بس الواحد منكم شاطر يقول لليهودي على الحاجز يا خواجة، أما يطخه ويكسب فيه حسنة لا، والله ما خرّب أفكار الناس إلا إنتوا!!
وقال أبو يعقوب موجهاً كلامه لأبي لافي وقد أدرك قصده وهو يبتسم:
ـ شو يتبرطم بقول؟ بتستغيب في الشيخ؟ عليّ ما علي إلا أقله.
وقال أبو لافي متهكماً:
ـ بالله؟
* * *
الداخل لمنزل راشد جرادات لا يستطيع الجلوس، نظراً لامتلائه بالحاضرين القادمين للسلام على ابنه فاروق العائد بالشهادة الجامعية من الاتحاد السوفييتي منهياً دراسة الهندسة المدنية، ومن بعيد تستطيع تمييز الشيخ خالد البدري إمام المسجد وهو يجلس مبتسماً إلى يمين الحاج أبو الوفا عم فاروق، أما الجميع فكانوا يتحاورون بهدوء إلى أن رفع الشيخ حسن صوته وهو يوجه كلامه للمهندس الجديد فاروق:
ـ ها يا أستاذ فاروق، شو أخبار هالملحدين في روسيا؟ بعدهم ناويين يظلوا على عنادهم وكفرهم بعد ما الشيوعية فرطت؟ الله يفنيهم ويديم عينا نعمة الاسلام.
ورد المهندس فاروق بشيء من الجدية وشيء من الغيظ
ـ ومين قال أن الشيوعية انهارت، الشيوعية بتجدد نفسها، ثم إنه ليش انتو زعلانين من الشيوعية؟ سلاح العرب كله شيوعي، وسلاح المسلمين في أفغانستان شيوعي.
وقال الشيخ حسن ضاحكاً:
ـ بتقصد السلاح اللي انكسرنا فيه سنة 67 وإلا اللي تلوعت فيه العراق سنة الواحد وتسعين؟!
ورد فاروق بشيء من القسوة:
ـ أعتقد إنه الحق مش على السلاح، الحق على حامله يا شيخ حسن، صحيح إنها سياسة الروس تغيرت تجاه العرب، بس العرب كمان تغيروا ضد الروس في الأول، ناسي يا شيخ حسن اللي صار في مصر بعد جمال عبد الناصر؟!
وقال الشيخ حسن متهكماً:
ـ يظهر يا فاروق إنك جاي من هناك شيوعي محط؟! يا أخ فاروق، أنا بأقول سيبك من الشيوعية ومن بلاويها، الواحد منهم ما بيعرف أمه من أخته من عشيقته، اللهم عافينا يا رب، الشيوعية يا فاروق فكر هدّام، يعني بتميز فيه واحد عن واحد وبتخلي الأخ يقتل أخوه لأنه أغنى منه، أي هذا اللي رايح يحل قضايا الأمة؟ وقال (أبو الأمين) الذي كان عضواً سابقاً في الحزب الشيوعي الفلسطيني بشيء من الألم:
ـ يا شيخ حسن مش ربنا اللي قال كل حزب لديهم فرحون، يعني جنابك مسطرة الاسلام؟ يا سيدي حقق لنا شوية وحدة وشوية حرية وشوية عدالة وقول حيّ على الجهاد، من الصبح كل الكفار بيصيروا مؤمنين، بتقدر تقول على سماعة الجامع حي على الجهاد؟ إحكي، جاوب.
لكن الشيخ حسن لم يجاوب أبداً بل قال لراشد جرادات:
ـ وين طريق الحمام يا أبو فاروق؟ بدي أجدد وضوئي علشان ألحق أصلي قيام الليل!
* * *
الشيخ خالد البدري كان ما زال متضايقاً من تدخلات الشيخ حسن في أمور لا طائلة من ورائها، وكم كان ينتظر الفرصة (لِيَفشْ خُلقُهْ) بالشيخ حسن كما صرح بذلك في كثير من المناسبات، وكانت الفرصة مواتية، عندما استفز أبو الوليد الشيخ حسن بسؤاله أمام الحضور في دار عبد المحسن درويش الذي كان يستعد لتزويج ابنه خليل قائلاً:
ـ ليش دايماً يا شيخ حسن بتظل تقول الدخان شربه حرام والجهاد كمان حرام هالأيام؟ عجيب أمركم يا مشايخ هالزمن والله!
فثار الشيخ حسن قائلاً:
ـ أنا لم أحرّم الجهاد أبداً، أنا بأقول الوقت للجهاد مش مؤات، كيف بدنا نجاهد واحنا مش ملتزمين بالمساجد والسنن وحتى الفرائض، المفروض نجاهد وعقيدتنا متينة، ماذا سنقول لله إذا قابلناه؟
وقال أبو الوليد بشيء من التهكم:
ـ يعني الخروج تبعكم والنوم في الجوامع والتطفل على خلق الله والاستمتاع بالطبايخ هو اللي ربنا بيرضى عنه؟ السياحة صارت خروج في سبيل الله يا شيخ حسن؟ شو رأيك يا شيخ خالد؟
وقال الشيخ خالد حاسماً:
ـ أنا اللي بأعرفه إنه الخروج في سبيل الله لأمرين فقط: إما جهاد وإما دعوة الكفار لاعتناق الاسلام.
وهنا ثارت ثائرة أبو الوليد فصرخ في وجه الشيخ حسن قائلاً:
ـ يعني إحنا كفار يا شيخ حسن لحتى تظل تقلنا صلوا صلوا؟ ما تروح على الكفار الحقيقيين تقلهم صلوا؟ هاي عندك مستعمرات اليهود مليانة، ليش ما تروح تقلهم صلوا؟
وقال الشيخ حسن مدافعاً عن نفسه وقد أحس بالمأزق:
ـ دعوتي إلك يا أبو الوليد للصلاة في المسجد تصحيح لإيمانك.
وقال أبو الوليد مغتاظاً:
ـ يعني هو أنا أعوج يا شيخ بلوط، والله انتو أساس العَوَج، لو فيكم خير لحملتوا سلاح وحاربتو اليهود والا لأ يا شيخ خالد؟
فقال الشيخ خالد محاولاً التخفيف على الجميع:
ـ الجهاد عايز أمة سليمة وعقيدة سليمة وعزيمة سليمة، والاسلام كل متكامل.
فقال أبو الوليد مواصلاً هجومه:
ـ يعني لأي وقت بدنا نظل ننتظر الجهاد؟ لحتى تصير إسرائيل محتلة أرب العرب؟ ومتى الأمة رايحة تصلح حالها وتقيم دولة الخلافة؟ بعد كذا قرن، شوفوا يا ناس أنا مني وعليّ ما راح أرد على حدا، أنا بأعلنها للملأ يا مسلمين اتحدوا، يا فلسطينيين اتحدوا، يا عرب اتحدوا، ما بيحرر أرضنا ومقدساتنا غير الجهاد في سبيل الله، أما الحكي في غير هالموضوع هالأيام هذي فهو خيانة، نعم خيانة، خيانة لله وخيانة للاسلام وخيانة للوطن، وأنا مش مستعد أكون خاين، أو يقولوا أبو الوليد باع نفسه لهواها أو لشيطانها.
وقال الشيخ حسن بشيء من التهكم:
ـ وشو رايح تعمل أكثر من غيرك يا أبو الوليد؟
ورد أبو الوليد بشيء من التصميم وهو يغادر غاضباً:
ـ بكرة بتشوف.
* * *
خبأ الشيخ خالد البدري وجهه وراء كفيه محاولاً إخفاء دموعه التي كانت تنهال بغزارة وهو يسير أمام نعيش الشهيد أبو الوليد الذي قاتل ببندقيته القديمة جموع العدو وهم يحاولون اقتحام مسجد القرية بحثاً عن شباب الانتفاضة، لكن الشيخ خالد اضطر لأن يهتف مع حملة النعش بصوت حزين مكسور قائلاً:
يا شهيد افرح افرح
الجـنة هي المَطرَح
ولما مال المهندس فاروق على والده سائلاً عن الشيخ حسن قال أبو فاروق وكله حسرة وألم:
ـ بعده ما رجع من الباكستان، لسَّه بعده خارج في سبيل الله!!