بتـــــاريخ : 11/4/2008 7:32:35 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 567 0


    انتحار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : خالد الزييب | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    انتحار

    وقف على قمة جبل يطل مباشرة على البحر, واضعاً يديه على سياج حديدي يمنع الناس من السقوط... "اه... كم هي قاسية هذه الحياة... كل شيء فيها يحملرائحة النتن... والعفن... وطعم الجيف... ها أنا الان في الثانية والعشرين من عمري, وحتى هذه اللحظة لم أستطع أن أخط لنفسي مساراً أمشي فيه, ولا هدفاً أرغب الوصول اليه"... ثم تأمل في البحر أسفل منه, ورأى أمواجه المتلاطمة تزمجر وكأنها تناديه, أو ربما تحذره... تناديه أن تعال, وتحذره من سوء القرار الذي اتخذه...
    فتراجع قليلاً, ربنا ثلاث خطوات على الأكثر, وإذا به يرى الشمس منتصبة بشكل عمودي, تلهب أشعتها جبينه, فسقطت حبة عرق, ونزلت على استحياء الى ان توقفت عند حاجبه الايمن, فمسحها بباطن يده اليمنى مردداً...: "ما الفائدة من هذا التردد والوقوف بلا هدف... بل ما الفائدة من حياة بلا أمل؟!"... وبدا له ما قاله كاتب عن فكرة الانتحار, وأنها قرار لا يتخذه إلا الشجعان!!... قرار, وإن بدا بظاهره أنه انتهاء حياة, ولكنه في الواقع أفضل طريقة لترك هذه الحياة للجبناء!!...
    ثم تشجع... ومشى خطوة... والتقت عيناه بموجة عاتية ضربت الجبل الى منتصفه الأعلى, وابتل جسمه بشيء من بقايا الماء المالح, فارتد سريعاً الى الخلف من قوة هذه الموجة.
    وتسمر في مكانه ساخراً من نفسه...: "ماذا دهاني خفت من هذه الموجة؟!.. أخائف أنا من الموت؟َ!.. إذن لماذا اتي إليه بقدمي؟!.. لا... لا... يجب أن أكون أكثر جرأة في خوض هذه التجربة... فالموت كما يقول بعض الكتاب والمفكرين ليس إلا استمراراً للحياة, وليس فناء للحياة!!.. إذن لماذا الخوف والتردد؟!.. فقد جربت هذه الحياة... وأحسست بمرارتها... وبغربتي فيها... فلماذا لا أجرب الحياة الأخرى؟!... فلربما كانت أطعم.. وأحلى مذاقاً"...
    فتقدم ثانية... وقبض بيده على السياج, إلا أنه حين رأى الهوة التي تفصل الجبل عن البحر, أحس برهبة شديدة من هول المنظر, فصعبت عليه نفسه, ووضع كوعيه على السياج, وكفيه على خديه, متأملاً الحبر وأمواجه العاتية, والتي بدت وكأنها أحست بالملل من تردده... وكأنها تصرخ فيه...: "إما أن تأتي أو تذهب"!!, بل وكأنها غضبت منه ومن وقفته تلك فازدادت قوتها, وكأنها تريد أن تزلزل الارض زلزالاً, وتنسف الجبال نسفاً... :هل من المنطقي ان أنهي حياتي بهذه الطريقة؟!.. لست متردداً تجاه فكرة الانتحار... فأنا قررت وانتهى الموضوع, فهذه رحلة أريد إنهاءها وأنتقل الى رحلة أخرى... ولكن... أليس من الأفضل أن أنتقل بالرحلة على طائرة ركاب درجة اولى, بدلاً من الانتقال عبر حمار بين البراري والقفار؟!.. أليس من الافضل بدلاً من أن أموت بهذه الطريقة... أن أفتش عن طريقة أقل إيلاماً, وأخف تعذيباً؟!"...
    وفي أثناء تفكيره... مر سرب من طيور النورس, تهيم في فضاء الله لا حدود تقيدها, ولا قيود تفرض عليها, فالفضاء وكل ما بين الارض والسماء, مساحة شاسعة تلعب فيها كيف تشاء, وكما تريد وترغب, فتمتم بينه وبين نفسه...: "اه لو كنت طائراً مثلها, ليت يدي تتحولان فجأة إلى جناحين, فأهرب من هذه الارض الى السماء, من هذه الحياة الى عوالم أخرى... ليتني إذا مت تتحول روحي الى طير شارد, يسبح في الفضاء كما تسبح الاسماك في البحر... ليتني كنت...", ثم توقف فجأة... "لماذا ليتني... ليتني؟!... لماذا كل هذا التأخير في اتخاذ قرار كهذا؟!... إنه لا يعطل مثل هذه قرارات, إلا مثل هذا تردد"!!, ثم وبشكل سريع اتخذ قراره, ووضع يديه على مقبض السياج, ورفع قدمه اليمنى, وما إن امتطى السياج, وكأنه راكب دابة, وحين مال بجسمه, وقبل أن يسقط, مسكه أحدهم وصرخ فيه, قائلاً: ماذا تفعل يامغفل؟!...
    - ابتعد عني... "صرخ فيه بشدة".
    ولكن الرجل الاخر كان أشد منه قوة, وأعظم خلقةً, فتمكن من سحبه سريعاً, فأوقعه أرضاً, وثبته عليها بيديه, وكأنهما من ذدة قوته, وصلابة عظامه, أوتاد ركزت حبال خيمة...
    فحاول الشاب الفكاك من هذه المصيدة, إلا أن محاولاته ذهبت أدراج الرياح, فقد خارت قواه, وتعبت عظامه, وعلت نفسه, ورمى ناظريه بعيداً عن وجه قابضة, قائلاً: أرجوك... ابتعد عني.
    وبعد أن أخذ منه مواثيق غليظة بألا يتهور بعمل ما كان يريد عمله, تركه مستوضحاً عن سبب نيته للقيام بذلك... فشرح الشاب ظروفه السيئة التي تنوعت من أسباب مالية, واجتماعية, وعائلية, فبادر الرجل باستغراب, قائلاً: وهل هذا سبب يدعوك لإلقاء نفسك في البحر؟!... ألا تعلم أين ستقودك فعلتك؟!
    - "فمشى الشاب مبتعداً عن الرجل, محاذياً للسياج قائلاً": وأين ستقودني؟!... الى الموت؟!... مرحباً به اذا كان سينقذني من هذه الحياة الكئيبة!!...
    - هكذا!!... بكل بساطة... الموت!!... وكأنك تتكلم عن رحلة لا اكثر!!...
    - وما هو الموت إلا رحلة للانتقال من عالم الى عالم... وما هو الموت إلا استمرار للحياة... لماذا نحن ننظر الى الموت على انه فناء, بينما هو في الواقع مرحلة جديدة نعيشها...
    - "فابتسم الرجل ابتسامة اندهاش تميل الى الشفقة": يبدو لي أنك متأثر بما يكتبه عض الكتاب في رواياتهم... "ثم تابع ساخراً"...: الموت... استمرار الحياة... الموت مرحلة جديدة نعيشها... الموت... الموت... وكأنهم يتكلمون عن رحلة سياحية الى جنيف... أو مغامرة لتسلق جبال الهملايا... "وبعد أن سكت قليلاً, تابع ولا زالت ابتسامته تزين شفتيه"...: حسناً... هذا عن الموت... وماذا عن الانتحار؟!...
    - الانتحار... قرار جريء لا يتخذه إلا الشجعان...
    - "فقال الرجل وقد فغر فاه مندهشاً من هذا المنطق": كيف؟!...
    - إذا كنت أتيت الى هذه الحياة بغير إرادتي... فعلى الاقل انا أملك الشجاعة لأن أتركها بإرادتي.
    - "فزادت ابتسامته اندهاشاً": لا حول ولا قوة إلا بالله... كم عمرك؟!...
    - اثنتان وعشرون سنة
    - "فمد يده إليه مبتسماً بشفقة, ممزوجة بسخرية, مع شيء من الاندهاش": تعال يا حبيبي تعال... الظاهر لي أن موضوعك كبير... لم يحتمله عقلك الصغير... أو بمعنى أصح أنت تأثرت بشكل مبالغ فيه بما يكتب وينشر عبر وسائل الاعلام... "وسحبه الى صخرة كبيرة الحجم تكفي لجلوسهما ثم سأله": أتعرف أين ستذهب بعدما تلقي بنفسك في هذا البحر؟!...
    فسكت الشاب بداية, ولم يجد إجابة...
    - "فقال الرجل بهدوء": من أساسيات أي رحلة يا عزيزي, أن تعرف على الاقل أين أنت ذاهب... ولكن يبدو لي أنك لا تعرف الى اين أنت ذاهب, ولا ممن أنت هارب!!...
    - أنا هارب من مشكلاتي وذاهب الى رب غفور رحيم...
    - غفور رحيم!! هكذا بكل بساطة... "ثم استدرك قائلاً"...: نعم... هو غفور ريحم... ولكنه شديد العقاب لمن لا يرضى بقضائه... وأنت بهذا كأنك غير راض عن قضائه وتريد أن تهرب منه...
    - ولكن...
    - تعال معي... "ومشى به معه, وبدأ يحدثه عن نتائج فعلته المحتملة, ومساوئها ساعة من الزمن الى ان قال": يا عزيزي... لا تنخدع بما يقال عن الموت, وإنه استمرار حياة... وغير ذلك... هو فعلاً استمرار حياة, ولكن... أي حياة؟!... هل هي حياة ابدية سعيدة؟!... أم حياة أبدية تعيسة؟!... لست أخيفك من الموت... فهو نهاية كل حي... وكلن فقط ما أردت أن أوصله لكمن الممكن أن أختصره ببيتين قالهما شاعر قديم:
    ولو أنّا إذا متنا تركنا.... لكان الموت راحة كل حيّ
    ولكنّا إذا متنا بعثنا.... ونسأل بعدها عن كل شيء...
    أسمعت؟!... كل شيء... فاذكر الله ذكراً كثيراً, ودعك من هذه التفاهات والترهات والخزعبلات... أما ما يقال عن الانتحار وإنه قرار شجاع وغير ذلك,فهذا لعمري أغبى منطق يعتنقه إنسان, أفقر كلمة ينطقها لسان... فالانتحار أجبن طريقة للهروب من أي مشكلة, أياً كانت مرحلتك العمرية, ألم تسمع بقول شاعر قديم:
    إذا لم يكن من الموت بدٌ.... فمن العار أن تموت جباناً...
    - بلى... ولكن... ما علاقته بموضوعنا؟!...
    - علاقة وطيدة... إذا استبدلت الكلمة الأخيرة...
    - بماذا؟!...
    - إذا كان من الموت بدٌ... فمن العار أنت تموت...
    منتحرا

    كلمات مفتاحية  :
    انتحار

    تعليقات الزوار ()