النظر في جريان القياس في العبادات وما يتفرع على هذا من القضايا المهمة المترددة بين الفقه والأصول، والتي تؤثر على موقف الباحث من القضايا التي يتعرض لها ويحتاج فيها لإعمال القياس واعتباره أو إهماله واطراحه.
وقد كثر في الآونة الأخيرة استعمال قاعدة (لا قياس في العبادات) بإطلاق، وفي غير محلها، وبما يخرجها عن الإطار الفقهي والأصولي الذي تكلَّم فيه العلماء، ومن هنا كان لا بُد من توضيح موقف علماء الشريعة الإسلامية من هذه القضية، من الناحية الأصولية أولا، ومن الناحية الفقهية العملية ثانيا.
وسوف نتناول الموضوع من خلال المباحث التالية:
مبحث في معنى القياس والعبادة لغة واصطلاحا:
القياس: يطلق لغة على: التقدير، أي: تقدير الشيء بغيره، كقولهم: "قست الثوب بالذراع"، ويطلق أيضا على: المساواة بين شيئين، سواء أكانت المساواة معنوية، كقولهم: "فلان لا يقاس بفلان"، أم حسية، كقولهم: "قست الثوب بالثوب" ([1]).
واصطلاحا: "إثباتُ مثلِ حكمِ معلومٍ فى معلومٍ آخرَ لاشتراكهما في عِلَّة الحكم عند المثبِت" ([2]).
والعبادات: جمع عبادة، وهي في اللغة: الطاعة، والانقياد، والخضوع، قال ابن الأثير: "معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع" ([3]).
وفي الاصطلاح: قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى -: "العبادة: ما تُعبِّد به، بشرط النية ومعرِفة المعبود" ([4]).
مبحث في الفرق بين العبادة والقُرْبة والطاعة والتعبُّد:
وقد فرَّق العلماء بين العبادة والقُرْبة والطاعة والتعبد، فيقول ابن عابدين - رحمه الله تعالى- نقلا عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري - رحمه الله تعالى - مع زيادة توضيح منه وشرح: " الطاعة: فِعْلُ ما يُثاب عليه، تَوقَّفَ على نيَّةٍ أو لا، عُرِفَ مَن يَفْعَلُه لأجله أو لا. والقُرْبة: فِعْلُ ما يُثاب عليه بعد معرفة مَنْ يُتَقَرَّب إليه به، وإن لم يَتَوقَّف على نيةٍ. والعبادة: ما يُثاب على فِعْلِه، ويَتَوقَّف على نيةٍ. فنحو: الصلوات الخمس، والصوم، والزكاة، والحج – ونحوها مِن كُلِّ ما يتوقَّف على النية - قُرْبَة وطاعة وعبادة. وقراءة القرآن والوقف والعِتق والصدقة - ونحوها مما لا يتوقَّف على نية- قُرْبَة وطاعة، لا عبادة. والنظر المؤدِّي إلى معرفة الله تعالى- طاعة، لا قُرْبَة ولا عبادة" ([5]).
وإذا أطلقنا كلمة "العبادات" فإنه يدخل فيها ما يُسمَّى بـ"أصول العبادات"، وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكذلك يدخل في العبادات ما يلتحق بهذه الأركان من عبادات، وتسمى فروعا لهذه العبادات، كأحكام الطهارة، والأذان، وأنصبة الزكوات، والاعتكاف، والعمرة، وغيرها ([6]).
فأصول العبادات: أعظمها وأدخلها في التعبد كالصلاة، بخلاف نحو الكفارة ([7]).
أما التعبد فسيأتي الكلام عليه، وعلى الفرق بينه وبين العبادات تحت عنوان مستقل ؛ نظرًا لأهميته.
مبحث في هل الأصل التعليل أم عدم التعليل؟
جرى الخلاف بين العلماء: هل القاعدة في أصول الأحكام ([8]) أن تكون غير مُعَلَّلة ما لم يقم الدليل على كونها معللة، أو الأصل أنها مُعَلَّلة إلا لدليل مانع ؟
قولان حكاهما الإمامان الدبوسي وشمس الأئمة الحنفيين - رحمهما الله تعالى - قالا: والأشبه بمذهب الشافعي أنها مُعَلَّلة في الأصل، إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل يُمَيِّز.
قالا: والمذهب عند علمائنا - يعني السادة الحنفية - أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معللا في الحال ([9]).
وقد حاول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى - أن يقدم لنا ضابطا لهذا الباب، فقال: ((كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يُجْعَل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِلَ إلى نظر المكلف. وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات.
وكل دليل ثبت فيها مقيَّدا غير مطلق وجُعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكل إلى نظره ؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها ؛ لأنها من جنسها وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية ؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية)) ([10]).
مبحث في الفرق بين العبادات المعللة، والتعبدات غير المعللة:
وضَّحنا فيما مضى المراد بالعبادات، أما التعبُّد فقد يطلق ويراد به معنى العبادة، والأكثر من استعمال العلماء – فيما يظهر لنا – أنه قد يطلق ويراد به الأحكام الشرعية التي لا يظهر وجه الحكمة من تشريعها غير مجرد التعبُّد وإظهار الامتثال، وقد يكون الحكم التعبدي في العبادات أو في ما ليس بعبادة في أصله كاسْتِبْرَاء الأمَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بَائِعُهَا فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ قَبْل غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي بِهَا.
كما أن العبادات أنواع، منها: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. وكثير من أحكامها معقول المعنى، بينت الشريعة حكمته، أو استنبطها الفقهاء من نصوص الشريعة. ومن ذلك قوله تعالى في شأن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وقوله في شأن الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج: 27]، وقول الفقهاء في حكمة الترخيص في الإفطار في السفر أثناء رمضان: إنها دفع المشقة، فليس شيء من ذلك تعبديًّا وإن كان متعلقا بعبادات.
وبعض أحكام العبادات غير معقول لا يعقل معناه على وجه الخصوص فيدخل في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأوقات المعينة دون سواها من أوقات النهار والليل، واختصاص الحج بتلك الأعمال المعروفة، في الأماكن المعلومة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ([11]).
مبحث في تقرير أن الأمور التعبدية إنما شرعت لحكمة وإن خفيت علينا:
عدم اهتدائنا لمعنى التشريع إنما يعنى فحسب خفاء الحكمة علينا، لا أن الحكم شُرع لا لحكمة، فكل أمر تعبدي – كما يقول القرافي - رحمه الله تعالى - معناه أن فيه معنى لم نعلمه، لا أنه ليس فيه معنى ([12])، ويقول أيضا: ((لما كانت قاعدة الشرع رعاية المصالح في جانب الأوامر، والمفاسد في جانب النواهي على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب العقلي - كما تقوله المعتزلة - لزم أن نعتقد فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة إن كان في جانب الأوامر أن فيه مصلحة، وإن كان في جانب النواهي أن فيه مفسدة، كأن نقول في أوقات الصلوات: إنها مشتملة على مصالح لا نعلمها، وكذلك كل تَعَبُّدِيٍّ معناه أن فيه مصلحة لا نعلمها)) ([13]).
ويؤكد على هذا بعض العلماء فيقول: ((كثيرا ما يذكر الفقهاء التعبُّد ومعنى ذلك الحكم الذي لا يظهر حكمه بالنسبة إلينا مع أنا نجزم أنه لا بد من حكمته، وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالبا للمصالح دارِئًا للمفاسد ؛ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: إذا سمعت نداء الله تعالى فهو إنما يدعوك لخير، أو يصرفك عن شر كإيجاب الزكاة والنفقات لسد الخلات، وإرش جبر الجنايات المتلفات، وتحريم القتل والزنا والسكر والسرقة والقذف صونا للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض عن المفسدات... فالله سبحانه وتعالى إذا شرع حكما علمنا أنه شرعه لحكمة ثم إن ظهرت لنا فنقول: هو معقول المعنى، وإن لم تظهر فنقول هو تعبُّد)) ([14]).
وقال الإمام ابن عابدين الحنفي - رحمه الله تعالى-: ((اختلف العلماء في أن الأمور التعبُّدية هل شُرِعَت لحكمة عند الله تعالى وخفيت علينا أو لا؟ والأكثرون على الأول، وهو المتجه لدلالة استقراء عادة الله تعالى على كونه سبحانه جالبا للمصالح دارئا للمفاسد، فما شرعه إن ظهرت حكمته لنا قلنا: إنه معقول، وإلا قلنا: إنه تعبُّدي)) ([15]).
وقال الشيخ البجيرمي الشافعي - رحمه الله تعالى-: ((غير معقول المعنى له عِلَّة في الواقع، وإن لم نطلع عليها)) ([16]).
وقال الفتوحي الحنبلي - رحمه الله تعالى-: ((... كل مصلحة مناط الحكم، وليس كل مناط مصلحة، لجواز أن يناط الحكم بوصف تعبدي، لا يظهر وجه المصلحة فيه، ثم كون الوصف مصلحة: لأنها قد تكون عامة، بمعنى أنها متضمنة لمطلق النفع، وقد تكون خاصة، بمعنى كونها من باب الضرورات والحاجات والتكميلات ))([17]).
فالأحكام المعللة هي التي تظهر علتها، وهي ما يعبر عنها جمهور العلماء بقولهم:"إنها معقولة المعنى".
وأما غير المعللة وهي التي توصف بقولهم: "إنها تعبدية" أي: غير معقولة المعنى ([18])، وهي التي لم ينص الشارع على علتها وحكمتها، وليس بإمكان العقل أن يصل فيها إلى علتها، وذلك كأعداد الصلوات الخمس وعدد ركعاتها، وعدد أشواط الطواف، وتخصيص أعضاء الوضوء بالطهارة، وغير ذلك.
ووصفُ أحد العلماء لعبادةِ ما بأنها تعبدية يكون أمرا اجتهاديا ([19])، فإنه قد تختلف العقول في إلحاق عبادة من العبادات بهذا القسم أو غيره، وذلك يرجع لاختلاف المدارك والأفهام، فقد يطلع عالم على شيء لم يطلع عليه غيره، وقد يهتدي إلى علة وحكمة لم يهتد إليها سواه ([20]).
على أنه متى قلنا بأن حكم ما تعبدي، صارت القاعدة فيه: أنه لا يسأل عن معناه ([21])، على أن من أبواب الفقه ما يصير بعضه تعبديًّا وبعضه معقول المعنى، كباب العِدّة عند الحنابلة ([22]) كما سيأتي بالتفصيل.
ومن نظر في كثير من العبادات، والنصوص الواردة فيها، مع أقوال العلماء في بيان فقهها وأحكامها، وُجد: أن الكثير منها معللة، فإن لكل حُكْم علته وحِكْمته الخاصة به، علمها مَن علمها وجهلها مَن جهلها ([23])، كالزكاة فإنها من العبادات المعللة في أصل شرعها، وتعليلاتها منصوصة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، فالغرض مِن أخْذ الزكاة هو التطهير والتزكية، وهو أحد المعاني المعقولة من شرع الزكاة، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "الزكاة وجبت عبادة لله تعالى ابتداء، وشرعت ارتياضًا للنفس بتنقيص المال من حيث إن الاستغناء بالمال سبب للطغيان ووقوعه في الفساد" ([24]).
وهناك معنى آخر يُعْقَل من شرع الزكاة وهو المشار إليه في الحديث: "تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" ([25])، وقد بيَّن القرآنُ مصارفَ الزكاة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60]، فقد وضَّحت الآية أن المقصود من الزكاة سد حاجات الأصناف الثمانية.
قال الزنجاني: "معتقد الشافعي رضي الله عنه أن الزكاة مئونة مالية، وجبت للفقراء على الأغنياء بقرابة الإسلام على سبيل المواساة، ومعنى العبادة تبع فيها، وإنما أثبته الشرع ترغيبًا في أدائها، حيث كانت النفوس مجبولة على الضنة والبخل، فأمر بالتقرب إلى الله تعالى بها، ليطمع في الثواب، ويبادر إلى تحقيق المقصود" ([26]).
ومن ذلك أيضا: الجهاد فإنه وإن كان من العبادات، فهو معقول المعنى، وأحكامه معللة، فالجهاد شُرِع لإزالة الفتنة والفساد من الأرض، ولإعلاء كلمة الله، يقول الشاطبي: "والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات، فهو في الحقيقة معقول المعنى، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح الدنيا" ([27]).
وسيأتي العديد من الأمثلة الفقهية على القياس في العبادات.
مبحث في المفاضلة بين الحكم التعبدي والحكم معقول المعنى:
ذهب بعض علماء الشافعية إلى أن التعبدي أفضل من معقول المعنى لأن الامتثال فيه أشد، وقيل: لأن فيه إرغاما للنفس. وقيل: لأنه لمحض الانقياد بخلاف ما ظهرت عِلَّته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل علته. وقيل: لما فيه من امتثال أمر الله مع عدم العلم بعِلَّته ([28]).
وقال آخرون من الشافعية والحنفية: إنه متى دار الحكم بين كونه تعبديا، أو معقول المعنى، كان حمله على كونه معقول المعنى أولى، لندرة التعبُّد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى، وكثرة التعقل ([29]).
وقال ابن عابدين الحنفي: ((سئل المصنف في آخر فتاواه التمرتاشية: هل التعبدي أفضل أو معقول المعنى؟ أجاب لم أقف عليه لعلمائنا سوى قولهم في الأصول: الأصل في النصوص التعليل، فإنه يشير إلى أفضلية المعقول، ووقفت على ذلك في فتاوى ابن حجر، قال: قضية كلام ابن عبد السلام أن التعبدي أفضل ؛ لأنه بمحض الانقياد، بخلاف ما ظهرت علته فإن ملابسه قد يفعله لتحصيل فائدته، وخالفه البلقيني فقال: لا شك أن معقول المعنى من حيث الجملة أفضل ؛ لأن أكثر الشريعة كذلك، وبالنظر للجزئيات قد يكون التعبدي أفضل كالوضوء وغسل الجنابة فإن الوضوء أفضل، وقد يكون المعقول أفضل كالطواف والرمي فإن الطواف أفضل ا هـ ([30]).
مبحث في تحرير المراد بالقياس في العبادات:
القياس في العبادات إنما يجري عند تعقل معناها، وكون هذا المعنى هو المقصود بشرع حكم الأصل، فيُجْعَلُ ذلك المعنى المتعقل وصفا جامعًا، بحيث يصبح هو العلة التي ينبني عليها القياس، ثم بالقياس على حكم الأصل يَتِمُّ تعديته إلى الفرع - مع استكمال شروط القياس- التي لم يُنَص على الحكم فيه، يقول الزركشي: "كلُّ حُكْمٍ شرعيٍّ أمْكن تعليلُه يجري القياسُ فيه" ([31]).
فالقياس لا يجري فيما لا يعقل معناه من العبادات وغيرها؛ لأن القياس فرْعٌ عن تعقل المعنى، فما لا يدرك معناه يصبح تعبديًّا لا يجري القياس فيه. ولم يعرف في تمييز التعبديات عن غيرها من الأحكام المعللة وجه معين، غير العجز عن التعليل بطريق من الطرق المعتبرة، على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم الأصول، ولذلك يقول ابن عابدين: ما شرعه الله إن ظهرت لنا حكمته، قلنا: إنه معقول المعنى، وإلا قلنا: إنه تعبدي. ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الأحكام تعبديا أو معقول المعنى، فما يراه بعض الفقهاء تعبديا قد يراه البعض الآخر معللا بمصالح غلب على ظنه رعايتها ([32]).
فيحصل من هذا أن ما كان تعبديا لا يعقل معناه لا يجري فيه القياس، وما كان معقول المعنى جرى فيه القياس ولا يكون تعبديًّا، سواء كان ذلك في العبادات أو غيرها.
وربما كان القول بالتعبد في أمر ما من حيث المجموع، ولا يمنع ذلك من القياس في بعض تفاصيله أو في بعض ما تضمنه من فروع، ((وقال بعضهم: الأحكام الضمنية لا تعلل، لأن الإنسان إذا سافر إلى بلد لزم منه نقل الأقدام وقطع المسافات، ثم إنه لا يعلل لعدم خطوره بباله، وهذا صحيح في حق الإنسان، فأما في أحكام الشرع فلا، لأن الشارع للأحكام لا تخفى عليه خافية فتحقق شرائط الإضافة إلى المصالح مُضَافٌ ومُعَلَّلٌ ؛ لأن شرط الإضافة ليس إلا العلم والخطور بالبال)) ([33])، فعند الشافعية – مثلا – أن تحريم الربا تعبدي، والأمور التعبدية وإن كان لا يدخلها القياس، فإن الحكم بأنه تعبدي حكم على المجموع بحيث لا يزاد نوع ثالث على النقد والمطعوم فلا ينافي القياس في بعض أفراده كما قيل في نواقض الوضوء ([34])، ومن أمثلته أيضا قياسهم بالكلب الخنزير في غسل السبع والتتريب، مع كون ذلك في الأصل تعبدي ([35])، وسيأتي كلامهم عليه بالتفصيل.
وليس المراد بالقياس في العبادات:
1- إحداث عبادة زائدة عن العبادات الواردة، فلا يصح إثبات عبادة مبتدأة به، كصلاة سادسة أو حج آخر، فإنما يتم معرفتهما بالتوقيف لا بالرأي والاجتهاد، فإنه لا يجوز ابتداء إثبات العبادات بطريق القياس.
2- أو إثبات كيفيَّة خاصة للعبادات المشروعة ([36]).
مبحث في التوفيق بين قول الفقهاء إن العلة باعثة على الحكم وبين قول المتكلمين إن أحكام الله لا تعلل:
عِلَلُ الشرع – كما يقول الإمام السرخسي الحنفي رحمه الله تعالى - أَمارات من حيث إنها غير موجبة بذواتها، ولكنها موجبة للحكم بجعل الشرع إياها موجبة للعمل بها، ومعلوم أنه لا يمكن العمل بها إلا بعد معرفة عينها، وطريق ذلك التعيين بالنص أو الاستنباط بالرأي، ولا يتأتى الاستنباط بالرأي إذا لم يكن الحكم معقول المعنى، لأن العقل طريق يدرك به ما يعقل، كما أن الحس طريق يدرك به ما يحس دون ما لا يحس، وليس هذا نظير الأحكام الثابتة بالنص غير معقول المعنى، لأن النص موجب بنفسه، فإنه كلام من يثبت علم اليقين بقوله، وقد حصل التعيين بالنص هناك، فكونه غير معقول المعنى لا يعجزنا عن العمل به، فأما التعليل ببعض الأوصاف فهو غير موجب بنفسه، وإنما يجب العمل به بطريق أنه إعمال الرأي ليتوصل به إلى الحجة في حكم شرعي، وما لم يكن معقول المعنى لا يتأتى إعمال الرأي فيه ([37])، فإنما يجوز استعمال الرأي عند معرفة معاني النصوص، وإنما يكون هذا فيما يكون معقول المعنى فأما فيما لا يعقل المعنى فيه فنحن لا نُجَوِّز إعمال الرأي لتعدية الحكم إلى ما لا نص فيه ([38]).
يقول التاج السبكي الشافعي - رحمه الله تعالى-: ((وبقي سؤال يورده الشيوخ وهو أن المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل، واشتهر عن الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث، وتوهَّم كثير منهم منها أنها باعثة للشرع على الحكم كما هو مذهب قد بينا بطلانه، فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين، وما زال الشيخ الإمام الوالد والدي (يعنى شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى) - أطال الله عمره - يستشكل الجمع بين كلاميهما إلى أن جاء ببديع من القول، فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه ورد العلل في فهم العلل: لا تناقض بين الكلامين لأن المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف، مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو المكلف المحكوم به من جهة الشرع، فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه ؛ لأنه قادر أن يحفظ النفوس بدون ذلك، وإنما تعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لكونه وسيلة إليه فكلا المقصد والوسيلة مقصود للشارع، وأجرى الله تعالى العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص، وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله به، ووسيلة إلى حفظ النفوس كان لهم أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى، أحدهما بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} [البقرة:178]، والثاني إما بالاستنباط وأما بالإيماء في قوله: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة.
ومن هنا يتبين أن كل حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان:
أحدهما: ذلك المعنى.
والثاني: الفعل الذي هو طريق إليه، وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى، فالمعنى باعث للمكلف على الفعل لا للشارع على التشريع.
ومن هنا يعلم أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من الحكم التعبدي، نعم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفس لا حظ لها فيه، فقد يكون الأجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي. ويعرف أيضا أن العلة القاصرة سواء كانت منصوصة أم مستنبطة فيها فائدة، وقد ذكر الناس لها فوائد، وما ذكرناه فائدة زائدة وهي قصد المكلف فعله لأجلها فيزداد أجره، فانظر هذه الفائدة الجليلة، واستعمل في كل مسألة ترد عليك هذا الطريق وميز بين المراتب الثلاث، وهي: حكم الله بالقصاص، ونفس القصاص، وحفظ النفوس وهو باعث على الثاني لا على الأول، وكذا حفظ المال بالقطع في السرقة، وحفظ العقل باجتناب المسكر)) ([39]).
يقول الإمام الزركشي - رحمه الله تعالى -: ((واعلم أن مذهب أهل السنة أن أحكامه تعالى غير معللة بمعنى أنه لا يفعل شيئا لغرض، ولا يبعثه شيء على فعل شيء، بل هو الله تعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعدام المضار بدون دوافعها. وقال الفقهاء: الأحكام معللة ولم يخالفوا أهل السنة، بل عنوا بالتعليل الحكمة، وتَحَجَّر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء واسعا فزعموا: أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيَّق بوجه المصلحة. وفي كلام الحنفية ما يجنح إليه، ولهذا يتعين الماء في إزالة النجاسة عندنا خلافا لهم، وكذا نبيذ التمر لا يتوضأ به خلافا لهم. والحق أن رعاية الحكمة لأفعال الله وأحكامه جائز واقع ولم ينكره أحد، وإنما أنكرت الأشعرية العلة والغرض والتحسين العقلي ورعاية الأصلح، والفرق بين هذه ورعاية الحكمة واضح، ولخفاء الغرض وقع الخبط.
وإذا أردت معرفة الحكمة في أمر كوني أو ديني أو شرعي فانظر إلى ما يترتب عليه من الغايات في جزئيات الكونيات والدينيات، متعرفا بها من النقل الصحيح نحو قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} [الإسراء: 1] في حكمة الإسراء، وبملاحظة هذا القانون يتضح كثير من الإشكال ويطلع على لطف ذي الجلال.
وقرر ابن رحال في " شرح المقترح " الأمر بطريق آخر فقال: قال أصحابنا: الدليل على أن الأحكام كلها شرعية لمصالح العباد، إجماع الأمة على ذلك، إما على جهة اللطف والفضل على أصلنا، أو على جهة الوجوب على أصل المعتزلة، فنحن نقول: هي وإن كانت معتبرة في الشرع لكنه ليس بطريق الوجوب، ولا لأن خلو الأحكام من المصالح يمتنع في العقل كما يقول المعتزلة، وإنما نقول رعاية هذه المصلحة أمر واقع في الشرع، وكان يجوز في العقل أن لا يقع كسائر الأمور العادية.
ثم القائل بالوجوب ما يريد ما هو المفهوم من الوجوب الشرعي، ولكن معناه عنده أن نقيضه يمتنع على البارئ، كما يجب وصفه بالعلم لأن نقيضه - وهو الجهل - ممتنع، وعلى هذه الطريقة ينزل كلام ابن الحاجب وغيره ويرتفع الإشكال....
وقال الإمام إلكيا الهراسي الشافعي: فصل: في أن الأحكام الشرعية هل وضعت لعلل حكمية أم لا ؟ ذهب بعضهم إلى امتناع أن يتعبد الله عباده بما لا استصلاح فيه. وهذا قول مرغوب عنه.
ونحن وإن جوَّزنا أن يتعبد الله عباده بما شاء، ولكن الذي عرفناه من الشرائع أنها وُضعت على الاستصلاح، دلت آيات الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ملاءمة الشرع للعادات الجبِلِّيَّة والسياسات الفاضلة، وأنها لا تنفك عن مصلحة عاجلة وآجلة.
قال الله تعالى: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ} [الحديد:25]، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، وهذا كله يدل على أنه تعالى إنما تعبدهم بالشرائع لاستصلاح العباد، وهذا لا يعلم إلا بالشرع، وأن العقل لا يدل على أنه عند وقوع أحد الفعلين يقع الآخر على سبيل الاختيار إذا لم يكن المختار ممن ثبتت حكمته، فإذا صح ذلك السمع فأحدها القياس على ما سنبينه.
ثم الأحكام الشرعية تنقسم إلى:
من الأحكام الشرعية ما اطلعنا عليه وعلى وجه الحكمة فيه بأدلة موضوعة من النص تارة، ومن مفهوم وتنبيه وسبر. ومنها ما لا يُطَّلَع فيه على وجه الحكمة الخفية، وهي من ألطاف الله التي لا يطلع عليها، فمن هاهنا تخصيص التكاليف بوقت دون وقت، وتخصيص بعض الأفعال بالندب، وبعضها بالوجوب، وهذه المصالح بحسب المعلوم من حال المتعبدين به ... وقد بنى الله أمور عباده على أن عرَّفهم معاني دلائلها وجملها، وغيب عنهم معاني دقائقها وتفاصيلها، كما إذا رأينا رجلين عليلين تفاوتت عللهما عرفنا الوجه في افتراقهما، ولو سألنا عن تعداد الاختلاف جهلنا وهذا فن يهون بسطه... إذا علمت ذلك فما ذكرناه من اشتمال كُليَّات الشرع وجزئياته على المصالح وانقسامها إلى ما يلوح للعباد وإلى ما يخفى عليهم لا خلاف فيه، ولكن اختلفوا وراء ذلك في القياس الشرعي وأنه من مدارك الأحكام أو من القول بالشبه المحض، والذين ردوا القياس اختلفوا فيه، فقيل: لا يجوز ورود التعبد به أصلا، وقيل: يجوز ولكن يمتنع ورود التعبد، قال: ويمتنع ورود التعبد بالقياس في جميع الحوادث لأنه لا بد من أصول تعلل وتحمل الفروع عليها، ولهذا قلنا: إنه مظنون من حيث إن جهات المصالح مغيبة عنا، فلا وصول إلى المعنى الواحد من بين المعاني على وجه يعلم أنه الأصلح دون ما سواه قطعا، ولأجله تفاوتت الآراء، وإنما اعتبرنا الأصول السمعية لصحة القياس لأنه لا يجوز رد الفرع إلى الأصول العقلية، ولا يجوز أن يتوصل إلى أحكامها بالأمارات التي يتوصل بمثلها إلى مصالح الدنيا ؛ لأن لها أمارات معلومة بالعادة ([40]).
مبحث في أن الأصل في الأحكام التعقل، والأصل في العبادة التعبُّد والتوقيف:
الأصل – كما يقول الآمدي الشافعي - أن يكون الحكم معقول المعنى ([41])، وقال الفتوحي الحنبلي: ((الغالب من الأحكام التعقل دون التعبد))( [42]).
ولكن ذكر بعض العلماء أن: (الأصل في العبادات التوقيف) ([43])، وهذه العبارة ليست على إطلاقها كما يتوهمه كثيرون، إذ المراد بذلك: الوقوف عند المحدود الشرعي، بمعنى أن الشارع قَصَدَ فيه الوقوف عند ما حَدَّه بحيث لا يتعداه المكلفُ، فالمقصود الشرعي التعبد لله بذلك المحدود، في نفسه دون زيادة فيه أو نقصان منه.
وهذا ما بيَّنه العلامة ابن دقيق العيد في قوله: "أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص، فيريد بعضُ الناس أن يحدث فيها أمرًا آخرَ لم يرد به الشرعُ، زاعمًا أنه يدرجه تحت عموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف" ([44]).
فالمكلف إذا قام بالفعل على حسب ما حَدَّه الشارع له- أُثِيب عليه، ويبطل العمل ويستحق العقاب عند مخالفته لهذا الحد، فلابد من الوقوف عند حدودها المقدَّرَة من قِبَل الشارع مِن دُون أن يُزاد أو يُنْقَص فيها بغير نصٍّ.
وهذا المعنى لا ينافي قياس غيره عليه، وتعدية حكم ذلك التوقيفي إلى غيره، ومثال ذلك ما ورد في بعض الصلوات التي خُصَّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، كالكسوف، فقد قام الحنابلة بقياس الصلاة للزلزلة الدائمة على صلاة الكسوف - بجامع أنها آيات مخوِّفة للعباد ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله تعالى لكشف الغمة - وذلك مع التوقُّف عند الهيئة الواردة في صلاة الكسوف بغير زيادة أو نقصان ([45]).
ومِن ثَمَّ فقول بعضهم: "لا قياس في العبادات" - على الإطلاق- غير مسلم؛ والأولى أن يقال: "لا قياس في التعبديات"، وهي التي لا يدرك لها معنى، وأما القياس في العبادات فهو سائغ؛ لأن كل حكم شرعي أمكن تعليله يجري القياس فيه ([46]).
مبحث في مذاهب العلماء في تعليل العبادات والقياس عليها، وبيان سبب الخلاف:
اختلف العلماء في تعليل العبادات والقياس عليها على مذهبين:
- مذهب الحنفية هو المنع في أصول العبادات، يقول الشيخ الأسمندي الحنفي: "اختلف الناس في إثبات أصول العبادات وغيرها من المقدرات - كالحدود والكفَّارات - بالقياس: فذهب الكرخي وجملة من المتكلمين إلى المنع منه، وحكاه الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله" ([47]).
ونَسَبَ الفخرُ الرازيُّ المنعَ إلى الجُبَّائي ([48]).
- وذهب الشافعي وأصحابه إلى جواز القياس فيما كان معقول المعنى مطلقا سواء كان في العبادات أو غيرها، ومنع القياس في غير معقول المعنى مطلقا، وهو مذهب جمهور الأصوليين، واختاره الإمام الرازي وأتباعه، والتاج السبكي ([49])، ولهذا يتفق الشافعية مع المانعين في أن ما كان كأعداد الركعات فغير معقول المعنى فلذلك لا يمكن استنباط علة منها، وكل ما كان غير معقول المعنى لا يصح القياس عليه لعدم معرفة العلة ([50])، فمن شرط القياس عندهم أن لا يكون المقيس عليه تعبديا، والأمور التعبدية لا يدخلها القياس ([51]).
ويذكر الحنابلة أن من شروط القياس أن يكون الحكم معقول المعنى ؛ إذ القياس إنما هو تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي المقتضي، وما لا يعقل معناه كأوقات الصلوات وعدد الركعات لا يوقف فيه على المعنى المقتضي، ولا يعلم تعديه، فلا يمكن تعدية الحكم فيه ([52]).
بيان مذهب الجمهور:
تناول إمام الحرمين هذه القضية بتوسع، ومما قاله: ((نقل أصحاب المقالات عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يرون إجراء القياس في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص، وكل معدول به عن القياس. وتتبع الشافعي مذاهبهم، وأبان أنهم لم يفوا بشيء من ذلك – ثم ذكر أمثلة لما أجروا فيه القياس في الحدود والكفارات والرخص -... وقد وضح بما قدمناه ما يعلل وما لا يعلل، ونحن نتخذ تلك الأصول معتبرنا في النفي والإثبات، فإن جرت مسالك التعليل في النفي والإثبات أجريناها، وإن انسدت حكمنا بنفي التعليل، ولا يختص ذلك بهذه الأبواب، والتعليل قد يمتنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار، وإن كان لولا النص أمكن التعليل، وهو كقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، وقال عليه الصلاة والسلام: إنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والأرض ([53])... فمهما منعنا نص من القياس امتنعنا، وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو، وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر، وإن ساوى المسافر في الفطر، فإن لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس إمكانه عند الشرائط المضبوطة فيه، والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأتيه على ما يشترط فيه))، ثم يذكر إمام الحرمين أن هناك أبوابا يجري فيها القياس في بعض أحكامها، ويمتنع في بعضها، كالكتابة والنكاح والإجارة والقراض والمساقاة، قال: ((وحق الناظر أن يتدبر هذه المواقف، ويتبين المواقع التي يجري فيها القياس، والمواقف التي يقف عندها، ولا يطرد فيها القياس نظرا إلى محل الوقف، وكذلك لا يطلق إثباتا نظرا إلى المحل المنقاس، وكل كلام مفصل في موضع، فإطلاق النفي والإثبات فيه خلف...))، ثم أفاض في بيان ذلك، ثم ذكر تقاسيم العلل والأصول وأنها خمسة أقسام: ((أحدها ما يعقل معناه وهو أصل... والضرب الخامس من الأصول: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا ولا مقتضى ضرورة أو حاجة، أو استحثاث على مكرمة، وهذا يندر تصويره جدا، فإنه وإن امتنع استنباط معنى جزئي، فلا يمتنع تخيله كليا، ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة، فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية، ولكن لا يبعد أن يقال: تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد، وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر، ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضى التقدير فيما لا ينقاس أصله... فالعبادات البدنية التي لا يلوح فيها معنى مخصوص ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات، فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية... وهذا فن لا يضبطه القياس، والأمر فيه محال على أسرار الغيوب... فأما ما يثبت برسم الشارع، ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ القياس فيه، وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم، والتسليم عند التحليل، ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود، فمن أراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما)) ([54]).
فالجمهور – كما يتضح من كلام إمام الحرمين - لا يجرون القياس في العبادات أو في غيرها مطلقا، ولا يمنعونه مطلقا، بل لهم في إجرائه شروط، كما أنهم يتفقون مع المانعين في بعض الصور لا يجري فيها القياس، وهي الأعداد والتقديرات التي نص عليها الشرع. يقول الشيخ الشربيني الشافعي: ((لا نطلقه (يعني المنع) فيها (يعني الحدود والكفارات والرخص والتقديرات)، بل نقيده بما إذا لم يدرك المعنى فيها))
ويقول ابن الحاجب المالكي: ((ومنها – يعني من شروط حكم الأصل – أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة، وأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات)). وقال الشمس الأصفهاني شارحا عليه: ((أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن سنن القياس، أي: لا يكون على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع، ولا يكون مما لا يعقل حكمته، كقبول شهادة خزيمة وحده، والحكم به، فإنه على خلاف قاعدة الشهادة التي استقرت في الشرع ولم يعقل حكمته، وكأعداد الركعات ومقادير الحدود والكفارات، فإنها وإن لم تكن على خلاف قاعدة مستقرة في الشرع، لكنها لا تعقل حكمتها)) ([56])، يعني لا تعقل حكمة الأعداد والمقادير، ككون فريضة الفجر ركعتين، والظهر أربعا، والمغرب ثلاثا، وككون كفارة اليمين صيام ثلاثة أيام، أو كفارة الظهار صيام شهرين متتابعين، فهذه الأعداد والمقادير لا قياس فيها، وهذا لا يمنع القياس في أبواب العبادات والحدود والمقادير مطلقا حيث عقل المعنى.
منشأ الخلاف في القياس في العبادات:
اختلاف العلماء حول جواز إجراء القياس في العبادات وعدمه يرجع لأمرين ([57]):
الأول: اختلافهم في كون العبادات معقولة المعنى فيجوز إجراء القياس فيها، أو هي غير معقولة المعنى فلا يجوز إجراء القياس فيها؟ مع اتفاق الكل – على ما يظهر من نصوصهم التي تقدم بعضها – على أن معقول المعنى يجري فيه القياس، وغير معقول المعنى يمنع فيه القياس، وإنما اختلفوا في أفراد ذلك، هل هو من معقول المعنى فيجري فيه القياس، أو غير معقول المعنى فلا يجري فيه القياس.
على أنه قد يُستجد في العبادات أحوال طارئة لم يرد النص بخصوص الحكم فيها، كأن لا يجد الرجل الماء والحجر للاستنجاء، ويجد في غيرهما ما هو قالع لعين النجاسة من الأشياء غير المحترمة - فهل يصح استخدامه لهذا القالع لاشتراكه مع المنصوص عليه في العلة؟
أو قد يستجد من خطأ المكلف ما لم يرد فيه نص أيضا، مثل: مواضع السهو في الصلاة التي لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسجد لها، فهل يسجد المكلف لها؟
فالمانعون يرون أن العبادات غير معقولة المعنى فلا تعلل، وحيث إنها لا تعلل فلا يجوز إجراء القياس فيها، وما أثبتوه من أحكام في غير المنصوص عليه إنما قالوا به عن طريق "دلالة النص" لا بالقياس كما سيأتي.
والمجوزون يرون أنها معقولة المعنى في كثير من أحكامها، فيجوز تعليلها وإجراء القياس فيها كغيرها.
يقول السمرقندي الحنفي: ((الصحيح قول من قال من الفقهاء: إن النصوص معلولة في الأصل، لأن أحكام الله تعالى مبنية على الحِكَم ومصالح العباد، فإن كانت معقولة المعنى يجب القول بتعديتها، ويجوز أن يكون البعض مما لا نعرفه بعقولنا)) ([58]).
الأمر الثاني وهو مفرَّع على الأول: هل "دلالة النص" قياسية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها ثابتٌ بالقياس، أو هي لفظية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها غيرُ ثابتٍ بالقياس؟
بيان ذلك: أن دلالة النص عند الحنفية ([59]) هي: "ما يَثْبُتُ بمعنى اللفظ لغةً لا اجتهادًا ولا استنباطًا بالرأي"، فهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه، لاشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة من غير حاجة إلى الاجتهاد الشرعي، وذلك سواء أكان المسكوت عنه مساويًا للمنصوص عليه للتساوي في العلة أم أولَى بالحكم منه لقوة العلة فيه.
فالحكم الثابت بدلالة النص عند الحنفية لم يثبت بصورة النص وذات النظم كما في عبارة النص، كما أنه ليس ثابتا عن طريق الاجتهاد والاستنباط بالرأي ليكون ثابتا بالقياس، وإنما ثبت من طريق علة الحكم؛ وهذا لأن المعنى المعلوم بالنص لغة بمنزلة العلة المنصوص عليها شرعا عندهم.
فهي دلالة تعتمد على معنى النص وما يُفهم منه بحسب اللغة، فهي لفظية وليست قياسية، فتَثْبُتُ أحكام العبادات بها بخلاف القياس الأصولي.
وأما عند الشافعية وبعض الحنابلة فإن الحكم في المسكوت عنه يُعرف عن طريق الاجتهاد أو القياس الشرعي، لا بمجرد معرفة اللغة، والقياس معنًى يُستنبط بالرأي؛ ليتعدَّى به الحكمُ إلى ما لا نَصَّ فيه، فليس هو استنباطا باعتبار معنى النظم لغة؛ ولهذا اختص العلماء بمعرفة الاستنباط بالرأي.
وعليه فإن "دلالة النص" عندهم قياسية، فمتى ثبتت أحكام العبادات بـ"دلالة النص" يصح القول بأنها ثبتت بالقياس.
قال الزركشي: ((وفائدة الخلاف في هذه المسألة أنه هل يعمل عمل النص؟ وأنه هل يجري في الحدود والكفارات؟))، وقال ابن النجار: ((ومن فوائد الخلاف أنا إذا قلنا: إن "دلالته لفظية" جاز النسخ به، وإن قلنا: "قياسية" فلا)) ([60]).
ويرى بعض الحنفية أن ما لا يمكن فيه التعدية بطريق القياس فليلحق بطريق الدلالة فإن كونه معقولا ليس بشرط فيها ([61]).
فص في أدلة المجوزين للقياس في العبادات:
استدل المجوزون لإجراء القياس في العبادات إذا عُقل المعنى بأدلة كثيرة منها:
1- روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "بَعَثَنِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبتُ فلم أجِدِ الماءَ، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تتمرَّغ الدابةُ، ثم أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ ذلك له، فقال: إنمَا كانَ يَكْفِيكَ أن تقول بِيدَيْكَ هكذا. ثم ضَرَب بِيدَيه الأرضَ ضَرْبةً واحدةً، ثم مَسَحَ الشمالَ على اليمين، وظاهرَ كفَّيْهِ ووجهَه ([62]).
وجه الدلالة: أن عمارًا استعمل القياسَ في العبادات حيث قاس التطهيرَ بالتراب على التطهير بالماء، فكما أن الماء يَعم البدن في الغسل من الجنابة، فكذلك يقاس عليه التراب فيُعَمم به البدن.
ونوقش هذا الاستدلال بأنه لا يصح حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقره، بل أخبره أن فِعْلَه هذا خطأٌ، وأنه يكفيه أن يضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم يمسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.
ويجاب عنه: بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عمَّار استعماله القياس في العبادات، وإنما أخبره أن قياسه غير صحيح، والخطأ في مسألة لا يدل على بطلان القياس، بل إنه إقرار من الرسول – صلى الله عليه وسلم- حيث لم ينكر عليه القياس في العبادات لما رأى عمارا قاس فيها، فدل هذا على جواز القياس في العبادات؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
2- يجوز إثبات أحكام العبادات بأخبار الآحاد وكذلك يجوز إثباتها بظواهر النصوص، وإن كان طريق هذه الأدلة غلبة الظن ويجوز فيه الخطأ، فلما جاز إثبات أحكام العبادات بخبر الواحد، وظواهر النصوص جاز إثباتها بالقياس بجامع أن كلا منهما دليلا ظنيًّا.
3- عموم أدلة حجيَّة القياس، فهي دلت على جواز القياس في جميع الأحكام الفقهية ولم تفرق بين ما يخص العبادات أو المعاملات أو غيرها، والمرجع في ذلك هو معرفة العلة التي من أجلها شرع الحكم في الأصل، فمتى عرفنا العلة في الحكم المنصوص على حكمه، ووجدنا هذه العلة في الفرع، فإنه يصح القياس مع استكمال شروط القياس ([63]).
مبحث في أدلة المانعين للقياس في العبادات والجواب عنها:
1- العبادات مشتملة على تقديرات لا يُعقل معناها، كأعداد الصلوات والركعات وأنصبة الزكوات، فكانت من الأمور التعبدية التي لا نعلم العلة التي من أجلها شُرِعت، فلا يجري القياس فيها، فإن القياس فرع تعقل المعنى، فما لم تدرك علته لا يقاس عليه. يقول الإسمندي الحنفي: ((والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه - يعني منع القياس في أصول العبادات - أن القياس إثبات الحكم بأمارة يغلب على الظن ثبوت الحكم بها إذا عرض على العقل، والعقل لا يهتدي إلى إيجاب صلاة سادسة، وإلى كون نصاب الإبل مقدرا بخمس... فلا يمكن إثباتها بالقياس)) ([64]).
ويجاب عنه: بأننا لا نقيس في مقادير العبادات أو في غيرها إلا إذا علمنا العلة التي من أجلها شُرِع الحكم، فإذا علمنا العلة في الأصل، ووجدنا نفس العلة في فرعٍ - مع استكمال بقية الشروط - أتممنا عملية القياس، وأما إذا لم نعلم العلة فلا خلاف في أنه لا يجوز القياس في مثل ذلك، لأنه فَقَدَ ركنًا من أهم أركانه، وهي العلة.
2- يرى المانعون أن استخدام القياس في العبادات يُثْبِت عبادة مبتدأة ولهذا يمنعونه، مثل الصلاة بالإيماء بالحاجب، وما شابه ذلك فإنها من الأمور المهمة التي تتوفر الدواعي على نقلها، فلو كانت مشروعة لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيَّنها، وينقل ذلك أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلوما لنا قطعا، فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل.
ويجاب عنه: بأن عدم النقل لا يدل على عدم الجواز، وكذلك فإن ما اعترضتم به منتقض بوجوب الوتر عندكم؛ حيث إن الوتر واجب عندكم مع أن وجوبه لم يعلم قطعا( [65]).
3- المقادير متساوية فلا يظهر في العقل تميز مقدار عن مقدار.
ويجاب عنه: بأنا لا نجري القياس إلا إذا ظهر وجه التمييز، فإن استوت المقادير على وجه لا يترجح بعضها على بعض فلا قياس، كما قال أبو حنيفة في تقدير مسح الرأس بثلاثة أصابع قياسا على مسح الخف.
4- إن مقادير العبادات قد شرعت لمصلحة يعلمها الله، وهي حق لله تعالى، كأعداد الصلوات وأعداد الركعات وأنصبة الزكوات، وبما أننا لا ندرك ولا نعلم المصلحة التي شرعت هذه المقادير والعبادات لها، ولا مدخل للقياس في معرفة المصالح وحقوق الله، فمِن ثَمَّ فلا يجوز إجراء القياس في مقادير العبادات.
ويجاب عنه: بأن استدلالكم هذا في نفي القياس في أحكام العبادات يفضي إلى إبطال استخدام القياس في جميع الأحكام الشرعية؛ وذلك أن جميع الأحكام مبنية على المصالح التي لا يعلمها إلا الله، وقد بطل هذا الاستدلال، وأجيب عنه في أثناء الرد على منكري القياس في جميع الأحكام ([66]).
وفي ضوء ما تقدم يعرف مدى ضعف قول بعض المعاصرين ممن منع القياس في العبادات بقوله: ((لا يشرع القياس في العبادات، لأن العبادات مبنية على نصوص الكتاب والسنة فلا يدخلها النظر والاعتبار))، فإن البناء على نصوص الكتاب والسنة لا يختص بالعبادات وحدها، بل البناء عليها جار في جميع الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات والمناكحات... إلخ، ولهذا فالاستدلال بمنع القياس في العبادات بكونها مبنية عليهما هو كلام لا حاصل من ورائه.
مبحث في ذكر أمثلة للقياس في أبواب العبادات والحدود والكفارات ونحوها:
بخلاف ما تقدم من أمثلة للقياس في العبادات وردت في ثنايا الكلام سابقا، فهناك العديد من المسائل الفقهية المتعلقة بالعبادات والحدود والكفارات ونحوها والتي اختلف فيها الفقهاءُ هل يجري فيها القياس أم لا؟
وسنعرض لكثير من النماذج التي ورد ذكرها في المذاهب الأربعة المتبعة، مما صرح فيه علماء هذه المذاهب أو بعضها بإجراء القياس في مسألة ما أو عدم إجرائه ؛ لكونه توقيفيا أو تعبديا، ودون تتبع لسائر المذاهب في كل مسألة حتى لا يطول الكلام على أن كثرة النماذج التي سنوردها تدل دلالة واضحة على التعامل الصحيح عند علماء المذاهب الأربعة مع قاعدة ما يجرى فيه القياس وما لا يجرى :
(1) تعين الماء للطهارة ورفع الحدث وإزالة النجس:
يرى جمهور الشافعية أن الماء مُتَعيَّن في الطهارة ورفع الحدث وإزالة النجس، وأن ذلك أمر تعبدي غير معقول المعنى، بينما يرى الحنفية أن إزالة النجس معقول المعنى إذ الغرض رفع عين النجاسة واستئصال أثرها، ومهما حصل ذلك بأي مائع رافع قالع فقد حصل المعنى المعقول ([67]).
(2) منع الرجل من استعمال فضل طهور المرأة:
يرى الحنابلة أن منع الرجل من استعمال فضل طهور المرأة تعبدي لا يعقل معناه، ولذلك يباح لامرأة سواها، ولها التطهر به في طهارة الحدث والخبث وغيرهما ؛ لأن النهي مخصوص بالرجل وهو غير معقول فيجب قصره على مورد ه([68]).
(3) الاستنجاء بغير الماء والحجر:
ذهب جمهور العلماء - من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - إلى جواز الاستنجاء بغير الماء والحجر من الجمادات الطاهرات ([69])، خلافا لابن حزم ([70])، فيُقاس على الحجر: كل جامد طاهر قالع غير محترم، كالورق والخِرَق وما يشبههما.
فالنص الذي ورد في هذه المسألة فيه معنًى معقول، والمعنى هو الإنقاء بإزالة النجاسة، وهذا يَحصُل بغير الأحجار كحصوله بها - فالحجر غير مقصود لذاته - فوجب تعديته إلى كلِّ ما يحصل به مثل: الخرق والورق ونحوهما، وهذا هو حقيقة القياس، أما الروث والعظم فقد ورد فيهما النص بالمنع.
(4) هل يقاس على لحم الإبل في نقض الوضوء:
يرى الحنابلة أن أكل الأطعمة المحرمة لا ينقض الوضوء، وأما اللحم الخبيث المباح للضرورة كلحم السباع فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي فلا يتعدى إلى غيره، أو معقول المعنى فيعطى حكمه بل هو أبلغ منه، والصحيح عندهم: أن الوضوء من لحم الإبل تعبدي ([71]).
(5) قياس العمامة على الخفين في جواز المسح عليها:
اختلف العلماء في جواز المسح على العمامة على أقوال:
فذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز المسح على العمامة، لأنه لا حرج في نزعها ([72]).
وذهب المالكية إلى أنه يجوز المسح على العمامة إن كان عن ضرورة، كخوفه من ضرر الرأس بسبب نزع العمامة، ولو أمكنه مسح بعض رأسه مَسَحَهُ وكمَّل على عمامته وجوبًا ([73]).
وقال الشافعية: يجوز المسح على العمامة وإن لبسها على حدث سواء أعسُر عليه رفعها أم لا، بأن لم يرد نزعها، ولا يكفي الاقتصار على العمامة بل يمسح بناصيته وعلى العمامة، والأفضل ألا يقتصر على أقل من الناصية.
وذهب الحنابلة إلى جواز المسح على العمامة ([74]).
واستدل المجوزون لجواز المسح على العمامة بالنص وبالقياس:
أولا بالنص: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فِعْلِه للمسح، ومن ذلك:
1- روى البخاري بسنده عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عِمامَته وخُفَّيه ([75]).
2- وروى مسلم بسنده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح بناصيته، وعلى العمامة ([76]).
وثانيا بالقياس: وينقسم إلى قسمين:
- قياس العمامة على الخفين، ووجهه أن العمامة حائل في محل ورد الشرع بمسحه، ويترتب على نزعها مشقة، فجاز المسح عليها كالخفين.
- قياس الرأس على القدمين، ووجهه أن الرأس عضو سقط فرضه في التيمم كما أن القدمين سقط فرضهما في التيمم، فجاز الاقتصار بالمسح على حائل دون الرأس، كما جاز المسح على حائل دون القدمين ([77]).
(6) غسل اليد بعد الاستيقاظ وقبل الغمس في الإناء هل هو تعبدي:
اختلف العلماء في الأمر بذلك (غسل اليد بعد الاستيقاظ وقبل إدخالها الإناء) هل هو تعبدي أو معقول المعنى، فقال بعضهم: هو تعبد حتى إن من تحقق طهارة يده في نومه بأن لف عليها ثوبًا أو خرقة طاهرة واستيقظ، وهو كذلك كان مأمورا بغسلها لعموم أمر المستيقظ بذلك، وهو أحد الوجهين للشافعية، وهو مشهور مذهب مالك أنه يستحب وإن تيقن طهارة يده، وأظهر الوجهين عند الشافعية - كما قال الرافعي - أنه لا يكره غمس اليد للمستيقظ مع تيقن طهارة يده ؛ لأنه إنما أمر بذلك لاحتمال النجاسة بدليل قوله في آخر الحديث: ((فإنه لا يدري أين باتت يده)) فعَلَّل الأمر باحتمال طرو نجاسة على يده والله أعلم.
إذا تقرر أن ذلك معقول المعنى، وأن الشارع أشار إلى العلة بقوله: ((فإنه لا يدري أين باتت يده)) فقد اختلف في سبب ذلك فقال الشافعي - رضي الله عنه -: معناه أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو قملة أو قذر أو غير ذلك. وقال أبو الوليد الباجي: اختلف في سبب غسل اليد للمستيقظ، فقال ابن حبيب: أما لعله قد مس نجاسة خرجت منه لم يعلم بها أو غير نجاسة مما يقذر، وقيل: لأن أكثرهم كانوا يستجمرون، وقد يمس بيده أثر النَّجْو، قال: وليس ذلك ببين ؛ لأن النجاسات لا تخرج في الغالب إلا بعلم منه، وما لم يعلم به فلا حكم له، وموضع الاستجمار لا تناله يد النائم إلا مع القصد لذلك، ولو كان غسل اليدين لتجويز ذلك لأمر بغسل الثياب لجواز ذلك عليها، قال: والأظهر ما ذهب إليه العراقيون من المالكيين وغيرهم أن النائم لا يكاد تسلم يده من حك مغابنه أو بثره في بدنه وموضع عرقه وغير ذلك فاستحب له غسل يده مطلقا ([78]).
(7) هل غسل الميت تعبدي؟
قطع الحنابلة بأن غسل الميت تعبدي لا يعقل معناه، لكنهم اختلفوا في تخريج بعض المسائل، منها: إذا خرج منه شيء بعد الثلاث فالصحيح من المذهب أنه يغسل إلى خمس، فإن خرج منه شيء بعد ذلك فإلى سبع، ولا يزاد عليها، وقال أبو الخطاب وابن عقيل: لا تجب إعادة غسله بعد الثلاث بل تغسل النجاسة ويوضأ ([79]).
واختلف المالكية فيه، فعلى المشهور هو تعبدي، لا للنظافة، وقيل: للنظافة، وتظهر ثمرة الخلاف عندهم إذا مات رجل مسلم وليس معه مسلم ومعه ذمي فعلى القول بأنه تعبدي لا يغسله الذمي ؛ لأنه ليس من أهل العبادة، وعلى القول بأنه للنظافة فيغسله الذمي ([80]).
واختلف الشافعية فيه أيضا: فقال بعضهم: ليس هو بمعقول المعنى، وإنما فعل استسلاما للشرع، وقال آخرون: بل هو معقول المعنى، فمن قال بهذا اختلفوا في معناه على وجهين: أحدهما: أن المعنى فيه نجاسة الميت، والغسل من الأنجاس مندوب إليه إن كان يابسا وواجب إن كان رطبا. والوجه الثاني: أن المعنى فيه حرمة الميت كما تلزم الطهارة لملامسة النساء الأحياء لحرمتهن ليصلي على الميت على أكمل طهارة ([81]).
(8) الطهارة: التعبد باستعمال الماء المطلق في رفع الحدث دون إزالة النجس عند الحنفية:
قال في العناية: ((... ( ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر ) لأنه ليس بماء مطلق والحكم عند فقده منقول إلى التيمم، والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية فلا تتعدَّى إلى غير المنصوص عليه.
وأما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضؤ به ؛ لأنه ماء يخرج من غير علاج، ذكره في جوامع أبي يوسف رحمه الله. وقوله: (لأنه ليس بماء مطلق) ؛ لأنه عند إطلاق الماء لا ينطلق عليه، وتحقيق ذلك أنا لو فرضنا في بيت إنسان ماء بئر أو بحر أو عين أو ماء اعتصر من شجر أو ثمر فقيل له: هات ماء لا يسبق إلى ذهن المخاطب إلا الأول، ولا نعني بالمطلق والمقيد إلا هذا (والحكم) وهو الطهارة (عند فقده) أي: فقد الماء المطلق (منقول إلى التيمم) قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]... ووجهه أن الوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه، ومعناه أن شرط القياس ألا يكون حكم الأصل معدولا به عن القياس، وليس فيما نحن فيه كذلك فلا يصح القياس، بخلاف إزالة النجاسة الحقيقية فإنها معقولة المعنى لوجودها حِسًّا فجاز فيها الإلحاق على قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
ولقائل أن يقول: هب أنه لا يمكن التعدية بطريق القياس فليلحق بطريق الدلالة فإن كونه معقولا ليس بشرط فيها.
والجواب: أن سائر المائعات ليس في معنى الماء من كل وجه ؛ لأن الماء مبذول عادة لا يبالي بحبسه وسائر المائعات ليس كذلك.
فإن قلت: فكيف ألحقته به في النجاسة الحقيقية ؟
قلت: قياسا لا دلالة ؛ لأنه معقول المعنى.
فإن قلت: من شرط الدلالة أن يكون الملحق في معنى الأصل في الوصف الذي هو مناط الحكم من كل وجه لا غير، والوصف فيما نحن فيه هو إزالة النجاسة، والماء والمائع سيان في ذلك، وكون الماء مبذولا لا مدخل له في ذلك.
قلت: إنهما سيان في إزالة النجاسة الحقيقية أو مطلقا، والأول مسلَّم وليس الكلام فيه والثاني ممنوع ([82]).
(9) الطهارة: الوضوء هل هو تعبدي؟
والقول بأنه (يعني الوضوء) تعبدي ضعيف، والمعتمد أنه معقول المعنى ؛ لأن الصلاة مناجاة للرب تعالى فطُلب التنظيف لأجلها، وإنما اختص الرأس بالمسح لستره غالبا، فاكتفى فيه بأدنى طهارة وخُصت الأعضاء الأربعة بذلك ؛ لأنها محل اكتساب الخطايا ([83]).
(10) قياس نجاسة الخنزير على الكلب:
قال الشيخ الجمل الشافعي: ((وقيس بالكلب الخنزير عند الشافعية، وأورد عليهم أن الحصر في السبع واشتراط التتريب تعبدي، والتعبديات لا يدخلها القياس. وأجيب: بأن القياس في أصل التنجيس وإذا ثبت لزم الغسل سبعا بالتراب، وعبارة المحلي: وقيس على الولوغ غيره كبوله وعرقه ؛ لأنه إذا وجب ما ذكر في فمه مع أنه أطيب ما فيه بل هو أطيب الحيوان نكهة لكثرة ما يلهث ففي غيره أولى انتهت، وفي القليوبي عليه قوله (لأنه إذا وجب) إلخ يشير إلى أن القياس من حيث الحكم بالنجاسة وإذا ثبت لزم الغسل سبعا بالتراب إذ لا فارق بين فضلاته فسقط ما قيل أنه لا قياس في التعبديات)) ([84]).
(11) التكبير في الصلاة لا يقاس عليه:
يرى الشافعية أن التكبير في الصلاة مخصوص غير معقول المعنى، فلا يقاس عليه غيره، ويرى الحنفية أن معنى التكبير معقول وهو التمجيد والتعظيم ([85]).
(12) إيجاب الصلاة بإيماء الحاجب:
وذلك في حق العاجز عن الإتيان بها بالقياس على إيجاب الصلاة قاعدا في حق العاجز عن القيام، أو على المومئ برأسه في حق العاجز أيضًا، فكل منهما ورد النص فيهما في حالة العجز، والجامع بينهم: هو العجز عن الإتيان بها على الوجه الأكمل ([86]).
فاتفق جمهور الفقهاء على أن المصلي إن عجز عن القيام يصلي قاعدا، فإن لم يستطع فمضطجعا بالإيماء بالرأس، ثم اختلف الحنفية مع الجمهور فيمَن عجز عن الإيماء بتحريك رأسه فهل يجب عليه الإيماء بالحاجب أو عينه أو لا؟
المعتمد عند المالكية والشافعية هو إيجاب الإيماء بالحاجب ([87])، وعند الحنابلة إن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه، أي: بعينه، يقول العلامة البهوتي: "قال أحمد: لابد من شيء مع عقله، وفي التبصرة: صلى بقلبه، أو طرفه. وفي الخلاف: أومأ بعينه وحاجبه، أو قلبه...، فلا تسقط الصلاة عن مريضٍ ما دام ثابتَ العقلِ لقدرته على الإيماء بطرفه مع النية بقلبه" ([88]).
فحيث كان العاجز حاضر العقل يفهم الخطاب مع وجود سبب الوجوب، وصلاحية الذم فتلزمه الصلاة، ولا يسقط عنه التكليف بها، فهو كالقادر على الإيماء برأسه، وهو وُسْعُ مثلِه، فيأتي بما يستطيعه، وذلك بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" ([89]).
ونُقل عن زفر والحسن بن زياد من الحنفية، وهي رواية عن أبي يوسف بأن عليه أن يومئ بحاجبه أو عينيه، واستدل زفر بأن الصلاة فرض دائم لا يسقط إلا بالعجز، فما عجز عنه يسقط وما قدر عليه يلزمه بقدره، فإذا قدر بالحاجبين كان الإيماء بهما أولى؛ لأنهما أقرب إلى الرأس، فإن عجز يومئ بعينيه؛ لأنهما من الأعضاء الظاهرة، وجميع البدن ذو حظ من هذه العبادة فكذا العينان، فإن عجز فبالقلب؛ لأنه في الجملة ذو حظ من هذه العبادة وهي النية، والنية شرط لصحتها، فعند العجز تنتقل إليه ([90]).
والمعتمد عند الحنفية أن المصلي لو عجز عن الإيماء - ولا يكون الإيماء إلا بتحريك الرأس عندهم، أما التحريك بالعين والحاجب فيسمى إشارة ([91]) - فلا شيء عليه، واستدلوا بأحاديث تدل على أن المريض معذورٌ عند الله تعالى في هذه الحالة، فلو كان عليه الإيماء بما ذُكِر لما كان معذورا ؛ ولأن الإيماء ليس بصلاة حقيقة، ولهذا لا يجوز التنفل به في حالة الاختيار، ولو كان صلاة لجاز، كما لو تنفل قاعدا، إلا أنه أُقيم مقام الصلاة بالشرع، والشرع ورد بالإيماء بالرأس فلا يقام غيره مقامه، ونصب الأبدال ([92]) بالرأي ممتنع ولا قياس على الرأس، لأنه يتأدَّى به ركن الصلاة دون العين وأختيها، ثم إذا سقطت عنه الصلاة بحكم العجز فإنْ مَاتَ مِن ذلك المرض لقي الله تعالى ولا شيء عليه ؛ لأنه لم يدرك وقت القضاء ([93]).
فمدار احتجاجهم لعدم ثبوت صلاة بإيماء الحاجب يتعلق في كونها صلاة مبتدأة خارجة عن جملة الصلوات الشرعية الثابتة بالشرع، والتي وقع العلم بورود التعبد بها، فلا يصح إثباتها بالقياس.
ويجاب عليهم بأننا نمنع كون مسألة الصلاة بإيماء الحاجب متعلقةً بإيجاب صلاة أخرى خارجة أو زائدة على الصلوات الشرعية الخمس، بل إننا نعتبرها من جملة الفروع المندرجة تحت أصل من الأصول، ولا نرى مانعا من إعطاء الفرع حكم الأصل متى ظهرت علة الأصل، وقد تحققت هذه العلة في الفرع.
وإن هذه الصلاة هي الصلاة المعهودة التي وقع العلم بورود التعبد بها، وإنما سقط سائر أفعالها للعذر، فبقي الممكن منها واجبًا، فالقياس هاهنا ليس لإثبات صلاة جديدة، وإنما لإبقاء الوجوب على ذمة المكلف في هذه الحالة، وكذلك فإن عدم نقلها لا يدل على عدم الجواز ([94]).
(13) الصلاة: الركوع والسجود أمر تعبدي:
قال في مجمع الأنهر: ((... ( والركوع ) وهو الانحناء والميل (والسجود) وهو وضع الجبهة أو الأنف على الأرض بطريق الخضوع لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والمراد بالسجود السجدتان ؛ لأن اسم الجنس يدل على العدد عن أئمة العربية إلا أنه خلاف ما عليه علماؤنا كذا في القهستاني. وقال المحققون من مشايخنا: هو أمر تعبدي لم يعقل له معنى)) ([95]).
(14) وجوب الزكاة في ما يستخرج من المعدن:
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
ذهب الحنفية إلى أن كل المعادن الجامدة المستخرجة من الأرض مما ينطبع بالنار – أي: يذوب ويلين بالنار - تجب فيه الزكاة، فأما المعادن السائلة أو الجامدة التي لا تنطبع فلا شيء فيها عندهم، وإنما قالوا ذلك قياسا على الذهب والفضة الَّذَينِ ثبت وجوب الزكاة فيهما بالنص والإجماع، فيقاس عليهما ما أشبههما، وذلك هو الذي ينطبع بالنار من المعادن ([96]).
وأوجبوا الخمس فيه، واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة والقياس، فقاسوا المعدن على الكنز الجاهلي، بجامع ثبوت الغنيمة في كل منهما.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن المستخرج من المعدن إذا كان من الذهب والفضة وجبت فيه الزكاة، أما غيرهما فلا زكاة فيه ([97])، قال النووي: "دليلنا: أن الأصل عدم الوجوب، وقد ثبت في الذهب والفضة بالإجماع، فلا تجب فيما سواه إلا بدليل صريح" ([98]).
وذهب الحنابلة إلى وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة، سواء أكان الخارج من الجامد الذي ينطبع أو لا ينطبع، أم من المعادن الجارية كالنفط والكبريت، فكل ما وقع عليه اسم المعدن ففيه الزكاة ([99]).
واستدل الحنابلة على دخول كل خارج من الأرض من جامد أو مائع في المعادن التي تجب فيها الزكاة بعموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] الذي يدل على شمول جميع ما خرج من الأرض.
وبالقياس، فإن المعدن من حيث اللغة يشملهم كلهم، فتتعلق الزكاة بالخارج منه كالذهب والفضة، وكذلك فإنه مال لو غَنِمَه وجب عليه خمسه، فإذا أخرجه من معدن وجبت فيه الزكاة كالذهب ([100]).
(15) قياس كل ما يقتات على ما ورد فيه زكاة الفطر:
ومن أمثلة القياس الذي قام به الفقهاء في مسائل الزكاة أيضا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قد شرع إخراج زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار كالشعير والتمر والزبيب، فقاس عليهم الشافعية كل ما يقتات، أو غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدا فلا يقاس عليها ([101]).
(16) النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هل هو تعبدي:
ذكر بعض المالكية في قوله - صلى الله عليه وسلم-: "من اشترى طعاما فلا يبيعه حتى يكتاله"، وفي رواية: "حتى يستوفيه"، وفي رواية: "حتى يقبضه" ([102]): أنه اختلف في وجه الحرمة فقيل: تعبدي، وقيل: معلل بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام؛ ليتوصل إليه القوي والضعيف ([103]).
(17) قياس النباش على السارق:
يرى الشافعية قياس النباش على السارق في وجوب القطع بجامع أخذ مال الغير من حرز خفية ([104]). فأجروا بذلك القياس في باب الحدود.
(18) قياس القاتل عمدا في وجوب الكفارة:
يرى الشافعية قياس القاتل عمدا على القاتل خطأ في وجوب الكفارة بجامع القتل بغير حق ([105]). فأجروا بذلك القياس في باب الحدود أيضا.
(19) النفقات: قياس نفقة الزوجة على الكفارة:
يرى الشافعية قياس نفقة الزوجة على الكفارة في تقديرها على الموسر بمدين كما في فدية الحج، والمعسر بمد كما في كفارة الوقاع، بجامع أن كلا منهما مال يجب بالشرع ويستقر في الذمة، وأصل التفاوت من قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
(20) من عدة النساء ما هو تعبدي ومنها ما هو معقول المعنى:
قال البعلي الحنبلي: ((العِدَد واحدها عِدّة بكسر العين فيهما مأخوذ من العدد بفتحها؛ لأن أزمنة العدة لعدد الأزمان والأحوال كالحيض والأشهر، والمقصود منها العلم ببراءة الرحم غالبا، وهي أربعة أقسام: تعبدي محض كعدة المتوفي عنها من زوج لا يلحق به الولد، ولمعنى محض كالحامل، أو يجتمع الأمران والتعبد أغلب، كالمتوفى عنها الممكن حملها إذا مضت أقراؤها في أثناء الشهور، وبالعكس كعدة الموطوءة التي يمكن حملها ممن يولد لمثله، وهي التربص المحدود شرعا، لا عدة واجبة في فرقة زوج حي قبل وطء وقبل خلوة ولا بقبلة أو لمس)) ([106]).
(21) الذبائح: الذبح بالعظام:
النهي عن الذبح بالعظام عند الشافعية قيل: تعبدي، وبه أخذ ابن الصلاح قال: ((ولم أجد بعد البحث أحدا ذكر لذلك معنى يعقل وكأنه تعبدي عندهم))، ومال إليه ابن عبد السلام. وقال النووي في شرح مسلم: معناه لا تذبحوا بها فإنها تنجس بالدم ([107]).
خاتمة:
قد اتضح مما سبق أن قاعدة (لا قياس في العبادات) لا يصح أن تستخدم بإطلاق، وفي غير محلها، لأن هذا الاستخدام يخرجها عن الإطار الفقهي والأصولي الذي تكلَّم فيه العلماء، وقد ذكرنا اختلاف العلماء في تعليل العبادات والقياس عليها على مذهبين.
وذكرنا عددا من المسائل التي صرح فيه علماء المذاهب الأربعة أو بعضها بإجراء القياس في مسألة ما لكونه معقول المعنى، أو عدم إجرائه لكونه توقيفيًّا أو تعبديًّا.
وفى ضوء هذا يتبين ما يمكن أن يوجه من نقد فقهي لمسلك كثير من المعاصرين من التوسع والإسراف في المنع باستخدام قاعدة (لا قياس في العبادات) بإطلاق دون تدبر للمسألة هل هي معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى، وقد تسبب التطبيق الخطأ لهذه القاعدة في كثير من الآراء الفقهية الجانحة عن المنهج الفقهي السديد الذي صار عليه أئمة الأمة، وهناك العديد من النماذج التي يمكن ذكرها في هذا الصدد، وسنقتصر على بعضها لنرى مدى صحة أو خطأ تطبيق هذه القاعدة:
1- الاحتفال بالمولد الشريف: فقد اعترض على الاحتفال به بأنه عبادة، والأصل في العبادات أنها توقيفية، ولم يرد توقيف بالاحتفال بالمولد.
والجواب - كما ذكر السيوطي - أن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، والاحتفال بالمولد الشريف وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على أصلين استخرج أحدهما الحافظ ابن حجر العسقلاني، واستخرج الآخر الإمام السيوطي، وأصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة، وما ضم إليه من بعض الأمور المنكرات كالاختلاط المحرم مذموم ممنوع، كما يقع ذلك أحيانا عند اجتماع الناس في صلاة التراويح أو صلاة العيد في الساحات، فلا نمنع من الاجتماع لها ؛ لأجل هذه الأمور التي قرنت بهما، بل نقول: أصل الاجتماع لمثل هذه الشعائر سنة وقربة، وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح وشنيع، أما بيان أن الاحتفال بالمولد الشريف قربة، فقياس على الأصل العام من الشريعة بالحث على إظهار شكر النعم، والحث على الصبر والسكون والكتم عند المصائب، وقد أمر الشارع بالعقيقة عند الولادة إظهارا للشكر والفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بمثل ذلك، بل نهى عن النياحة وإظهار الضجر، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في شهر ربيع الأول إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، غير إظهار الحزن فيه بوفاته، قال الحافظ ابن حجر: ((وقد ظهر لي تخريجه على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى... )) فيستفاد منه فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معين إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فينبغي أن يتحرَّى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء... وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك، فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضى السرور بذلك اليوم، لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى)) ([108]).
2- تحديد يوم ما لزيارة المقابر: وهذا التحديد جائز، وقد استدل الحافظ ابن حجر على جوازه بأن الرسول عليه الصلاة والسلام، كان يزور قباء كل سبت ([109]). واعترض على هذا بأنه لا يصح هذا القياس، فإن هذه عبادة ولا يصح القياس في العبادات، والجواب عن هذا الاعتراض واضح مما تقدم في البحث.
وهناك العديد من المسائل التي يكثر السؤال عنها: كإهداء ثواب قراءة القرآن وغير ذلك من أعمال البر للميت، وكالتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالصالحين والتبرك بآثارهم، وكالتلفظ بالنية، وتعظيم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ السيادة، وإهداء ثواب الأعمال إليه - صلى الله عليه وسلم - وقد منع المانعون – على غير صواب – كل هذا بناء على أن هذه الأمور من العبادات، ولا قياس فيها.
وقد علمنا من خلال هذا البحث، أن استعمال هذه القاعدة بإطلاق ليس بصواب، وأنه لا ينبغي التسرع في تطبيق هذه القاعدة، وأنه لا بد في كل مسألة من النظر فيها هل هي مما يعقل معناه أو مما لا يعقل معناه، ولهذا فلا بد من النظر الفقهي في كل مسألة على حدة، وجمع الأدلة الشرعية فيها، والنظر في أشباهها ونظائرها، وتدبر معناه وعلته وحكمتها.
والله تعالى أعلم.
المصادر والمراجع
- إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، ومعه حاشية الصنعاني المسمى "العدة"، حققه وعلق عليه: علي بن محمد الهندي، قدم له وأخرجه وصححه: محب الدين الخطيب، القاهرة: المكتبة السلفية، ط2، 1409هـ.
- أصول السرخسي، للإمام شمس الأئمة أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، بتحقيق أبو الوفا الأفغانى ، بيروت: دار الكتب العلمية ، ط 1 ، 1414 هـ /1993 م.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للمرادوي (علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي ت 885هـ)، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1419هـ.
- البحر المحيط، بدر الدين الزركشي، القاهرة: دار الكتبي.
- البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين الجويني، دارسة وتحقيق أ. د عبد العظيم الديب، مط الدوحة الحديثة، على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير قطر، ط 1، 1399 هـ.
- الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للآبي (صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري، ت 1335هـ)، بيروت: المكتبة الثقافية، د ت.
- الحاوي للماوردي (أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، ت 450هـ)، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ / 1994 م.
- الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، تحقيق: د. مازن المبارك، بيروت: دار الفكر المعاصر، مطبوعات مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، ط، 1411هـ- 1991م.
- الخلاف اللفظي عند الأصوليين، د. عبد الكريم بن محمد النملة، الرياض: مكتبة الرشد، ط2، 1420هـ/ 1999م.
- الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس، د. عبد الكريم بن محمد النملة، الرياض: مكتبة الرشد، ط3، 1422هـ/ 2001م.
- الفصول في الأصول، أبو بكر الجصاص، الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية.
- الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للنفراوي (أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي، ت 1126هـ)، تحقيق رضا فرحات، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د ت.
- القياس عند الأصوليين، أ. د علي جمعة، القاهرة: دار الرسالة، ط1، 1427هـ/ 2006م.
- القياس في العبادات، حكمه وأثره، محمد منظور إلهي، الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1424هـ/ 2004م.
- المجموع شرح المهذب، محيي الدين النووي، القاهرة: المطبعة المنيرية.
- المحصول في علم أصول الفقه، فخر الدين الرازي، تحقيق د. طه جابر فياض علواني، بيروت: مؤسسة الرسالة.
- المستصفى، لحجة الإسلام الغزالي، القاهرة: المطبعة الأميرية ببولاق، ط1، 1322هـ.
- المصباح المنير، الفيومي، بيروت: دار الكتب العلمية.
- المغني، ابن قدامة المقدسي، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المالكي، تحقيق وتعليق د. محمد عبد الله دراز، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أبو بكر الكاساني، بيروت: دار الكتب العلمية.
- بذل النظر في الأصول، محمد بن عبد الحميد الأسمندي الحنفي (ت 552 هـ)، تحقيق: د. محمد زكي عبد البر، القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 1، 1412هـ- 1992م.
- بيان المختصر لشمس الدين الأصفهاني، دراسة وتحقيق أ. د علي جمعة محمد، القاهرة: دار السلام، ط1، 1424 هـ / 2004 م.
- تاج العروس، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الملقَّب بـ"المرتضى الزَّبيدي"، من طباعة التراث العربي سلسلة تصدرها وزارة الإعلام في الكويت، تحقيق مجموعة من المحققين.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، فخر الدين الزيلعي، القاهرة: المطبعة الكبرى الأميرية، ط1، 1313هـ.
- تخريج الفروع على الأصول، أبو المناقب محمود بن أحمد الزنجاني، تحقيق: د. محمد أديب صالح، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1398هـ.
- تقويم الأدلة للدبوسى ، تحقيق محمد خليل الميس ، بيروت : دار الكتب العلمية، ط1 ، 1421 هـ / 2001 م .
- جمع الجوامع، للتاج ابن السبكي، مع شرح الجلال المحلي عليه، وحاشية الشيخ عبد الرحمن الشربيني، القاهرة: مط الخيرية، ط 1، 1308 هـ.
- حاشية الصعيدي العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، بيروت: دار الفكر.
- رد المحتار على الدر المختار، المسمى بـ"حاشية ابن عابدين"، محمد أمين عابدين، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط2، 1407هـ- 1987م.
- شرح الإمام جلال الدين المحلي على جمع الجوامع - مع حاشية الشيخ حسن العطار-، بيروت: دار الكتب العلمية.
- شرح التلويح على التوضيح، مسعود بن عمر الشهير بـ" سعد الدين التفتازاني"، مصر: القاهرة: مكتبة صبيح.
- شرح الكوكب المنير، محمد الفتوحي الحنبلي المعروف بـ"ابن النجار"، تحقيق: د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد، الرياض: مكتبة العبيكان، 1413هـ- 1993م.
- شرح مختصر المنتهى الأصولي، عضد الدين الإيجي، ومعه حاشية: سعد الدين التفتازاني، والشريف الجرجاني، والفناري، وأبي الفضل الجيزاوي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ- 2004م.
- شرح منتهى الإرادات، محمد الفتوحي الحنبلي المعروف بـ"ابن النجار"، بيروت: عالم الكتب.
- صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، اليمامة، ط الثالثة 1407 هـ - 1987م.
- صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- فتح القدير، كمال الدين بن عبد الواحد (ابن الهمام)، بيروت: دار الفكر.
- فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط الثانية 1393هـ- 1973م.
- كشاف القناع، محمد الفتوحي الحنبلي المعروف بـ"ابن النجار"، بيروت: دار الكتب العلمية.
- ما لا يجري القياس فيه، محمد نصار الحريتي، أطروحة ماجستير في الشريعة، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، تحت إشراف: د. محمد بلتاجي حسن، 1421هـ-2000م.
- مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام، د. خليفة بابكر الحسن، القاهرة: مكتبة وهبة، ط الأولى 1409هـ - 1989م.
- مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب المالكي، بيروت: دار الفكر.
- ميزان الأصول في نتائج العقول، لعلاء الدين السمرقندي الحنفي (ت 539 هـ)، تحقيق أ. د محمد زكي عبد البر، القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 2، 1418 هـ / 1997 م.
- نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول، عيسى منون، القاهرة: دار العدالة.
- نهاية السول شرح منهاج الأصول، جمال الدين الإسنوي، ومعه حاشية محمد بخيت المطيعي، بيروت: عالم الكتب، مصورة على الطبعة السلفية.
- نهاية المحتاج، محمد بن شهاب الدين الرملي، بيروت: دار الفكر.
الهوامش:
([1]) راجع : لسان العرب ، والقاموس المحيط ، ومصباح المنير ، مادة ( ق ي س ) ، وانظر أيضا : شرح مختصر ابن الحاجب، عضد الدين الإيجي، (3/279)، ونهاية السول شرح منهاج الوصول، جمال الدين الإسنوي، (4/2)، والقياس عند الأصوليين، د. علي جمعة، ص (31)، والرخص الشرعية وإثباتها بالقياس، د. عبد الكريم النملة، ص (148- 149).
([2]) انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول، جمال الدين الإسنوي، مع حاشية المطيعى (4/2).
([3]) انظر: تاج العروس، المرتضى الزبيدي، (8/331).
([4]) الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، زكريا الأنصاري، ص (77).
([5]) رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، (1/72)، وانظر أيضا: الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، زكريا الأنصاري، ص (77).
([6]) هناك أمور تتضمن معنى العبادة وغيرها مثل الكفارات، فهي مشروعات دائرة بين العبادة والعقوبة، أما تضمنها معنى العبادة؛ فلأنها تؤدى بالصوم ونحوه كالصدقة والإعتاق، وتشترط نية الكفارة في أدائها، وفوِّض أدائها إلى مَن وجبت عليه، وأما تضمنها معنى العقوبة، فلأنها لم تجب ابتداء تعظيما لله تعالى كسائر العبادات، بل وجبت جزاء للعبد على ارتكاب المحظور. كما أن هناك أمورا تتضمن معنى التعبد وغيره، مثل الحدود، فإنها شرعت زواجر، وهي تتضمن أيضا معنى التعبد لما فيها من عقوبات مقدَّرة من قبل الشارع.
انظر: المستصفى، الإمام الغزالي، (2/324)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الزيلعي، (3/108)، والقياس في العبادات، محمد منظور إلهي، ص (421).
([7]) حاشية الشربيني على شرح جمع الجوامع (2/136) .
([8]) المقصود بأصول الأحكام هنا : أبواب الفقه الأساسية أو الكبرى كالصلاة والصيام والزكاة والحج ... إلخ.
([9]) تقويم الأدلة للدبوسى (ص 301) ، أصول الفقه للسرخسى (2/144) ، البحر المحيط (6/390) .
([10]) الموافقات (3/46) .
([11]) للتوسع حول التعبديات وما يتعلق بها، راجع : الموسوعة الفقهية (الكويت)، 12/201 - 214) .
([12]) الفروق للقرافي (3/493) .
ومن طريف ما قيل في هذا الشأن : إذا عجز الفقيه عن تعليل الحكم قال : هذا تعبدي وإذا عجز عنه النحوي قال : هذا مسموع وإذا عجز عنه الحكيم قال : هذا بالخاصية. (الأشباه والنظائر للسيوطي 2/245).
([13]) الفروق للقرافي (3/165) .
([14]) نقله فى مواهب الجليل (1/256) .
([15]) رد المحتار لابن عابدين، (1/ 483) .
([16]) البجيرمي على الخطيب (2/175) .
([17]) شرح الكوكب المنير (2/411) .
([18]) انظر: القياس في العبادات، منظور إلهي، ص (267).
([19]) ولهذا نجد بعض العلماء يحاول الاجتهاد في البحث عن الحكمة في مثل أعداد الصلوات مثلا، مع كون كثير من العلماء أكد على أن ذلك غير معقول المعنى وأنه تعبدي، فيأتي أحد العلماء ويحاول الاجتهاد في الوصول لحكمتها، يقول الشيخ البجيرمي : الحكمة في كون المكتوبات سبعة عشر ركعة أن زمن اليقظة من اليوم والليلة سبعة عشر ساعة غالبا اثنا عشر نهارا، ونحو ثلاث ساعات من الغروب وساعتين من الفجر فجعل لكل ساعة ركعة جبرا لما يقع فيها من التقصير وحكمة اختصاص الخمس بهذه الأوقات تعبدي كما قاله أكثر العلماء وأبدى غيره حكما، من أحسنها تذكر الإنسان بها نشأته إذ ولادته كطلوع الشمس ونشؤه كارتفاعها، وشبابه كوقوفها عند الاستواء وكهولته كميلها وشيخوخته كقربها للغروب وموته كغروبها، وفناء جسمه كانمحاق أثرها بذهاب الشفق فوجبت العشاء حينئذ تذكيرا لذلك كما أن كماله في البطن وتهيئته للخروج كطلوع الفجر الذي هو مقدمة لطلوع الشمس فوجب الصبح حينئذ لذلك، وكان حكمة كون الصبح ركعتين بقاء الكسل والعصرين أربعا أربعا توفر النشاط عندهما والمغرب ثلاثا أنها وتر النهار، ولم تكن واحدة لأنها بتراء من البتر وهو القطع، وألحقت العشاء بالعصرين لتجبر نقص الليل عن النهار إذ فيه فرضان وفي النهار ثلاثة لكون النفس على الحركة فيه أقوى (البجيرمي على المنهج 2/132-133) .
([20]) القياس في العبادات، منظور إلهي،، ص (308).
([21]) راجع : الشبراملسي على نهاية المحتاج (15/71) .
([22])كشف المخدرات للبعلي الحنبلي (1/447) .
([23]) القياس في العبادات، منظور إلهي،، ص (380).
([24]) انظر: تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، ص (111).
([25]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الزكاة» باب «أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء» حديث (1425)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام» حديث (19).
([26]) انظر: تخريج الفروع على الأصول، الزنجاني، ص (110- 111)، والقياس في العبادات، منظور إلهي، ص (368).
([27]) الموافقات، الشاطبي، (2/236).
([28]) نهاية المحتاج (1/481)، وحواشي الشرواني والعبادي (1/186)، البجيرمي على الخطيب (1/407 – 408، 13/119) .
([29]) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد الشافعي (1/29)، طرح التثريب لولي الدين العراقي الشافعي (2/134) . البحر الرائق لابن نجيم الحنفي (1/488 – 489) .
([30]) رد المحتار لابن عابدين، (1/482 - 483) .
([31]) البحر المحيط، الزركشي، (7/90).
([32]) حاشية ابن عابدين (1/301)، الموسوعة الفقهية (الكويت)، (12/208) .
([33]) البحر المحيط (6/389) .
([34]) الجمل على المنهج (5/403) .
([35]) الجمل على شرح المنهج (1/543 – 544) .
([36]) انظر: نبراس العقول، الشيخ: عيسى منون، ص (139).
([37])أصول السرخسي (2/179) باختصار .
([38]) أصول السرخسي (2/142) .
([39]) الإبهاج شرح المنهاج (2/299 – 300) .
([40]) البحر المحيط (6/381 - 388) باختصار .
([41]) الإحكام للآمدي (4/272) .
([42]) شرح الكوكب المنير (2/406) .
([43]) وردت هذه العبارة عند الرملي في شرح الزبد المسمى غاية البيان (1/ 155)، كما وردت عند ابن تيمية في مجموع الفتاوى (6/452) .
([44]) قال الصنعاني في حاشيته تعليقا على كلام ابن دقيق العيد: "التعبُّد يقال في مقابلة ما يظهر وجهُه، ويُلْحَق به غيرُه قياسًا، وما ليس كذلك يقال له "تعبدي" ليس له طريق إلا التوقيف من الشرع".
فإن أريد بالتعبد "عدم تعقل المعنى (العلة)"، والوقوف عند الأحكام الشرعية المنصوصة، وعدم إدراك عللٍ لها على الخصوص- فهذا المعنى يتعارض مع مبدأ التعليل والقياس، فيكون الحكم تعبُّديًّا محضًا لا يُهتدَى إلى علته، وهذا يجري في العبادات وغيرها، ولا خلاف في ذلك.
انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، ومعه حاشية الصنعاني المسمى "العدة"، (2/157).
([45]) انظر: كشاف القناع، البهوتي، (2/65- 66).
([46]) انظر: البحر المحيط، الزركشي، (7/90)، والقياس في العبادات، منظور إلهي، ص (265).
([47]) بذل النظر في الأصول، الأسمندي، ص (623)، وانظر: الفصول في الأصول، الجصاص الرازي، (4/105- 109)، وشرح التلويح على التوضيح، التفتازاني (2/113)، وشرح العلامة المحلي على جمع الجوامع (2/135)، والبحر المحيط، الزركشي، (7/70).
على أنه قد اختلف في حكاية مذهب أبي حنيفة، فظاهر كلام الأسمندي الحنفي أنه يمنع القياس في أصول العبادات، والذي حكاه التاج السبكي أن أبا حنيفة يمنعه في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات، ثم قال : ((ومنعه قوم في أصول العبادات))، فجعله مذهبا آخر غير مذهب أبي حنيفة .
([48]) انظر: المحصول، الإمام الرازي، (5/348).
([49]) انظر: المحصول، الإمام الرازي، (5/348)، ونهاية السول، جمال الدين الإسنوي (4/36- 38)، وشرح العلامة المحلي على جمع الجوامع (2/245)، وشرح الكوكب المنير (4/220).
([50]) الحاوي، للماوردي، (5/92) . المجموع للنووي (2/56) .
([51]) نهاية المحتاج (9 /468)، حاشية الجمل (10/278)، البجيرمي على المنهج (1/435) .
([52]) روضة الناظر (1/317) .
([53]) سنن النسائي (5/225) حديث رقم (2886) ولفظه: ((إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)).
([54]) البرهان، لإمام الحرمين، (2/895 - 964)، باختصار واسع .
([55]) حاشية الشربيني على شرح جمع الجوامع (2/135)، وما بين الأقواس زيادة منا للتوضيح .
([56]) انظر : بيان المختصر، للأصفهاني (2/691 – 692) .
([57]) وهذان الأمران هما سبب الخلاف أيضا في مسألة جريان القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات.
([58]) ميزان الأصول للسمرقندي، (ص 629) .
([59]) ويسميها بعضهم "دلالة الدلالة" أو "دلالة معنى النص" - هي عين "مفهوم الموافقة" بقسميه الأولى والمساوي الذي اصطلح عليها المتكلمون، وتسمى هذه الدلالة "فحوى الخطاب" أي: مقصده ومرماه، ويعتبرها الشافعي من "القياس الجلي".
([60]) انظر: أصول السرخسي، (1/241)، والبحر المحيط، الزركشي، (5/129)، التقرير والتحبير، ابن أمير حاج، (1/109- 110)، شرح العلامة المحلي على جمع الجوامع (2/244- 245)، شرح الكوكب المنير (3/486)، ومناهج الأصوليين، د. خليفة بابكر الحسن، ص (175)، وأصول الفقه، د. محمد مصطفى شلبي، (1/483)، وأصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، (1/353- 355).
([61]) العناية شرح الهداية (1/91 – 93) .
([62]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «التيمم» باب «التيمم ضربة» حديث (340)، ومسلم في كتاب «الحيض» باب «التيمم» حديث (368) واللفظ له.
([63]) انظر: البحر المحيط، الزركشي، (5/129)، التقرير والتحبير، ابن أمير حاج، (1/109- 110)، شرح العلامة المحلي على جمع الجوامع (2/244- 245)، شرح الكوكب المنير (3/486)، ومناهج الأصوليين، د. خليفة بابكر الحسن، ص (175)، وأصول الفقه، د. محمد مصطفى شلبي، (1/483)، وأصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، (1/353- 355).
([64]) بذل النظر، الأسمندي، (ص 623) .
([65]) انظر: نبراس العقول، عيسى منون، ص (140).
([66]) انظر: شرح العلامة المحلي لجمع الجوامع، (2/245)، والرخص الشرعية وإثباتها بالقياس، د. عبد الكريم النملة، ص (185)، وما لا يجري القياس فيه، محمد نصار الحريتي، ص (173) وما بعدها.
([67]) راجع : البرهان لإمام الحرمين، (2/911) .
([68]) الإنصاف، للمرداوي، (1/48) .
([69]) انظر: فتح القدير، ابن الهمام، (1/215)، ومواهب الجليل، الحطاب المالكي، (1/286)، ونهاية المحتاج، الرملي، (1/143- 148)، وكشاف القناع، البهوتي، (1/68- 69).
([70]) انظر: المحلي، ابن حزم، (1/109- 111).
([71]) الإنصاف، للمرداوي، (1/161) .
([72]) انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، (1/272).
([73]) انظر: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/195).
([74]) انظر: كشاف القناع، البهوتي، (1/119).
([75]) انظر: صحيح البخاري في كتاب «الوضوء» باب «المسح على الخفين» حديث (202).
([76]) انظر: صحيح مسلم في كتاب «الطهارة» باب «المسح على الناصية والعمامة» حديث (274).
([77]) انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، (1/184- 185).
([78]) طرح التثريب (1/456 – 457) .
([79]) الإنصاف للمرداوي، (2/345) .
([80]) الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للآبي، (1/266) .
([81]) الحاوي للماوردي (1/377) .
([82]) العناية شرح الهداية (1/91 – 93) .
([83]) البجيرمي على الخطيب (1/407 – 408) .
([84]) الجمل على شرح المنهج (1/543 – 544) .
([85]) راجع : البرهان لإمام الحرمين، (2/960 – 964) .
([86]) انظر: نهاية السول، جمال الدين الإسنوي (4/36- 38)، وشرح الكوكب المنير (4/220).
([87]) انظر: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، (1/346)، ونهاية المحتاج، محمد بن شهاب الدين الرملي (1/469- 470).
([88]) شرح منتهى الإرادات (1/288).
([89]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» باب «الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم» حديث (6858) واللفظ له، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «توقيره صلى الله عليه وسلم» حديث (1337).
([90]) انظر: بدائع الصنائع، الكاساني، (1/107).
([91]) انظر: فتح القدير، ابن الهمام، (2/5).
([93]) انظر: بدائع الصنائع، الكاساني، (1/107- 108)، وفتح القدير، ابن الهمام، (2/5).
([94]) انظر: الخلاف اللفظي عند الأصوليين، د. عبد الكريم النملة، (2/184- 185).
([95]) مجمع الأنهر (1/239) .
([96]) انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، (2/318)، وفتح القدير، ابن الهمام، (2/233)، وفقه الزكاة، د. القرضاوي، (1/438).
([97]) انظر: شرح كفاية الطالب الرباني - مع حاشية العدوي - (1/490)، ونهاية المحتاج، الرملي، (3/96).
([98]) المجموع، النووي، (6/39).
([99]) انظر: كشاف القناع، البهوتي، (2/222- 223)، والمغني، ابن قدامة، (2/330).
([100]) انظر: المغني، ابن قدامة، (2/330- 331).
([101]) انظر: المجموع، النووي، (6/95)، وفقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، (1/28- 29).
([102]) أخرجه مسلم في صحيحه، باب بطلان المبيع قبل القبض، حديث رقم (3925)، ورقم (3919)، ورقم (3921).
([103]) الفواكه الدواني، للنفراوي، (3/1097) .
([104]) المحلي على جمع الجوامع، (2/135) .
([105]) المحلي على جمع الجوامع، (2/135) .
([106])كشف المخدرات للبعلي الحنبلي (1/447) .
([107]) الإقناع للخطيب الشربيني (2/232)، الجمل على شرح المنهج (10/353) .
([108]) راجع : حسن المقصد فى عمل المولد للسيوطى (ص 51، 53 – 56، 63 – 64) .
([109])أخرجه البخاري (1193)، ومسلم (1399) .
كتبه:
مصطفى عبد الله عبد الحميد (الباحث بقسم الأبحاث الشرعية)
عصام أنس الزفتاوي (الباحث بقسم الأبحاث الشرعية)
راجعه:
عصام أنس الزفتاوي (الباحث بقسم الأبحاث الشرعية)
حكّمه وأجازه للنشر:
أ.د/ عبد الله ربيع عبد الله (أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر)
|