الجمجمة
كـان المنظر هادئا.. ذلك الهدوء الرهيب الذي يجعلك تتجمد مكانك خوفا من أن تخلق جلبة و تُلفت انتباه شيء ما..
شيء ما يُراقبك و ينتظر الفرصة لينقض عليك، شيء له ملامح تقشعر لها الأبدان و تشيخ لهولها الولدان..
ملامح لا تذكرك بملامح الإنسـان في شيء.. ولا حتى ملامح الحيوان... ملامح.. تفضل البقاء مكانك عند رؤيتها..
لأن مصيرك لا جدال فيه...
مقدمة لابد منها لسوء الحظ
أنا طالب في السنة الثانية بكلية الطب بمدينة الدار البيضاء - المغرب طبعا -، أعيش وحيدا بشقة صغيرة، و أنتم تعرفون بلا شك حياة كهذه، إنها حياة مليئة بالصحون المتسخة و الجوارب التي تجدها في كل ركن.. إضافة إلى الملل الذي يجثم على نفسك كوحش مريـع و... حسنا، لأكون أكثر واقعية سأقول إني أفضل الموت حرقا على القيام بأي عمل منزلي سخيف..
هناك جارٌ صديقٌ لي يقطن بالشقة المجاورة، وهو لطيف - لحسن الحظ -، اسمه (عزّوز)... شاب في الثلاثينات من عمره، أعزب وبالتالي غير متزوج، نحيف لدرجة مرعبة، أشعث الرأس، منعزل تماما...و انطلاقا من كل هذه الصفات سيقول الذي يملك منكم موهبة (الاهتمام بما لا يعنيه) أنه غريب الأطوار... وهذا صحيح.
حتى الآن أنا لم أقل شيئا يستحق الاهتمام، ما الجديد هنا إذن ؟... سترون، فقط حاولوا الحفاظ على هدوئكم ولا تصرخوا في وجهي...
سأحكي الآن قصة، لا أعرف حتى هذه اللحظة لماذا كنت بطلها، ولكن الذي أعرفه هو أنها حدثت قبل ثلاثة أشهر، و... و أنها كادت تُنهي حياتي..
مرعبة ؟... ربما، ولكنك لن تموت وإمارات الهلع على وجهك بعد الانتهاء منها، كل ما أرجوه هو أن تتابعوها بجدية، وإن كانت لكم بعض الملاحظات، احتفظوا بها، فهذا أفضل...
حسنا، يبدو أني سأكفُّ عن الثرثرة، القصة تبدأ كالتالــــــي...
أشياء غريبة !..
إنه المنبه ثانية، تباّ.. دوما ينتزعني من فراشي انتزاعا، من هذا الأحمق الذي اخترعه ؟..
تأهبت للنهوض و... وحدث الأمر ذاته، هذا ممل... لماذا يحب الغطاء الالتفاف على رجلي بهذه الطريقة التي تجعلني أسقط على وجهي عندما أحاول النهوض ؟..
عقارب الساعة تُشير إلى.... يا إله السماوات !.. إنها الثامنة إلا ربع، هذا يعني أني لن أتناول الفطور ولن أقوم بأي شيء، فقط سأرتدي معطفي وانتعل حذائي بعد أن أغلف رجلي بجوربين مثقوبين، ثم أنطلق كالصاروخ...
ركضت مسرعا إلى المطبخ، شربت نصف كأس من الماء، وبعد دقائق كنت أركض لاهثا نحو الكلية...
داخل قاعة المحاضرات كنت أرفع رأسي بين الفينة و الأخرى و أنا أخطط على دفتري بعض المعلومات الثمينة التي سكبها الأستاذ على السبورة العريضة..
ثم صرخ الجرس صرخته المعتادة لأجمع دفاتري و أنا أتبادل بعض الكلمات مع صديقي... الأحداث نفسها تتكرر كل يوم..
***
كنت أصعد السلم ولا شيء يُسمع إلا صوت لهاثي، وكأني شيخ في أيامه الأخيرة.. تبا.. كم هو صعب الوصول إلى منزلي !...
أخيرا لقد وصلت، أين هي المفاتيح اللعينة ؟!... أوووف، هاهي.. و... ولكن لحظة !!.. هناك شيء ما غير عادي أمام الباب !.. شيء يُشبه آثار أقدام ملطّخة بالوحل !!... لا علينا، أدخل أولا لأبحث عن شيء يُأكل ثم أجد وقتا لهذا الهراء...
طوحت بالمحفظة بعيدا و دخلت المطبخ.. حملت الكأس إياه كي أشرب، ولكن... غريب هذا !.. لا أذكر أني شربت الشاي في الإفطار !.. ثم من قال أني تناولت الفطور أصلا ؟.. ماذا يفعل هذا الشاي في الكوب إذن ؟... لحظة !.. ما هذا الصوت ؟.. إنه صوت شيء يُطهى !!.. أقسم أني لم أضع شيئا ليُطهى !... و لماذا لم أسمع هذا الصوت فور دخولي المنزل ؟... التفتُّ بذعر نحو مصدر الصوت و إذا ب... لا شيء.. المنظر هادئ جدا !!..
ماذا يحدث هنا بحق السمـاء ؟... هل جننت أخيرا ؟... تباّ.. إنه صوت ارتطام شيء ما في الحمام...
تسللت برعب إلى الردهة وقطرات من العرق بدأت تحتشد على جبيني.. دخلت الحمام وأنا أرتجف، نظرات مجنونة هنا و هناك... لا شيء على الإطلاق... كل شيء يبدو هادئا.. ذلك الهدوء المخيـف...
أنا لا أفهم ماذا يجري هنا !.. ربما أعاني من صُداع مزمن في رأسي وهذا ما يسبب حالات هلوسة بصرية و سمعية، وربما جُننت بكل بساطة !!...
حاولت تمالك نفسي وتجاهلت الصحن الذي انكسر في المطبخ، والمرآة التي انفجرت ببيت النوم... حسنا، لقد طفح الكيل..
ارتديت معطفي وخرجت من المنزل اللعين واضعا يديّ على أذنـيّ كي لا أسمع المزيد.. طرقت بعصبية واضحة باب الشقة المجاورة، إنها شقة (عزّوز)، انتظرت قليلا وكنت حينها لا أريد النظر إلى باب شقتي خوفا من أن أجد هذه المرة طائرة أو شيئا من هذا القبيل... سمعته آتيا وهو يغني، فتح الباب.. كان يبدو في قمة النشاط، وكان يحلق ذقنه لأن هذا الأخير كان مليئا بتلك الرغوة البيضاء اللزجة.. فرح بقدومي ودعاني للدخول...
***
كانت الفوضى تعمّ المنزل، كشعره تماما.. قال لي شيئا على غرار:
'' انتظر، سأذهب إلى الحمام و أعود فوراً.. ''
جلست بعصبية فوق أريكة ما.. لعنت نفسي، وتساءلت لماذا لا أكون ولو لمرة واحدة كالآخرين ؟.. أنا لست كالناس !، منزلي ليس كباقي المنازل ! حظي ليس...
- لا شك أنك تواجه مشكلة مادية !...
قفزت من مكاني مذعوراً... من تكلم بحق السماء ؟... لقد حسبت التلفاز يحدثني لأنه لم يكن أحد غيري بالصالون !... غريب الأطوار هذا ال.. (عزّوز) إنه يكلمني من الحمام !..
جاء أخيرا ورائحة عطر غريبة تفوح منه، ثم قال بمنتهى النشاط:
- ألم أقل لك لا تهدر أموالك في الفراغ ؟..
- لماذا تريد التظاهر بالذكاء ؟.. من قال لك أني أواجه أزمة مالية ؟..
- لقد استنتجت ذلك من...
- من تظن نفسك... كونان ؟.. احتفظ باستنتاجاتك لنفسك...
(طبعا، لم أكن أتحكـمّ بأعصابي حينها...)
قال و قد أزال تلك الابتسامة السخيفة من وجهه:
- هوّن عليك يا صديقي... ما بك ؟.. أراك متوترا جدا !..
- لا أعرف ماذا بي.. أعتقد أني رأيت أشيائا تشبه علامات قيام الساعة !..
- أُدخل صُلب الموضوع وكفّ عن السخافات.. لا أظن أني سأراك يوما تتكلم كالرجال..
- حسنا، حسنا.. كل ما في الأمر هو أن أشيائا غريبة تحدث عندي بالمنزل.. أشياء كتحطم الصحون و ظهور الشاي في الكأس فجأة و...
قاطعني قائلا وكأنه لم يكن يسمعني:
- حالك يزداد سوءا يا صديقي، لم تكن هكذا العام الماضي... إنها حصص التشريح بلا شك !..
- تباّ لك.. ما دخل التشريح بالأمر ؟.. ثم من قال لك أني لازلت أخاف حصص التشريح السخيفة تلك ؟.. إني أتحدث عن صحون تتحطم وليس عن أيادي و أرجل ملطخة بالدماء...
- حسنا، حاول أن تنسى الأمر برمّته، اسمع.. سأحضر لك مهدئاً، وبعدها سنتناول معا وجبة شهية... هه.. ما رأيك ؟..
***
كنت ألوك الطعام بعصبية وذهني غائب تماما عن هذا العالم حين قال لي محاولا أن يبدو مرحاً:
- مالي أراك حمارا ؟.. أقصد.. أحمر الوجه... نياهاهاها..
فتلطخ وجهي بالنفايات التي يقذفها من فمه..
خرجت بعد انتهائي من الغذاء، ودخلت شقتي متناسيا كل شيء... لم يحدث شيء على الإطلاق، إنها فقط هلاوس، و هذا يحدث للجميع، ثم إني أصبحت رجلا فلماذا كل هذا الخوف ؟... ملئت المحفظة بالكتب الضخمة وخرجت متوجها صوب الكلية المملة...
***
كانت أطول محاضرة ذلك المساء، مع أني لم أكتب أو أسمع حرفا واحدا وذلك بسبب شرودي وتفكيري العميقين، لقد كنت أفكر في إمكانية حدوث كل هذا... هل يعقل فعلا أن يتحطم صحن من غير سبب واضح ؟.. وهل من الممكن أن يكون كل ذلك مجرد هلاوس لا أقل ولا أكثر ؟.. ولكن.. لماذا أميل إلى القول بأن تلك أحداث شيطانية حقيقية ؟.. لأن الهلاوس لا يمكن أن تكون بهذه الدقة المرعبة و...
- هيه... أنت هناك !!.. نصف ساعة وأنا أراقبك، لماذا تنظر إلى النافذة هكذا ؟.. أتفكر في الهرب مثلا ؟..
قالها الأستاذ ساخرا، فاهتزت القاعة... أنت تعرف بلا شك ماذا يقع عندما يضحك مائتي شخص !..
كنت في حالة عصبية أقرب إلى الجنون ثم جاء هذا الأستاذ اللعين ليُشعل فتيل الغيض و الحنق و الهيجان و الهستيريا في نفسي، فقلت له بوقاحة منقطعة النظيــر:
- وهل هذا يهمك يا غبي ؟..
- ماذا ؟.. هل سمعتم ماذا قال ؟.. هل تجرّأت يا (...) و لعنتني، يا ابن (...)، أنت (...) و....
خرجت و الكل يرمقني بنظرات استغراب أو إعجاب !.. لا أدري حقا!... و هو لا يزال يمتدحني...
ماذا فعلت ؟.. يا لغبائي !.. إنها جريمة تكفي لوضعي خلف قضبان السجن...
كنت في الشارع أتحدث مع نفسي بصوت مسموع وألطم خدي حتى وصلت إلى العمارة، صعدت السلم و ضحكاتي الهستيرية تملأ الجو، وبمحض الصدفة التقيت (عزّوز) نازلا، فصرخ في وجهي بخطورة فور رؤيتي:
- يا للهول !.. لم أتصور أن تبلغ بك الأمور هذه الدرجة !!..
ثم ساقني إلى شقته وأنا أواصل ضحكاتي المجلجلة...
دخلت منزله واستلقيت فوق أقرب مقعد.. كان يقول شيئا ما وهو يتجه إلى المطبخ... ثم عاد و بعد برهة وهو يقرأ بصوت خافت ما كُتب على علبة أقراص، ناولني إياها قائلا:
- خذ لك قرصا من هذا المسكّن وستصبح بخير بإذن الله..
وقد أحسست بتحسن فعلا نتيجة ذلك القرص المرّ.. و بعد مدة وأنا أشاهد التلفاز، عادت إلى ذاكرتي المضطربة القصة اللعينة التي وقعت هذا المساء، فهرعت أحكيها له...
قال بعد أن كففت عن الكلام بطريقة مجنونة كادت تفجر رأسه:
- يا لك من أحمق، من تظن نفسك ؟... لقد حطمت مستقبلك بكلمة واحدة...
- حسنا، لا يهم إن كنت قد حطمت مستقبلي بكلمة أو جملة ولكن المهم هو ما العمل ؟... تباّ.. دائما يجدون حلولا في الأفلام، فأين أجد حلا لمشكلتي اللعينة هاته ؟..
- لا أعرف حقا، لقد أهنته أمام الجميع و....
- وماذا ؟.. هيا تكلم.. لماذا تنقطع كالكهرباء ؟..
- أترك لي الأمر، أنا سأتكلم معه...
- لن يتغير شيء..
- يا أخي مالك متشائم هكذا، قلت لك سأتكلم معه يعني سأتكلم معه... وسيعفو عنك إن شاء الله..
ســاد صمت رهيب بعد هذا الحوار، و لم يحاول أحدنا فتح فمه... هناك برنامج سخيف على شاشة التلفاز، مددت يدي إلى ( الريموت كنترول ) و شرعت أبحث في الصور المتتالية عن شيء يستحق المشاهدة حين قال (عزّوز) فجأة:
- سأذهب لأبحث في المطبخ عن شيء يُأكل...
***
بعد أن تناولتُ معه ذلك الشيء الذي يُـأكل، نظرت إلى ساعة حائطية.. كانت التاسعة ليلا..
شعرت بحاجة ماسة إلى النوم بعد هذا اليوم الجميل، لذا تثاءبت بوحشية و غادرت شقته بعد أن شكرته على تعاونه...
كنت أفتح باب شقتي عندما خرج فجأة قائلا:
- أريد الدخول معك لأرى تلك الأشياء التي تتحدث عنها...
دخلنا المنزل، واتجهت مباشرة نحو المطبخ لأريه الكأس، لأني لم ألمس شيئا، ولشدة دهشتي كان كل شيء مكانه، واختفى - لسوء الحظ - الشاي الذي كان في الكأس !.. و كأن شيئا لم يحدث، و كأن... وكأني مجنون..
قال (عزّوز) و ابتسامة وقحة تكتسي وجهه، كما توقعت تماما..
- ألم أقل لك ؟..
- أقسم بالله العظيم، وبخالق السماوات و...
- حسنا، أصدقك، أصدقك... فقط اهدأ..
ذهب معي إلى بيت النوم وتمنى لي نوما هنيئا... طبعاً لم أجرؤ على الطّلبِ منه المبيتَ معي.. فتمنيت له بدوري نوما سعيدا و رجوته إغلاق الباب وراءه..
***
لم أتخيل يوما أني أستطيع النظر إلى شيء واحد طوال ساعتين أو أكثر دون حراك !!.. وقد فعلتها تلك الليلة..
لقد أبى النوم المجيء فبقيت أُحدّق في الشاشة السوداء أمامي... في الظلام الدامس الذي يوحي بألف خاطرة و خاطرة.. لا شيء سوى سيمفونية الساعة الرتيبة " تك "" تك " " تك "... و الهدوء.. و... " تشششرخ "...
ربّاه !!.. إنه صحن آخر !.. تجمدت مكاني و بلعت ريقي بصوت مسموع.. موجة باردة زحفت على جسمي ببطء.. أردت أن أصيح بعزّوز طالبا النجدة، و لكن الصوت ارتد بداخلي محدثا رجفة عنيفة...
يا إلهي ما هذا الذي رأيته ؟... وكأني رأيت شيئا يمر بسرعة البرق أمام عيني المتجمدتين، ثم.. "بشاااخ ".. و تكرر الشيء ذاته عدة مرات.. هناك من يرمي الأواني - الوهمية - من المطبخ إلى الحمام إذن... لن استغرب لو نزل وعاء ضخم على رأسي كالقنبلة بعد قليل..
رُحت أسبح و أبسمل، قرأت سورة الكرسي عشرات المرات و اخترعت أدعية غريبة لا أذكرها..
ثم بدأ الجزء الجميل من القصة.. بدأت أسمع صوت خطوات في الردهة !.. خطوات واثقة، تعرف هدفها بالتأكيد.. قلبي كذلك كان يخطو خطوات واثقة نحو التوقف... توقفت الخطوات، وأكـاد أُقسم أنها لو تقدمت قليلا لتوقف قلبي عن النبض... ساد الصمت برهة، حيث لم يكن يُسمع حينها سوى صوت دقات قلبي المتسابقة و الممزوجة بتنفسي المضطرب.. ثم... رأيت ما كنت أخشى رؤيته..
رأيت ضوءا أخضرا هادئا على شكل عينين تنظران نحوي... اللعنة !!.. لماذا يحدث معي ما لا أصدق وجوده إلا في أفلام الرعب الرخيصة ؟؟..
و بدأت تلك الأصوات..
أصوات مرعبة - لا تمت لأي أصوات إنسانية بصلة - و ألحان أكثر رعبا تخرج من ذلك الشيء.. كلمات بلغة عجيبة وإيقاع فضائي، كما أن طريقة نطقها تذكرني بصوت الخروف عند ذبحه !!...
وكان آخر شيء أذكره عن تلك الليلة المريـعة هو الأصوات المرعبة إياها و التي تزامنت مع شعوري بدوار عنيف قضى على وعيي شيئا فشيئا حتى فقدته تماما...
أحداث قاتلة !..
في اليوم التالي، فتحت عيني على إثر صراخ (عزّوز):
- ألا تعلم كم الساعة الآن ؟.. إنها الحادية عشرة يا ذكي !..
عجبا !!.. من أين دخل هذا الغبي ؟....آآآه، لقد نسيت.. كنت قد أعطيته مفتاحا بالأمس..
- لا أريد الذهاب، أشعر بدوار رهيب داخل رأسي..
- هياّ انهض، وكفاك كسلا، سنذهب لنحل المشكل، و إلا سيتفاقم الأمر و حينئذ لن ينفع الندم.
نهضت بتكاسل وأنا أتذمّر، ارتديت ثيابي، كان هو قد سبقني إلى السلم... خرجت و هممت بإغلاق الباب ثم.... (بوووووووم !)...
إنه الباب الذي انغلق بصوت مدوّي.. ولكني لم ألمسه قط... يا للغرابة !!... سَرَت قُشعريرة باردة من أذني وحتى أصابع قدمي.. و نزلت بسرعة في الدرج وكأن الشيطان نفسه يطاردني..
قال لي (عزّوز) عند باب العمارة:
- لو كرّرت إغلاق الباب بهذه الكيفية ستنهار البناية !..
كنت أود الانقضاض عليه و إيساعه ضربا ليفهم أنه لا دخل لي في ذلك، و لكني لم أرد التصرف بغباء، خصوصا بعد مساعدته لي أكثر من مرة، فأجبته بهدوء عصبي:
- لقد كنت متوترا قليلا..
و لكنه لم يكن يسمعني لأنه كان يلوح بيديه إلى تاكسي... تباّ..
***
وقفت السيارة أمام باب الكلية و نزلنا... اخترقنا بصعوبة حشد الطلاب متجهين إلى الإدارة و لكنني لمحته - الأستاذ طبعا - كان يقف مع جماعة من الأساتذة غريبي الأطوار...
أوقفت (عزّوز) وأشرت بيدي قائلاً:
- إنه هو.. ذلك البدين صاحب النظرات...
أجابني بحماس كبير و كأننا نود لعب لعبة ما:
- هيا بنا إذن..
لم أتصور يوما أن (عزّوز) يمتلك كل هذا القدر من الشجاعة والإقدام !... لقد ذهب نحوه بثقة مبالغ فيها وأمسكه من يده - لم يضربه طبعا - و راح يحدثه وهما يبتعدان عن جماعة الأساتذة.. ظهرت علامات التوتر على وجه الأستاذ فور معرفته حاجة (عزّوز)، حيث كان يلوح بيديه و رجليه في عدم تفهم..
وقفت طويلا أنظر إلى هذا الموقف السخيف.. كان (عزّوز) يتكلم ويتكلم وكأنه يحفظ عن ظهر قلب ما يقوله... ما الذي يتفوه به هذا الأحمق بحق السماء ؟..
ثم فجأة، ودون سابق إنذار، أشار لي الأستاذ بيده !.. فتقدمت بتردد خجول..
قال لي بلغته العلمية المعهودة:
- هل تعلم حجم الحماقة التي ارتكبتها أمس ؟.. لقد استهزأت بي أمام الطلاب و شوهت صورتي..
قلت في بلادة:
- لقد... كان... في الحقيقة..
فأنقذ (عزّوز) الموقف بتدخله الذكي:
- كما قلت لك يا أستاذ، فابن خالي يعاني من مرض نفسي مزمن، يُحدث له من حين لآخر اضطرابات نفسية عنيفة..
قال الأستاذ البدين وهو يزيل نظّارته و يعيدها - لا أعرف لماذا حقا ! -...:
- ولكن لا يمكن أن..
قاطعه (عزّوز) باحترافية:
- أرجوك أستاذ.. أرجوك، إنه المرض، أنظر الآن كم هو خجول و نادم على فعلته التي لم يتذكرها حتى..
طبعا بعد قولة (عزّوز) هاته التفتَ الأستاذ لينظر إليّ، ولتكتمل التمثيليـة كان عليّ حينها التظاهر بالخجل والندم الشديدين، فرسمت على وجهي أعتى علامات البراءة و السذاجة.. بالضبط تلك العلامات التي تجدها في ملامح طفل لا يزال يلتهم المخاط بشراهة و يبلل فراشه ليلا !..
وأخيرا، وبأعجوبة، سامحني الأستاذ بدليل أني (مريض نفسيا)... يا له من مُتسامح !!.. مكانه لما تنازلت بهذه السهولة..
***
داخل التاكسي، وبينما كنت أنظر عبر زجاج النافذة شارد الذهن، تذكرت فجأة الأحداث المهولة التي وقعت ليلة البارحة، فارتجفت من أعلاي إلى أخمصي... يا إلهي كيف نسيت هذا ؟.. ثم وجدت نفسي - لا شعوريا - أرويها لعزّوز...
..................
ختمت كلامي قائلا:
- ولكن !... ألم تسمع صوتَ تكسّر شيء ما أو ما شابه ؟...
حرّك رأسه أن لا.. ثم التفتَ إلى النافذة قربه وكأنما ليخفي شيئا ما..
مرّ وقت لا بأس به ثم التفت يرمقني بنظرات لم أحببها كثيرا وابتسامة خجولة تطل من فمه ليقول:
- مشكلتك أنك لا تفرق بين الحلم و الحقيقة...
- أنا حمار لأني حكيت لك هذا...
أجابني مقهقها بصوت عالي:
- هههها..هه.. ههاهاه... لا بتاتا، ولكني كنت سأفيدك أكثر لو كنت مفسرا للأحلام.... نياهاهاها..
في هذه اللحظة توقف التاكسي أمام باب العمارة، و التفت السائق ينظر لصاحبي في شيء من الاستغراب لأنه لم يسبق أن سمع إنسانا يضحك بصوت أقل تهذيبا من نهيق الحمير!..
حسنا لن أطيل، لأني بطبعي أمقت الوصف الدقيق، وباختصار شديد أقول.. تناولنا الغذاء معا، و ذهبت للكلية...
***
لقد ذاع صيتي في أوساط الطلبة، حيث اعتبروني بطلا سينمائيا، و تكررت في أذني آلاف المرات العبارة السـاخرة:
- أنت شجاع... لقد فعلت المستحيل يا شيطان، لم أسمع في حياتي طالبا يقول لأستاذه كذا وكذا... هاهاها..
كان لي صديق، يعجبني فيه هدوئه و صمته الرهيب، وبما أنني أشبهه نوعا ما، فقد كان رفيقي في كل لحظة.. رويت له قصتي الفظيعة.. من البداية.. و حين انتهيت كان رد فعله كما توقعت تماما، حيث قال بهدوء:
- أ أنت متأكد من ذلك ؟ أقصد.. هل تملك دليلا قاطعا بكونك حينها صاحيا وبعيدا عن الكوابيس المزعجة ؟..
قلت بعد أن شوّهت وجهي وأنا أحاول تذكر دليل ما:
- في الحقيقة.. لا يوجد دليل يُذكر... ليتني طعنت نفسي بسكين.. لأريك الآن - بفخر - الجرح الناتج...
ابتسم بعنف ثم استسلم لإعصار الضحك الذي اجتاحـه...
أنشأت مستطردا بعد أن عادت ملامحه إلى الجدية:
- ولكني لا أعتقد أن هناك كابوسا مرعبا بهذه الدقة المتناهية... ثم أمر آخر يجعلني أقسم أن شيئا ما دخل منزلي... إنها تلك الآثار الملطخة بالوحل أمام الباب و التي لم أعرها أي اهتمام !!..
- شيء ما أو أحد ما ؟..
- إن شقتي صغيرة لدرجة لا تتيح لفأر التمتع بمكان مختبئ... ثم العينين و الأصوات التي لا يمكن لإنسان تقليدها لا تجعلني أرتاح كثيرا إلى فكرة كونه لصا يتسلى بجعلي أبلل سروالي...
***
في المساء، وأثناء انشغالي ببحث مُضني، حيث كتب ضخمة في كل مكان، سمعت طرقات على الباب.. وضعت النظارات وأغلقت الكتاب الذي أحمله على قلم رصاص.. تثاءبت ومددت يديّ عاليا من فرط التعب وأنا أتوجه للردهة..
فتحت الباب و... لقد كان (عزّوز) بشعره الأشعث.. طلب مني التجول قليلا في المدينة.. يبدو أن الصداقة توطّدت بيننا فجأة.. وافقت على الفور لأني كنت أريد تغيير ذلك الجو من الملل و الرعب الذي يخيم على شقتي..
خرجنا من العمارة، و بعد أن رميت بضع خطوات، نجوت بأُعجوبة من موت محقق !!...
لقد سقطت مزهرية ضخمة متفادية رأسي ببضعة سنتمترات لتنفجر بعنف فوق الأرض.. أمام نظراتي الغير مصدقة...
كان بها نوع من الورد الأحمر وكانت... ربّاه !.. إنها مزهريتي، نعم إنها هي... تباّ.. هناك أحد ما بالمطبخ يحاول التخلص مني، و قد أخطأ هدفه الذي هو رأسي طبعاً..
دُهش (عزّوز) تماما.. ربما كان ينتظر المزهرية لتسقط فوق رأسي مباشرة لأنه لم يعتد مني كل هذا الحظ، وربما لأنه بدأ يكتشف أن هناك أشيائا غامضة تحدث معي...
- إنها مزهريتي، أقسم إنها هي... كنت أضعها بنافذة المطبخ..
- هذا يعني أن أحدهم بمطبخك و..
قلت و أنا أنظر لفوق:
- الأمر واضح جدا، و لا تحتاج أن تكون شرلوك هولمز لتستنتج هذا... ولكن هناك شيء ما غير واضح.. لقد كنت قبل قليل بالمنزل فلماذا لم ألحظ أيّ شيء ؟.. و...
بترت عبارتي فجأة وقد شدّني سؤالٌ شدّا...
لماذا لم يحاول هذا الشيء التخلص مني ليلة أمس ؟.. فلم يكن ليتعب كثيرا.. خصوصا و قد كنت فاقدا للوعي... ليته فعلها ليريحني ويريح نفسه من عناء التصويب على رأسي ليفجره بمزهرية عتيقة !!..
- مـاذا ؟..
- لا شيء..
قلتها و جذبت (عزّوز) لنبتعد...
كان يبدو شارد الذهن.. أما أنا فقد تأكدت كل التأكد أن حياتي في خطر و لكني كنت أبذل جهدا خُرافيا لتجاهل الأمر، لأن التفكير في كل هذا يسبب لي حالة من الذعر و الانهيار تُقرّبني من الجنون، لذا قلت له محاولا إخراجه من دوامة التفكير:
- حسنا، دعنا من هذا.. ما رأيك في الذهاب إلى سينما ؟..
و دونما انتظار إجابة منه، صحبته إلى سينما عتيقة، كثيرا ما أشاهد فيها أفلاما ل (جيمس بوند).. إنها سينما توشك على الانهيار، حيث تجد خيوط العنكبوت في كل مكان، وخاصة بابها الذي يكاد لا يظهر بسبب شبكة العنكبوت التي تغطيه، مما يؤكد أن أحدا لم يدخله منذ زمن سحيق... طبعا هذه مبالغة..
***
كان عدد المشاهدين قليلا جدا إن لم أقل ستة مشاهدين تقريبا !.. جلسنا بجهة خالية ومظلمة.. كان الهدوء تاما، لا يُسمع إلا صوت بكاء ممثلة وهي تدفن وجهها بين راحتيها... كان فيلما سخيفا بكل المعايير، ولكن الذي أثار انتباهي و رعبي في نفس الوقت هو ذلك الرجل المتّشح بالسواد الذي يجلس ورائي مباشرة... ألم يكن هذا المكان خاليا قبل قليل ؟!...
لقد رأيته مُسندا ظهره على عمود الكهرباء عند مدخل السينما، واضعا يديه في جيبه.. لم أر وجهه.. لأنه - وكما في أفلام الرعب - يرتدي معطفا طويلا ذو قبعة... عجبا !!.. أليس الطقس حارا لدرجة لا تُطاق ؟!..
كنت في كل مرة أُلقي فيها نظرة ورائي أجده مثبتا رأسه المظلم نحوي.. تبّا.. شعرت بعدم الاطمئنان وكأن الجحيم بشخصه يجلس ورائي، و أصبحت كالمجنون، أنظر بتوتر شديد خلفي، ثم أعود لمشاهدة الفيلم السخيف إياه، ولأجد (عزّوز) يتابعه بشغف غريب، تباّ له ولهذه السينما الحقيرة..
هناك أحد يرمي قنبلة، ثم... ''بوووووووم''.... هذا في الفيلم طبعا.. انتهزت فرصة الضوء الذي خلّفه الانفجار للنظر إليه، فالتفتُّ بسرعة و...
و شهقت في ذعر.... لقد اختفى !.. كان المقعد خاليا... غريب هذا !!.. قُلت لعزّوز وأنا أصرخ:
- ألم تر هذا ؟...
صرخت لدرجة جعلت بعض المشاهدين يلتفتون نحوي و نظرات التوعد في عيونهم بمعنى: '' اصمت يا أحمق.. لم ندفع ثمن التذاكر لنسمع صوتك..''
أجابني (عزّوز) بكل وقاحة :
- أُنظر، أُنظر... إنه يرمي قنبلة أخرى...
- سُحقا لك...
قلتها، و نهضت مغادرا القاعة... أمسكني من يدي، فجذبتها بعنف...
خرجت من الباب مسرعا، فتبعني مُهرولا وهو يقول بنبرة سريعة:
- ما بك يا هذا ؟.. انتظر قليلا حتى ينتهي هذا الفيلم الرائع...
- إن الفيلم الرائع هو الذي يحدث معي الآن...
- ماذا يحدث بحق السماء ؟...
- ألم تر ذلك الشخص غريب الأطوار، عديم الوجه، الذي دخل السينما ليُشاهدني أنا بدل الفيلم ؟..
- لقد سئمت هذا... أنا لا أعرف لماذا تُغرم بك الأشباح و العفاريت و...
تجاهلته و أنا أشير بيدي إلى تاكسي حمراء...
***
قال داخل السيارة التي تتجه بسرعة غريبة...
- من قال لك أنه يراقبك ؟.. ربما يكون مشاهدا عاديا و أنت تجعل الأمور...
- لقد التفتُّ عندما أُضيئت القاعة بذلك الانفجار القوي... ولم أره، كـان قد اختفى وكأن الأرض ابتلعته، مع أني لم أكف عن الالتفات لدرجة أنه من المستحيل أن يجد الوقت الكافي للخروج دون أن أراه..
- ربما كان ذلك مجرد...
بتر عبارته، بعد أن وخزته و أنا أشير بأصبع مرتجف إلى السائق...
- ماذا ؟...
- إنّ...إنه... إنه هو...
قال (عزًوز) بصرامة للسائق، محاولا أن يبرهن لي مدى سخافة أفكـاري...
- أنزلنا هنا من فضلك..
ولكن السائق لم يبدي أية استجابة، بل إنه رفع من سرعة السيارة لدرجة خطيرة يستحيل معها التنفس بشكل عادي..
في هذه اللحظة بالذات ارتفعت دقات قلبي، و فرّ الدم من وجهي فجأة... لقد لمحت يديه فوق مقود السيارة.. يا إلهي كيف أصفهما ؟...
إنهما مشوهتان لدرجة جعلت العظم يظهر في كثير من المناطق !!.. لا بل أكثر من هذا.. فأصابعه عبارة عن عظام نخرة تتدلى منها قطع لحم
بالية !!...
أحسست بدوار عنيف داخل رأسي وبحرارة غريبة تكتسح جسمي و تجمدت كأن الدم توقف فجأة عن جريانه بفعل يد خفية تعتصر قلبي... ثم بدأت أشم رائحة كريهة، رائحة لحم محروق... نعم إنها هذه الرائحة بالضبط..
التفتُّ بصعوبة لأرى (عزّوز).. فوجدته جامدا كتمثال عرض... لقد رأى اليدين حتما..
ســاد الصمت لوقت طويل و السيارة تشق طريقها بجنون وسط شوارع المدينة...
بوووووووووم.... يبدو أن السيارة اصطدمت بشيء ما !.. يا إلهي !.. إنها امرأة عجوز.. لقد رأيت جسمها يطير متجاوزا السيارة... تبّا...
مددت يدي لأفتح الباب و أخرج من هذا الجحيم.. ولكن (عزّوز) أمسك كتفي بمعنى: '' لا تتهور ! ''..
مازال المسخ يقود ببرود... يا له من شعور غريب ذلك الذي أحسسته حينئذ.. حقا لقد شعرت باقتراب أجلي.. ولكني لم أتقبل ببساطة فكرة وجودي داخل سيارة أجرة يقودها مسخ بسرعة جنونية، و هو بلا شك متجه لمكان خالي حيث سيلتهمنا !....
توقفت السيارة بعد أن أصدرت صريرا مرعبا !.. إنها إشارة المرور.. لقد توقف مرغما أمام طابور طويل من السيارات، فهرعنا - طبعا - نفر بجلودنا من ذلك الكابوس الشنيـع...
قلت لعزّوز و نحن نركض في الشارع كالأبلهين:
- أ رأيت يديه ؟..
أجابني و هو يلهث و قد فقد لون وجهه:
- نعم، نعم... إنك محق إذن فيما تقوله.. كنت أتمنى أن يكون ذلك وهم و لكنه لسوء الحظ حقيقة... لقد بدأت أفهم الأمر..
قلت وقد أثار فضولي لدرجة كبيرة:
- ماذا تقصد بأنك بدأت تفهم الأمر ؟..
- إن لعنة ما قد أحاطت بك.. لقد قرأت عن هذه الأمور كثيرا.. لاشك أنك قمت بشيء لا يُرضي هذا المسخ، شيئا جعله يصر على إحالة حياتك جحيما.. وهو الآن ينتقم منك، و لا أعتقد أنك ستنجو من قبضته..
- هذا رائع.. و لكني لا أذكر أني تبولت أمام منزله، أو صفعت ابنه مثلاً...
- كفاك سخرية، هل هذا وقت المزاح ؟.. يا لك من أحمق !..
- تبا لك ولهذا العالم السخيف، إن أراد هذا الشيء قتلي فليفعل و بسرعة.. لا أريد البقاء في هذه الحياة اللعينة..
لقد ثار جنوني وأظلمت الدنيا أمام عيني فجأة وكأني أمام لقطة النهاية من فيلم رخيـص... توقفت عن الركض، وقلبي يوشك على الوثب من فمي من فرط التعب...
أمسكت شعري بكلتا يدي و بعثرته.. جذبته بقوة و صرخت عاليا... لقد جننت إن لم تفهموا ذلك بعد...
أمسك بي (عزّوز) وحاول تهدئتي قائلا:
- تعقل يا خالد.. إنك ستجن نفسك هكذا، ماذا سيحدث ؟.. ستموت مثلا ؟.. كلنا سنموت..
توقفت عن اقتلاع شعري، ونظرت له في شيء من البلاهة و قلت:
- أنا أعرف أننا سنموت.. ولكني لا أريد الموت أمام مسخ نصفه محروق، ليست هذه هي النهاية التي أتمناها بالتأكيد...
***
قال بعد مدة و أنا أتأمل وجه مذيع في شاشة التلفاز...
- أ تعلم ؟.. عندي بعض المعلومات في ميدان الأعشاب..
- وماذا سيفيدني هذا في الظرف الحالي ؟... أنا أيضا عندي بعض المعلومات في كيفية طهي الحلوى دون أن تلتصق بالمقلاة..
- لا، أنا جاد فعلا.. أعرف وصفة بسيطة جدا ستنقذك من ذلك الشيء...
- هذا جميل...
قلتها بضجر واضح قبل أن أمد يدي نحو الريموت كنترول لأبحث من جديد عن قناة أقل مللا..
- خالد.. أنصت جيدا، فهذه ليست مسألة هزلية...
ثم تابع بعد أن لاحظ لامبالاتي:
- الوصفة كالتالي: حبتان من ''الجوزة ''.. القليل من البخور و خفاش محنط.. ستجد كل هذا عند عطار الحي... يجب أن تشتري هذه الأشياء الليلة..
- ماذا ؟... ألن أشتري ذيل فأرة وبراز ضفدع أيضا ؟..
قال وكأنه لم يسمع سخريتي التافهة:
- لا تنسى أن تضع قربك عندما تريد النوم مجمرة و تلك الأشياء، وفي حالة الخطر ما عليك إلا رمي الكل في المجمرة، وقراءة آية الكرسي عدة مرات، وما إن يستنشق ذلك الشيء البخار المتصاعد ويسمع آية الكرسي حتى يحترق بالكامل..
ثم أضاف خاتما:
- هذا كل ما أقدر مساعدتك به... وإن واجهتك أي مشاكل لا تتردد في الاتصال بي..
- حسنا، حسنا.. لا داعي للنصيحة الأخيرة، فأنت لست موظفا بإحدى شركات الأجهزة الإلكترونية... لن أخسر شيئا في كل الأحوال.. سأذهب الآن لأشتري هذه الأشياء المرعبة..
ابتسم ثم أردف :
- هذا أفضل...
ودّعته شاكرا له معروفه ومعتذرا عن حماقاتي.. ثم نزلت السلم المضاء بإنارة شاحبة و أنا أسمعه يصرخ:
'' كـن حـذرااااا يا خاااااالـد...''
***
قطعت الطريق وأنا ألتفت يمينا وشمالا، قبل أن أتوجه نحو العطار إياه..
إنه رجل طـاعن في السن.. كان يجلس على كرسي عتيق و ينصت لأغنية هادئة منبعثة من جهاز راديو صغير...
خفّض الصوت حين ألقيت التحية...
- أريد حبتان من الجوزة... القليل من البخور و خفاش محنط.. من فضلك..
نظر إلي بتأمل... إن عيناه تعكسان الكثير من الذكاء و الحكمة.. ووجهه يُظهر بوضوح آثـار التاريخ الذي نحتته السنون نحتا بين تجـاعيد جلده...
التفتُّ بعصبية لأهرب من نظراته، فنهض ببطء و هو يتأوه و يلعن أمراض الظهر و الأعصاب.. ثم غاب وسط دكانه المليء بالأشياء الغريبة، ولم يلبث أن عاد ممسكا كيسا بلاستيكيا و عيناه لا تفارقان وجهي..
- لا شك أنك تعرف طريقة استخدام هذه الأشياء.. ''كح''.. ''كح''..
قالها و هو يسلمني الكيس بيد نحيفة، مرتعشة.. فسلمته بدوري النقود..
- نعم، نعم.. شكرا.. وداعا..
و انصرفت بسرعة فارا من نظراته المزعجة...
***
لقد كان هناك في انتظاري... دائما تحت عمود الإنـارة.. إنه يتعمّد ذلك كي لا يُظهر وجهه !..
اختنقت من فرط الرعب، ولكني حاولت إظهار عدم ملاحظتي له...
تبّا لهذه السيارات اللانهائية، إنها تجعلني واقفا هنا في منتصف الطريق أختلس النظر - مضطرا - إلى ذلك الشيء الذي لا يبدي أية حركة و كأنه تمثال عرض في إحدى الصالونات...
قطعت الطريق أخيرا و أنا أرتجف لاشعوريا.. توجهت بسرعة نحو بوابة العمارة، وما إن أصبحت أمام السلم حتى التهمت الدرجات بسرعة جنونية...
أخرجت بيد مرتعشة المفتاح من جيبي ما إن أصبحت أمام الباب و... و لكنه سقط فوق الأرضية محدثا صوتا حادا كسّر الصمت الرهيب الذي يخيم على المكان.. انحنيت كي أحمله فتجمدت مكاني عندما سمعت صوت خطوات على الدرج... ارتفعت دقات قلبي لدرجة خطيرة، وازداد ارتعاش يدي و أنا أحاول جاهدا حمل المفتاح.. والخطوات تواصل تقدمها بثقة مرعبة..
استطعت أخيرا حمله، فأولجته بسرعة في القفل و ذعر منقطع النظير يغمرني، و لشدة هلعي لم يُفتح الباب.. لقد تصلب المفتاح في القفل وكأن هذا الأخير قد أبرم اتفاقا مع المسخ بعدم سماحه لي بالدخول، حتى يلتهمني الوحش بعجلة، لأنه - ربما - لا يملك الوقت الكـافي للدخول..
تسرب العرق إلى عينيّ، فرحت أفركهما بجنون و أنا أعُدّ، حسب صوت الخطوات، عدد الدرجات المتبقية له..
فتحت عيني فكان المنظر ضبابيا وكأن سحـابة حطّت على رأسي.. كان كل شيء يتموج أمامي، وقد بدأت أرى خيالا على جدار السلم.. أولجت المفتاح من جديد، وأملي في الحياة يختفي شيئا فشيئا..
و انفتح.. لقد انفتح الباب أخيرا.. نعم لقد انفتح.. كدت أطير فرحا رغم الموقف البشع الذي كنت فيه..
ولكن الرعب صعقني أكثر هذه المرة حين لمحت ذلك الشيء و قد تجاوز الدرجة الأخيرة، وببرود توقف.. يداه لا تفارقان جيبه.. و..
يـا إلهي مـاذا أقول ؟.. وكيف أجعلكم تفهمون حجم الذعر الذي اجتاحني حينها.. هل أصفه بعاصفة رملية مهولة داخل قلبي ؟.. أم بشعور الفأر وقد قضم الثعبان نصفه ؟..
تحت الإنارة الشاحبة للمصباح فوق باب شقتي، كنت أنا و ذلك الشيء، ننظر لبعضنا... أذكر أني أحسست بشعر رأسي وكأنه أشواك منتصبة، وبدورتي الدموية و كأنها توقفت.. لأن... لأنه كـان ينظر لوجهي مباشرة !..
لقد غمر ضوء المصباح - اللعين - ملامحه... يا لهول المشهد ويا لبشاعة وجهه ! ..
إنه عديم الوجه.. وبالطبع أعني هنا أنني كنت أنظر إلى جمجمـة !؟!... نعم.. أنا لم أخطأ الكلمة.. لقد كانت جمجمة..
أما الجميل.. فعيناه.. أو بالأحرى.. مكان عينيه الذي يشع بضوء أخضر غريب !..
لا أعرف كم من الوقت ظللت أرمقه و لا سبب ذلك الخدر الغريب الذي اجتاح جسدي.. ولكنه ما إن تقدم حتى استعدت جأشي فجأة فاقتحمت المنزل بثورة..
أغلقت الباب وأنا أتوقع مقاومة منه.. ولكن ذلك لم يكن !.. فصدمت الباب بقوة وأحكمت إغلاقه بالمزلاج.. رميت الكيس البلاستيكي فوق مقعد و أخرجت بقوة نفسا كانت سجينة حلقي ثم رحت أجول كالمجنون في الردهة وأنا أتساءل عن مدى صحة ما رأيته قبل قليل..
***
كـان كل عضو من جسمي يرتجف بعصبية، وكنت أقول كلمات بدون معنى...
حملت هاتفي المحمول من فوق التلفاز، و أتذكر أني كنت أركب أرقاما و أحذفها و أنا أبكي بصوت منخفض، لا أذكر بمن كنت سأتصل وقتها.. ولكن ذلك لم يقع لأن دقات على الباب لفتت انتباهي فجأة..
''طــاااق''... ''طــااق''... ''طــاق''..
توقفت عن البكـاء، وعاد بركان الرعب في قلبي للغليان ولكن سرعان ما تحول الذعر إلى غيض و هيجان، فاقتربت من الباب و أنا أصرخ:
- من أنت يا جبـان ؟.. تبا لك.. مـاذا تريد مني ؟.. لا أملك شيئا يستحق كل هذه المطاردة.. سُحـقا لك..
- افتح الباب يا خالد !.. أنا عزّوز..
- ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟..
لقد صعقني صوت عزّوز.. ألم يكن ذلك الوحش قرب الباب قبل قليل ؟..
تذكرت فجأة لقطة من فلم رعب أمريكي... عندما يقلد المسخ صوت طفل ليخدع أمه حتى يلتهمها...
- لن أُخدع بهذه البساطة أيها المسخ الغبي... لن أفتح الباب حتى لو قلدت صوت جدتـي..
- أنا عزّوز يا خالد... لماذا لا تصدقنـي ؟..
- حسنا.. إذا كنت عزّوز حقا... أخبرني عن الأشياء التي طلبت مني شراءها قبل قليل !...
- الجوزة و البخور و الخفاش... حسنا، هل ستفتح الباب الآن ؟..
زفرت في اطمئنان و أنا أسحب المزلاج و أفتح الباب، لأرى وجه (عزّوز) الممتقع..
قال و هو يتأمل عينيّ المحمرّتين في شك خطير:
- لقد سمعت الباب يوصد بعنف منذ قليل... مـاذا حدث ؟..
قلت و أنا لا أستطيع إخفاء توتري الشديد:
- ذلك المخلوق البشع... لقد تعقبني حتى هنا، وكـاد يجهز علي... ألم تلحظ شيئا مريبا عند خروجك ؟..
- أمممم... لا..
- عجبا !!..
- مـاذا ؟
- لا شيء..
***
جلسنا بصالوني الضيق و شرعنا في التفكيــر و الصمت يلتهمنا بشراهة...
- ما رأيك في أن أبيت معك الليلة ؟..
قالها فجأة ليتقاذف صدى صوته بين جدران البيت..
و قد رفضت.. رفضت بصرامة... ليس لإظهـار مدى شجاعتي و قدرتي على تحطيم عظام ذلك الشيء.. بل لأني لا أريد أن يموت أحد غيري بسببي... فهذا الوحش يريدني أنا... ربما يحبني !.. و ربما فعلت شيئا أَزعجه !.. ما أدراني ؟... لذا فأنا أستحق كل ما سيحدث.. ويكفيني تحمل مسؤولية حيـاتي..
أصرّ على طلبه، فأصررت على رفضي... حتى نهض مستسلما و متمنيا لي البقاء على قيد الحياة، على الأقل حتى أرى والديّ، فشكرت له ذلك وودعته..
أخذت الهاتف و تلك الأشياء البشعة إلى بيت النوم، و استلقيت على السرير مفكرا...
ماذا فعلت حتى أزعج هذا الشيء ؟.. ومن سيصدقني غير (عزّوز) لو أخبرته بالقصة ؟.. وهل ستسنح لي الفرصة لرؤية ابتسامة أمي من جديد و أسمع صوت أبي و هو يسألني عن أحوالي ؟..
أحسست بدفء السرير وبحلاوة النوم تغطي عيني و انتشر التعب في سـائر جسمي بعد أن كـان مُحتشدا في قدمي و... ونمت...
..............
***
لا أعرف متى أفقت على ضجيج خفيف.. كـانت الغرفة مُظلمة، و كنت لا أرى شيئا ماعدا نور القمر الهادئ المتدفق من النافذة..
بقيت عيناي تنظران إلى صورة الزجاج المنعكسة على الحائط المقـابل و... وفجأة لمحت - غير مصدقا - خيالا مرّ بسرعة البرق..
تصلبت مكـاني، وحولت نظراتي ببطء إلى النافذة..
كـان المنظر هادئا.. ذلك الهدوء الرهيب الذي يجعلك تتجمد مكانك خوفا من أن تخلق جلبة و تُلفت انتباه شيء ما.. شيء ما يُراقبك، و ينتظر الفرصة لينقض عليك، شيء له ملامح تقشعر لها الأبدان و تشيخ لهولها الولدان.. ملامح لا تذكرك بملامح الإنسـان في شيء.. ولا حتى ملامح الحيوان... ملامح.. تفضل البقاء مكانك عند رؤيتها.. لأن مصيرك لا جدال فيه...
جالت بذهني هذه الخواطر المرعبة فبلعت لعابي بصوت مسموع و حاولت أن أغمض عيني بحثا عن النوم.. ولكن قبل أن أقدم على ذلك، لمحت ثانية ذلك الشبح يمرق أمام النافذة.. فأغمضتهما بسرعة و أنا أرتعش بشدة..
كنت في حالة نفسية مزرية و أحسست بدافع غريب يرغمني على فتح عيني.. قاومت بشدة هذا الإحساس، و لكنه تغلب علي، و فتحتهما و...
رأيت شخصا يدفع النافذة بهدوء !!.. مــاذا ؟!... هل هذا الذي أراه شخص يحاول الدخول من النافذة ؟!... هذا جميـل !.. ولكن.. كيف ؟.. كيف صعد ؟..
و لشدة دهشتي لم يكن هذا الشخص بغريب علي.. كان شخصا (مُظلما)... يرتدي، على ما يبدو، معطفا أسودا طويلا ذو قبعة... ولكن ما بال عينيهالمشعّتين و... ربّاااه.... إنه (الجمجمة)..
قفزت من السرير مذعورا و اختطفت الهاتف... كنت أضغط ملهوفا على الأزرار مركبا رقم هاتف (عزّوز) و أنا ألتصق بالحائط أنظر بين الفينة و الأخرى إلى ذلك الشيء و قد تجاوز إطــار النافذة وشرع في التقدم نحوي بتؤدة و هدوء مثيران للأعصاب.. والأسوأ أنه يحمل شيئا أقرب إلى المنجل من أي شيء آخر...
ألصقت الهاتف بأذني و قد بدأت أسمع تلك الرنات الطويلة المتقطعة... تبّا.. يبدو أن (عزّوز) لن يحمل الهاتف حتى أتحول أنا إلى شرائح لحم بعضها في أمعاء هذا المسخ و البعض الآخر مُلقاً على الأرض...
توقف الشيء فجأة و بدأ يتأمل حوله، مُتجاهلا وجودي تماما... غريب هذا !!.. ماذا يريد هذا المخلوق بالضبط ؟.. هل يريد شراء المنزل مثلا ؟...
و فجأة سمعت صوت (عزّوز) على الهاتف يتثاءب قائلا :
- ماذا هنــاك ؟.. ألا تعلم كم الساعة الآن ؟.. إنها...
- (عزّوز)... النجدة !!.. إن الوحش في غرفة نومي الآن.. إنه يتقدم نحوي... ماذا أفعل بحق السمــاء ؟..
- ماذا ؟... يا إلهي !.. هل معك الوصفة ؟..
- نعم.. نعم... ماذا أفعل بها ؟.. هل أرجمه بها ؟..
- لقد نسيتَ ما قلتُه لك بشأنها... إذن أصغي لي جيدا.. أشعل المجمرة و ضع فيها تلك الأشياء ثم اتل سورة الكرسي.. هيا بسرعة..
كنت أنصت إلى (عزّوز) و عيناي لا تفارقان (الجمجمة) الذي كفّ – لسوء الحظ - عن النظر إلى الجدران وقد فهم أن هذا ليس وقتا مناسبا لمثل هذه الأشيـاء.. وواصل الخطو بنفس البطء و ببرودة أعصابه المعهودة وقد رفع منجله استعدادا لتمزيقي..
ركضت إلى ركن البيت.. حملت علبة عود الثقاب بيد مرتجفة إن لم أقل راقصة وأضرمت النار بالمجمرة قبل أن أرمي فيها تلك الأشياء.. كل هذا فعلته بيد واحدة - لا أعرف كيف استطعت ذلك ؟! -... ثم ألصقت الهاتف بأذني ثانية و هتفت مذعورا:
- ماذا أفعل الآن بالله عليك ؟... إنه يقترب أكثر..
- اقرأ سورة الكرسي يا غبي !...
آآه... بسم الله الرحمان الرحيم الله لا إله إلا هو ………
كنت أتلو السورة و أنا أتراجع للخلف و قد خرجت من بيت النوم إذ أنه كـان قد اقترب من العتبة رافعا أكثر فأكثر المنجل الحاد الذي سينغرس
في رقبتي حتما...
يا إلهي ما هذا ؟… ما إن انتهيت من القراءة حتى رمى المنجل و بدأ يتراجع إلى الخلف و قد فقد هدوءه، بل أكاد أجزم أنه كــان يرتجف حينها!.. ثم أبصرت بعيني المتصلبتين الدخان يتصاعد من جسده المرتعش !.. و سرعــان ما بدأت شرارات من النار تملأه شيئا فشيئا، حتى اضطرمت فيه النيران بالكـامل… والغريب أن النار لم تلمس شيئا آخر غير جسده !... وكأنها ليست النار التي نعرف !..
اهتزت كل خلية في جسمي عندما بدأ يُصدر تلك الأصوات... تلك الأصوات التي أقسم أني سمعتها يوما ما !... متى سمعتها يا تُرى ؟.... آآآه.. في تلك الليلة المريعة بكل تأكيــد...
- آلو… آآلو…آآآآآلوووو.. خااااالد !!..
كــان هذا (عزّوز) يصرخ عبر الهاتف الذي سقط من يدي لهول المنظر…
ياله من مزيج مرعب من الأصوات و الأضواء… صوت النار و هي تفتك بجسد المسخ مما جعله يشدو بتلك الألحان المرعبة مع صراخ (عزّوز) المذعور عبر الهاتف… و ضوء القمر الفضي وقد تمازج مع اللهب الذي يتراقص ليرسم على الجدران ألف شبح متربص...
وسرعــان ما خمدت النيران... لتكشف عن كومة من رمـاد أسود يبعث أعمدة من الدخّـان، و صوت (عزّوز) الذي بدأ يبحّ من كثرة العويــل كان لا يزال يملأ أذني...
اقتربت من البقايا.. غير مصدقا ما حدث... صفعت نفسي بشدة فشعرت بالألم المرعب إياه.. ذلك الألم الذي يعني أن هذه حقيقة لا جدال فيها..
حملت الهاتف و قلت مقاطعا عويل (عزّوز) الذي بدأ ينتحب:
- لقد انتهى كل شيء يا (عزّوز)... لقد احترق بالكــامل.. فهلاّ تصمت..
عم الوجوم لثواني... ورأيت حينها (عزّوز) بعين الخيــال و هو يُبعد السمّـاعة عن أذنه متمعنا فيها بوجه غير مصدق.. وقد ظهرت ابتســامة باهتة على ثغره..
ثم صرخ - كما توقعت - ممزقا طبل أذني:
- أنت حي إذن !!.. حمدا لله... حمدا لله... الله أكبــــر !... الله أكبــــااار !....
النهاية
ربما كان الوقت فجرا وقتئذ لمـّا سمعت الباب ينفتح ببطء... تأهبت لل.. للهرب.. ولكني سرعان ما لمحت (عزّوز) الذي انقضّ علي و عانقني و هو يُتمتم منهارا:
- حمدا لله على سلامتك يا صديقي !..
- شكرا لك... الحمد لله..
- ســامحني إن لم آتي البارحة لمساعدتك فقد تجمدت مكاني تماما..
- لقد فعلتَ ما بوسعك.. بل إن الفضل كله يعود لك.. فكيف كان لي أن أتخلص منه لولا تلك الوصفة الحبيبة..
قال بعد أن أفلت عنقي:
- لا شكرا على واجب.. المهم هو أنك الآن بأمن و أمان..
- إنها رعــاية الله يا صديقي..
- و ِنعم الله..
كان ذلك اليوم أحدا.. تناولنا الفطور في صمت، ثم دعــاني لمنزله..
***
لعبنا الأوراق و الشطرنج، و عندما أخذ مني الملل ما أخذ توقفت عن اللعب و توجهت لمكتبته المتواضعة.. تناولت كتابا بعنوان (المقاولات و الشأن الاقتصادي بالمغرب ) – وأنا بالمناسبة أكره هذه المصطلحات كره الموت – فقلت و أنا أتصفحه:
- أنا لا أعرف لماذا تقتني مثل هذه الكتب المملة ؟.. ألا توجد صور ؟..
- لا أصدق نفسي عندما أتخيل أنك بعد أعوام قليلة ستكون طبيبا ؟!..
- أنا أيضا مثلك..
- ولكن قُلّي... ما قصة ذلك المسخ ؟.. ألم تعرف بعد غايته من محاولته قسمك إلى قطع بمنجله الضخم ؟..
ضحكت ثم قلت وابتسـامة خبيثة على ركن فمي الأيمن:
- نعـــم !!..
- حقا ؟... منذ متى ؟..
- منذ البارحة.. و بالضبط بعد انتهاء ذلك الكــابوس، حيث تمددت فوق سريري و قمت ببحث مُضني في مزبلة رأسي عن تفسير لكل هذا.. حاولت تجميع كل المعطيات و الأحداث و ربطتها بأشيــاء بعد أن أزلت منها أشيــاء... و فجأة وجدت التفسيــر الذي صعقني على حين غرة ففهمت كل شيء..
- هذا جيد.. تكون ذكيا في بعض الأحيان.. ولكن الأهم لم تقله بعد..
- سأقوله.. فقط بعض التشويق كما في قصص (شرلوك هولمز)..
ثم اعتدلت مكاني و أنشأت أقول و قد محوت الابتسامة من على ثغري:
- لقد تداخلت الأحداث بعضها في بعض وكونت شيئا فشيئا التفسير الذي كان كل ما أتمناه.. وقد كان مُرعبا... حسنا.. لا تبكي، سأدخل صلب الموضوع حالا...
(... في السنة الماضية و في أحد أيام الشتاء غادرت المنزل قاصدا فيلا أحد أصدقـائي الأثرياء، إذ أني كنت مدعوا إلى حفلة عيد ميلاده...
كان المنزل فخما، مليئا بالصور و التماثيل و الأثاث الذي لا أراه إلا في الأفلام المكسيكية... و كانت حفلة بهيجة، حيث الضوضاء و (قعقعة) الأوانــي تبعث شعورا محببا في النفوس... وبالطبع ارتكبت أخطاء فادحة كعادتي، إذ أن الحلوى سقطت على بذلتي التي كنت أخاف عليها من ذرات الغبار و أنا في الطريق.. وسقط كأس العصير من يدي بعد مدة لا بأس بها من الكارثة الأولى لينفجر على الأرض.. فكان من السهل قراءة نظرات الشباب لي حينها وكأنها الحروف مكتوبة على دوائر تخرج من أفواههم، كما في مجلات الأطفال.. حيث قال أحدهم وهو يهمس في أذن صاحبه: (لم أر في حياتي كلها بلادة كهذه !)... ثم قالت أخرى بين أسنانها و هي تمضغ العلكة كاتمة ضحكة اشمئزاز: (لماذا يدعون أشخاصا كهؤلاء إلى الحفلات ؟)..
ضحك (عزّوز) حتى استطعت حساب عدد أضراسه..
(.. لا علينا... بعد انتهاء الحفلة، غادر الكل باستثنائي و صديقي (هشـام) ثم صاحب المنزل - طبعا – (رضى)... تعاونا على جمع الكراسي و قُمنا بتلك العمليات الشهيرة التي تلي كل حفلة.. إذ أن رضى كان وحده بالمنزل بعد سفر عائلته إلى فرنسا.. ثم جلسنا أمام مدفئة ضخمة بعد أن أطفئنا الأنوار و بدأنا نتأمل وجوه بعضنا البعض وقد أضاء لهيب النار نصفها...
لا أعرف من اقترح فكرة حكي قصص الرعب والتجارب المفزعة.. ربما تراقص اللهيب على جدران قاعة الحفلات الواسعة هو من ألهمنا وبث في نفوسنا هذه الرغبة الجهنمية !!.. المهم... بدأ (هشام) بروي قصة مملة لا أذكرها، و عند انتهائه كان دوري فاعتذرت لكوني لم أشهد أو أسمع وقائع مفزعة في حياتي ماعدا أفلام الرعب الأمريكية المليئة بالدم و الأمعاء المتدلية التي أشاهدها أحيانا.. وهكذا وصل دور (رضى)... ليتني نهضت قبل أن يحكي قصته اللعينة..
تثاءب (عزّوز) و أشار بيده بهدوء بمعنى (أكمل أرجوك)..
(... بدأ يروي حكـاية لا أعرف لماذا شدتني شدا و شغلت تفكيري تماما.. ربما يعود ذلك إلى طريقته في حكيها أو... لا أدري !..
إنها قصة رجل ما عاد ذات مرة من عمله ليجد بيته يحترق... صُعق و انفطر فؤاده حسرة على عائلته الصغيرة، زوجته الشابة و طفلاه التوأمان.. و سرعان ما تحول ولعه إلى غيض وهستيريا لمـّا لاحظ حشدا من الناس أمام المنزل.. و لا أحد يحرك ساكنا !!..
زمجر في غضب جامح وهو ينـزع قميصه و يخترق النيران مناديا زوجته و وولداه.. ثم اختفى لوقت طويل.. فبدأ الناس يتهامسون و يوشوشون...
لقد كانت الحمم تتقاذف من النوافذ، الشيء الذي جعل دخول المنزل من سابع المستحيلات..
ولكن أحدهم لمحه.. أو هكذا يزعم.. لمحه عبر النافذة يحترق و يصرخ ملتويا.. وفي عينيه بريق غريب، بريق مرعب.. و أكد ذلك الشخص أنه رآه يلوح إلى الناس مهددا قبل أن تتمكن منه النيران تماما..
و قد فقد ذلك الشاهد وعيه بعد المشهد المرعب إياه – كما وصفه – بل إنه صار مجنونا بعد ذلك، يصرخ في الشارع بأن شبح الرجل المحترق سينتقم منهم جميعا..
و في الأيام التالية حدثت أشياء في غاية الغموض بتلك القرية الأسترالية الهادئة... اختطاف أطفال و جرائم قتل مبهمة ذهب إثرها حوالي خمسون ضحية.. و طريقة القتل كانت شنيعة بمعنى الكلمة.. الرأس ينظر للوراء و الأمعاء قد انتزعت تماما.. أمّا الأطراف فلن تجدها !!.. وقد أكد المحققون أن الجرائم قد ارتُكبت بأداة حادة، هي في الغالب فأس أو.. منجل !!.. و يُقــال أن جميع ضحايا جرائم القتل كانوا هم أنفسهم الشهود على تلك المحرقة المروعة.. و حتى الأطفـال المختفون كانوا من عائلات هؤلاء الضحايا !.. هذا يعني أن (الشبح) قد انتقم منهم فعلا.. ولكن.. كيف فعل ذلك و هو في عداد الأموات ؟؟!..
بل يُروى أنه من يسخر من ذلك الرجل لعدم تلقيه و عائلته أي مساعدة أثناء الحريق... سيأتي ليضيفه إلى قائمة الموتى !..
و هنا بيت القصيد... هنا ارتكبتُ أكبر و أغبى خطأ في حيـاتي !.. أردت التظاهر بالشجاعة و تحطيم هذه الخرافة السخيفة - كما بدت لي حينها - وقلت، ساخرا، أنه لن يُحمّل نفسه أعباء السفر من أستراليا إلى المغرب لتمزيقي لمجرد أني تفوهت بكلمات سخيفة... ولم أدري وقتها مدى خطورة ما أُقدم عليه..
لقد ناديته بصوت عالي رغم معارضة (رضى) و الرعب الذي ارتسم في عيني (هشام)... رعب معرفتك المسبقة بحدوث شيء مخيف و عجزك عن الاعتراف بذلك..
- هوووو.... أنت وحيد أيها الشبح التافه.. لم يساعدك أحد، لأنك بلا قيمة... بلا قيييييييمة... هاهاهاها..
قال (عزّوز) و هو يحك ذقنه:
- هكذا إذن... فهمت الآن..
تابعت وكأني لم أسمع تعليقه:
(... سخرت بعد ذلك من سخافة القصة ومن كل من يُصدقها.. ولم أدري حينها أني أسخر من نفسي..
ثم مرت الأيـام بإملالها و قرفها الشديدين، ولم يحدث شيء ذا أهمية ما عدا بعض الكوابيس المزعجة، المليئة بالدم و الرؤوس المقطوعة و الضحكات الطويلة...
وكما تعلم بدأ كل شيء في اليومين السابقين.. و لكن الذي لم أفهمه بعد هو.. لماذا لم يقض علي بمنجله الضخم ليلة الجمعة ؟... أقصد لماذا لم يبتر أطرافي و ينزع أحشائي و يجعل رأسي ينظر للوراء ؟!..
قال ببطء وهو يتأمل شيئا وهميا في الحائط:
- ربما كان يهدف من وراء ذلك إلى إرعابك و إفقادك صوابك، و هذا ما يفسر تلك الأعمال الشيطانية من تحطم الصحون و رؤيتك لأشياء وهمية لا أساس لها من الصحة ثم تلك الأصوات.. و بلا شك، كان يخطط للقضاء عليك ليلة أمس..
- تماما... يبدو هذا منطقيا..
قلتها و نظراتي الزائغة تسبح في عوالم اللاوجود...
ثم استطردت بعد أن طفا سؤال فوق بحر أفكاري:
- ولكن هل يُعقل أن ينهض هذا الرجل من قبره بحثا عن معتوه (سمعه) يسخر منه ؟..
- كنت قد قرأت عن هذه الأشيـاء في عدة روايات رعب كما شاهدت أشياء مماثلة في قاعات السينما.. ولكني لم أتعجب كثيرا عندما حدث هذا معك، لأنه في نظري أي شيء ممكن الحدوث في هذه الحياة.. ألم تسمع بتلك المرأة التي أنجبت طفلا له منقار و...
- كـفى، كفـى... أعلم أن جعبتك مليئة بمثل هذه الوقائع المفزعة..
ثم انفجرنا ضاحكين...
***
عدت إلى شقتي الحبيبة.. كان الوقت ظُهرا، فوجدت أن أفضل ما يمكن القيام به حينها هو الغوص عميقا في غياهب قيلولة.. قمت باستعداداتي الشهيرة للنوم، حيث ارتديت منامتي و وضعت جهاز الراديو بقربي بعد أن فتحته على أغنية هادئة ل (بوب مارلي) ثم استلقيت بنشاط على سريري...
مرّ أمام عيني شريط أحداث اليومين الماضيين.. فاكتفيت بمطّ شفتيّ في تعجب، ثم أغمضت عيني و... وهب نسيم النوم...
للكاتب - احمد رفعت