ما هو منهج حل المشكلة الأخلاقية فى الإسلام ؟
والجواب :
أن هناك مجموعة من الأسئلة يحاول علم الأخلاق أن يجيب عليها : كيف يجب أن يكون مسلكنا فى الحياة ؟ كيف نربى الناشئين تربية حسنة ؟ ما يجب لقيادة الأمم والشعوب حتى تيسر على النهج المستقيم ؟
أن الإجابة على هذه الأسئلة عند المختصين بدراسة الفلسفة وخاصة علم الأخلاق – الذى هو فرع من الفلسفة – هو محور علم الأخلاق نفسه ، والذى يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة .
ومن المؤكد فى الفكر الإسلامى أن مجال المعرفة الروحية والأخلاقية هو مجال ليست الحواس مصدره ، وليس العقل منشئه أو مبتدعه ، وإنما مرده إلى الوحى ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه ، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله . وليس للعقل فى مجال الغيب إلا محاولة الفهم ، إذ التقرير والبيان فى هذا المجال ليس للإنسان ، وليس من اختصاصه .
ومما لا شك فيه أن العقل قد أنتج ثمارا يانعة فى الطبيعيات ، والرياضيات ، لقد أقام القواعد المحكمة ، ونظم المبادئ المتقنة ، وكان الأمر كذلك فقى هذين الميدانين لأن العقل يعمل فى دائرة اختصاصه ، والتى هى : الماديات والمحسوسات ، وللأسف فقد غرَّ هذا النجاح قوما فاعتقدوا أن فى استطاعة العقل أن يجول فى كل ميدان ، فأقحموا العقل فى عالم ما وراء الطبيعة ، فكانت الفلسفة الإلهية العقلية ، وكان الإخفاق التام للعقل فى هذا الميدان ، وهذا الانحراف حديث العهد نسبيا – بالنسبة لعمر الإنسان على الأرض – يرجع إلى العهد اليونانى وفلسفته وأشهرهم أرسطو الذى اعتبره بعض المؤرخين أكبر عقلية فلسفية ظهرت على وجه التاريخ ، ولكنه أيضا أشهر الذين انهار مذهبهم فى عالم ما وراء الطبيعة ، وكان إخفاق عقله هذا الكبير أوضح الأدلة على أن عالم الغيب أسمى من أن يتناوله العقل البشرى الخطّاء .
وليس للمسلم أن يحاول ابتداع عالم ما وراء الطبيعة ، أو اختراعه عقليا ، ولا بد إذن من التشمير عن ساعد الجد والاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق .
وعندما ظهر المذهب العقلى فى ألمانيا ظهر لأول عهده حليفا للدين ، لكن سرعان ما تبين له أن جانب العقيدة من الدين لا يمكن البرهنة عليه حسيا ، فكان الطريق الوحيد إذن أن تمحى العقيدة الدينية من سجل المقدسات ، وجاء مع محو العقيدة مذهب المنفعة فى فلسفة الأخلاق ، ولهذا مكّن المذهب العقلى من سيادة الإلحاد ، تلك كانت الحال فى ألمانيا مثلا عندما ظهر كانط وكشف كتابه "العقل الخالص" عن قصور العقل الإنسانى فهدم بذلك ما بناه أصحاب المذهب العقلى من قبل .
وهذا هو الذى فعله الإمام الغزالى من قبل ، فعن طريق التشكك الفلسفى انتهى إلى نفس النتيجة فى عالمنا الإسلامى ، واستطاع أن يقضى على المذهب العقلى الذى كان موضع الزهو على الرغم من ضحالته ، وعندما خاب رجاء الغزالى فى الفكر التحليلى ولى وجهه شطر الناحية الروحية والأخلاقية ، ووُفّق بهذه الطريقة لأن يجعل للدين وجودا مستقلا عن العلم ، وعن الفلسفة الميتافيزيقية .
ومن الخطأ المنهجى – فى ميزان الفكر الإسلامى – دراسة علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق ونحو ذلك من علوم المجتمع على أنها مجرد ظواهر اجتماعية أو ظواهر إنسانية ، لقد فسروا العلم على أنه القواعد التى تقوم على التجربة والملاحظة ، والتزموا ذلك فى تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية ، وهذه العلوم بهذا المنهج لا تقود إلى الدين ، ولهذا انتشر الإلحاد بسببها فى شتى بقاع الأرض ، فالدين والأخلاق بناء على هذا المنهج المغلوط لهما نشأة إنسانية اجتماعية ، والناس قد تواضعوا على سلوك معين سموه فضيلة ، وعلى سلوك آخر سموه رذيلة ، ودراسة الدين والأخلاق بناء على ذلك تتجه إلى النشأة والمظاهر والتطور وعوامله ومظاهره ، وليس للسماء فى الدراسة نصيب .
وكل الظواهر والمظاهر فى هذه الدراسات اعتبارية نسبية متغيرة متبدلة لا تثبت على حال ، ولا تستقر على وضع.
ولا بد من الفصل بين عالمين من المعرفة : عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء ... إلخ وهذه أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض هى والدين ، ولا اختلاف فيها ، وبين عالم التفكير المجرد فى الدين والأخلاق والمجتمع .
ولهذا نجد الأثر الأكبر لمثل "دور كايم" ، وتلميذه الأكبر "ليفى بروهل" - اللذين شكلت أعمالُهما ومبادئُهما وبحوثُهما الاجتماعيةُ والأخلاقيةُ الاتجاهاتِ الأخلاقيةَ والقيميةَ المعاصرة فى الحضارة الحديثة - يصب فى جانب هدم كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية ، ومحاولة القضاء على كل المثل .
ومنهج التشكيك فى القيم والمُثُل والعقائد والأخلاق لا ينتج عنه إلا إفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيا ودينيا .
ودعنا نقارن ما قدمه هؤلاء بخصوص المشكلة الأخلاقية ، بما قدمه العالم المسلم الكبير "الحارث بن أسد المحاسبى" ، حيث تجد فى رحابه الهدوء النفسى ، والطمأنينة الروحية ، رغم أنه ألقى بنفسه فى معترك المشاكل المثارة ، وأخذ يواجهها مناقشا ومجادلا وهاديا ومرشدا ، متخذا الأساس الأصيل والمصدر الأول : القرآن والسنة مقياسا وحاكما ومتحكما فى كل ما يقال أو يفعل .
وهكذا ينبغى أن يكون لدى كل مسلم شعورا واضحا وقويا ومتمكنا : أن منهج المسلم فى الحياة هو منهج الاتباع ، هذا المنهج الذى لخصه لنا سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فى كلمة موجزة كأنها إعجاز من الإعجاز : ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم))(1) .
وهى كلمة حق وصدق ثرية بالمعانى الطويلة العريضة ، يبرهن آخرها على أولها ، أى : اتبعوا فقد كُفيتم والكافى هو الله سبحانه وتعالى ، الذى أوحى بالمبادئ والأصول والقواعد ، وطبَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك وبينَّه ، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون . وقوله ((لا تبتدعوا فقد كفيتم)) فمن يبتدع هو من لا كفاية له ، ولكن الله سبحانه وتعالى بعد أن أكمل الدين وأتم النعمة ليس هناك من مجال ، ولا من حاجة إلى الابتداع.
هكذا يحدثنا الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود عن حل المشكلة الأخلاقية فى الإسلام ، وأنه لا يكون إلا بمنهج واحد وهو الاتباع .
والمنهج الإسلامى (الاتباع) له أثره البالغ فى السلوك الأخلاقى للإنسان ، فبينما يسعى الإنسان – فى رأى الأخلاقيين الوضعيين – إلى الوصول إلى لذة "الرضا الأخلاقى" ، والتخلص من "تبكيت الضمير" وحسب .
فإن الإنسان المسلم قبل ذلك يسعى إلى رضا الله تعالى ، وإلى البعد عما يغضبه تعالى عليه ، فمحاولة الوصول إلى رضا الله تعالى والبعد عن غضبه هى أساس سلوك المسلم ، وليس محاولة إرضاء نفسه هو والبعد عن تبكيتها ولومها .
وأى معيار أخلاقى ثابت فى رضا النفس ، فبينما ترضى نفسك عن شىء ، لا ترضى نفس آخرين عنها ، بل يرى ابن عطاء الله السكندرى وهو من أعظم الشخصيات الأخلاقية الإسلامية فى حكمه الشهيرة أن ((أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها))، فيقظة الضمير المسلم لا ترجع إلى الذاتية ، وإنما إلى الرغبة فى الله والخوف منه .
والإنسان عندما يُترك وضميره قام بالحروب العالمية المتوالية ، وقتل ملايين البشر ، وأهلك الأموال والبلاد ، وعرض البشرية كلها إلى مفاسد وخسائر لا تعوض .
المرجع الأساسى : أ / د عبد الحليم محمود ، مقدمته النفيسة لترجمته لكتاب "المشكلة الأخلاقية والفلاسفة" لأندريه كريسون ، القاهرة : الهيئة العامة للكتاب ، مكتبة الأسرة ، 2004 م ، (ص 12 – 64) ، والمشكلة الأخلاقية لأندريه كريسون ، (ص 67 - 69 ، 155) . مع إضافات من المحرر .
الهوامش:
--------------------
(1) أخرجه الدارمى (1/80 ، رقم 205) ، والطبرانى كما فى مجمع الزوائد (1/434) ، وقال : ((رجاله رجال الصحيح)) .