قبل مدة عرضت قناة العربية تقريرا عن المهاجرين العرب ,كان احد ضيوفه شابا سوريا حكا فيه كيف إن حرس السواحل اليونانيين, القوا القبض عليه هو ومجموعة أخرى من المهاجرين
العرب على سواحل المتوسط, وكيف إن أولئك الحرس أوثقوا أيديهم... ورموهم إلى البحر الواحد تلو الأخر.... وكيف نجا هو من الموت!....ولكن وبما إن الموت وأخوه البؤس و ابن عمه سوء الحظ زبائن قدامى للعراقيين, فقد كان أول من رمي في البحر شاب عراقي اسمه محمود العراقي, يكمل الشاب السوري وهو يتحدث بألم وحرقة: كان محمود عراقيا بطلا ظل يصارع الموج الهائل لنصف ساعة وهو مكتوف الأيدي و يشتم اليونانيين وأنا اذكر جيدا آخر ما قاله هذا العراقي وهو يصرخ و يشهق محاورا إيانا نحن الباقون بانتظار الدور فقد قال:
الله اكبر ....أنا أخوكم..... محمود العراقي ..........العراقي .... ....قولوا لأمي بان لا تنتظرني....الله أكب...
ثم غاص.... إلى.... الأبد.
هنا انتهى كلام الشاب السوري / الشاهد الحي وينتهي كلام محمود العراقي......و يبدأ
كلامي... أنا نبيل, كي اروي لكم قصة محمود وكأني معه!!
الحلم
بعد أن أغلقت التلفزيون كان هناك شعور واحد يسير مع دمي ويدخل إلى قلبي ومنه إلى شراييني و إلى كل شعيرة من شعيراتي الدموية ! انه شعور الغضب ألانهائي, شعور يجعلني اسمع صهيلا من داخل صدري لعشرات الخيول, صهيل غاضب وكأن هذه المهور تدق بحوافرها الأمامية على جدران صدري الداخلية تطالبني بالانتقام والثأر.... تدق وهي تقف على ساقيها الخلفيتين وتحمحم وتصهل وعيونها تشتعل من الغضب وشعرها يطير من عنف حركاتها ! ولكن ماعساي ان افعل ؟ تركتها تدق وتصهل وانا اموت من الحزن من اجل محمود.....نمت حزينا ومنكسرا وآه من انكسار الرجال .......لم انم كنت اتأرجح بين الصحو وبين النوم...كنت و كأني أرى وجه محمود تلفه ظلمة الأعماق و تدور حوله اسماك قبيحة وهي تتذوق لحم وجهه الذي لوحته شمس العراق وتبله نسيم العراق وملحته دموع أمه التي كان تقبله قبلاتها الأخيرة المخلوطة بالدمع. كانت الكوابيس تطاردني متلبسه وجوه اسماك متوحشة باسنان كبيرة قاطعة وهي تنهش محمود من كل مكان , ركضت إليها محاولا طردها وأنا اصرخ: محمود !! استيقظت لحظتها والعرق يبلل قميصي ,ووجهي متشنج ويدي تقبض على الشر شف بقوة, جلست ببطء على حافة السرير و وضعت راسي بين كفوفي . مددت يدي إلى سيجارتي الأخيرة ويدي الأخرى تمسح العرق والعبرة تخنقني فحسدت النساء لأنهن يستطعن البكاء ... وتخيلت محمود وهو يتخذ قراره بالسفر......
القرار
لن أعيش في هذا الجحيم أكثر!! قال محمود هذا الكلام وهو يمسح قطرات العرق التي تنز من جبهته , محدقا بالصور التي أرسلها صديقه نوري من السويد حدق طويلا بتلك الصورة حيث كان نوري جالسا مع صديقته السويدية الحسناء وهو يلبس ملابس انيقة وتبدوا عليه علامات الراحة النفسية.
كان الفصل صيفا ودرجات الحرارة تذيب حتى الحجر والتيارالكهربائي لا يتذكرهم الا ساعتين في اليوم والمولد المنزلي عاطل والهاتف النقال لأخوه مغلق وهو يكاد يموت من القلق .....
وضع يديه تحت رأسه وتمدد على بلاط ارض غرفته مباشرة كي يستفاد من برودته, تأمل سقف الغرفة وهو ينقل بصره بين ريش المروحة الصامته وصورة والده المتوفي منذ زمن. كان يحسب سنين عمرة التي مضت مشتته بين الحروب والامل الذي تلاشى بغد افضل ...
وهو يسمع أمه تحمد الله مرارا وتكرار لعودة ابنها الاصغر سالما وبينما كان هو يفكر بصديقه نوري تبين أن أخوه كان قد حصل على سعر جيد لهاتفه فباعه تاركا محمود ضائعا في تصوراته!...... تنفس محمود الصعداء , كان يشعر بالملل اليومي بعد ان اغلقت الشركة التي يعمل فيها ابوابها بعد ان وجدت ان العراق فيه الكثير من الفرص للربح ولكنها ايضا وجدت فيه فرصا اكثر للموت, فلملمت أغراضها وسرحت عمالها تاركه محمود وحيدا.
السفر
باع محمود كل ما يمتلك من اشياء وكل ما تملكه امه من مصوغات ذهبية كي يسافر بعد ان فشلت والدته في إقناعه بترك فكرة الرحيل لانه اقنعها بان العراق صارمقبرة كبيرة! فهو يعود الى المنزل قبل حلول الظلام وحين يخرج نهارا ويصعد الى احدى سيارات التنقل العام فان القلق لا يتركه لو للحظة واحدة خوفا من ان يكون الراكب الذي بجانبة مفخخ!! مر في خاطره قصة صديقه اسامة الذي كان يقرا القرآن في رمضان بصوت خفيض في احدى سيارات النقل العام فصرخت المرأة التي في جانبه برعب : انتحاري!! وعرف الناس متأخرين انه سوء تفاهم فخرج اسامة بشفه ممزقة وهالة زرقاء تحت العين!! .
استعد محمود للسفر بعد الاتفاق مع مهرب شرح له خريطة السفرة وكيف انه سيوصله الى السويد سالما كما اوصل صديقه نوري. شد رحاله وهو ينظر الى البنايات التي في طريقه وكانه يشعر بان هذه المرة هي المرة الاخيرة التي يرها, كان يتالم مع كل متر تقطعه السيارة مبتعده عن منزلة متذكرا حرارة بكاء والدته وصوت نشيجها وهي تقول : ها انا ذا اهديك للآخرين ! اتعرفون معاناة الام وكم تدفع ثمنا من حياتها ومن صحتها ومن راحتها ومن تفكيرها من اجل تربية ابن واحد؟ ولكن ربما في لحظة ما ...لحظة صغيرة ينتهي كل شئ وكانها لم تلده وكانه لم ويولد ! رصاصة صغيرة اوشضية بحجم الاصبع تقضي على سعادة ام الى الابد....... كان محمود يردد مع نفسه :وداعا بغداد لا اريد لأولادي ان يتربون في ازقتك المسكونه بالموت والقسوة سأذهب هناك الى اناس مروا بما نمر نحن به الان منذ زمن بعيد حتى صار تاريخا.... وصل محمود بعد ايام من الى احد موانئ تركيا حسب ما كان مقرارا وصعد على متن زورق سريع من احدى زوايا الميناء وهو يراجع مع نفسه كل انواع المخاطر التي قد يواجهها من يختار هذا الطريق لان لاشئ بالمجان.......
الحتف
انطلق الزورق السريع المحمل بالهاربين من البؤس والحالمين بغد افضل انطلق ليلا وهو يحمل اناس يملئهم الامل والقلق كان محمود يجول بنظره بين المسافرين الجالسين في المكان الضيق في هذا المركب منتبها لكل شيئ , كان يجلس أمامه رجل يبدو عليه انه من الشام كان ضائعا لا ينظر في عيون احد ...بجانبه شاب من سوريا حسب ما اخبره بعد أن تبادل معه إطراف الحديث, وبعد مشط الغرفة تاكد ان معظم المهاجرين هم من العرب .
كان الكثير منهم يتضرع كي ينجيه الله من هذه المحنة, بينما كان محمود يتمنى ان يعرف جواب لسؤال واحد يلح عليه من اول متر قطعة خارجا من منزله في بغداد حتى هذه اللحظة:هل ساصل؟ كان الزورق قد قطع مسافة لاباس بها والفجر يخطو خطواته الاولى حين خرجت عليهم اضواء ساطعة وكأن النهار!! ضوء اختصر الفجر الى ظهيرة مباشرة!! كان هناك صوت معدني خارج من مكبرات الصوت المثبته على مركب خفر السواحل تطالبهم بالاستلام والا اطلقوا النار... كانت انكليزية المتكلم ركيكة توقف صاحب المركب لانه كان يعرف مسبقا جدية هذا التهديد . أصعدوهم إلى ظهر الطراد بخشونة, سحبوهم كلهم وربطوا المركب السريع الى الى الطراد البحري العسكري وربطوا ايدهم بصورة آليه وكأنهم يقومون بهذا العمل للمرة الالف! سحبوا محمود مباشرة حتى بدون ان يحققوا معه! فتشوه فقط طمعا بالنقود التي ربما يحملها معه...حين سحبوه نحو السياج الحديدي لمركب الدورية لم يكن يصدق انهم يريدون ان يرموه في البحر وهو موثوق الايدي ! رموه بعد ان رفعه شرطيان واحد من كتفيه والاخر من رجليه رموه الى البحر وخلال المسافة الممتدة بين ايديهم الغليظة وبين الماء فكر كثيرا وندم اكثر! ...كان يود ان يموت هناك في ارض العراق حتى ولو قتله مسلحون ,على الأقل سيكون هناك امل بان ينتقم له شخص ما ..ولكن المسألة اعمق من ذلك ... ربما هناك الكثيرون لا يريدون ان يعيشوا داخل الوطن ولكن لا يوجد احد يريد ان يموت خارجه! لم يكن يصدق حتى سمع طرطشة الماء وشعربالبلل !ظل يحاول البقاء عائما بتحريك رجليه بجنون كان كلما تعب تذكر والدته التي لم تكن تطمأن الا اذا اتصل بها مخبرا اياها انه بخير فيزداد عنادا, كان اثناء كل هذا يحاول ان يتخيل كيف سيكون شكل امه حين تنقطع اخباره !, تصورها وهي تبكي وهي تذهب الى العرافات اللائي سيسمعنها ما تريد ,ولكن بعد مرور نصف ساعة فأن المقاومة بدأت تتلاشى وبدأ محمود يضعف ولكنه قرر ان لا يمون بدون ان يشتمهم وبدون ان يخبر امه بان لا تنتنظره فصرخ صرخته الاخيره : الله اكبر أنا محمود اخبروا أمي بان لا تنتظرني! ... الله اكب ونزل إلى الأعماق وتنفس ملئ رأتيه من ماء البحر وغاص الى ...... نزل هناك ولم يحاول ابدا ان يصعد, انتحر بدون ان يحاول حبس أنفاسه إلى أقصى حد وهو مايزال في نفس المكان, ويقول البحارة ان هناك نخلة تظهر أحيانا في نفس المكان عند الفجر وتختفي عند مجيء شمس الصباح والاغرب انهم يسمعون منها صوت نحيب !!! منقول من الكتب ااكبيره نبيل العراقي دام الله فخرنه الى العراقينه*12* *12* *12*