ما هى الطريقة الإسلامية المثلى التى يمكن للمسلم المعاصر من خلالها مراعاة الحقوق ، خاصة حقوق الوالدين وذوى الأرحام ؟
والجواب :
الدين الإسلامي منهج حياة متكامل، نظم علاقة الإنسان مع ربه، ونظم علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، ونظم العلاقة بين الإنسان وبين كون الله الفسيح بمخلوقاته المشاهدة وغير المشاهدة.
وتختلف حدود وطبيعة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وفقا لنوع هذا الإنسان، ودرجة القرابة، والقرب المكاني، والفارق في السنة، والجيل، وموقعه من التعليم أو التعلم.
فأصحاب الحقوق على الإنسان من البشر كثير، والوالدان على رأس أصحاب الحقوق، ويلي ذلك أهل الأرحام، ونكتفي بالحديث عنهما حتى لا يطول بنا المقام.
أولاً: بر الوالدين
إن من أعظم الناس حقًّا على الإنسان والديه، فلا يخفى على كل عاقل ما للوالدين من مقام وشأن يعجز الإنسان عن دركه، ومهما جهد القلم في إحصاء فضلهما فإنَّه يبقى قاصرًا منحسرًا عن تصوير جلالهما وحقّهما على الأبناء، وكيف لا يكون ذلك وهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم وركن البقاء لهم؟
لقد بذل الوالدان كل ما أمكنهما على المستويين المادي والمعنوي لرعاية أبنائهما وتربيتهم، وتحمّلا في سبيل ذلك أشد المتاعب والصعاب والإرهاق النفسي والجسدي وهذا البذل لا يمكن لشخص أن يعطيه بالمستوى الذي يعطيه الوالدان.
ولهذا اعتبر الإسلام عطاءهما عملا جليلا مقدسًا استوجبا عليه الشكر وعرفان الجميل، وأوجب لهما حقوقًا على الأبناء لم يوجبها لأحد على أحد إطلاقًا، حتى إن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده بشكل مباشر فقال عز من قائل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}(1) لهذا ولغيره الكثير جعل الله برهما وطاعتهما من أفضل القربات بعد توحيده سبحانه وتعالى، وجعل عقوقهما والإساءة إليهما من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} (2) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}(3)، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه. {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ}(4)، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ولأجل ذلك تكررت الوصايا في كتاب الله تعالى والإلزام ببرهما والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما أو الإساءة إليهما بأي أسلوب كان، قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(5) وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (6) وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ}(7) وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء التأكيد على وجوب بِرّ الوالدين والترغيب فيه، والترهيب من عقوقهما. ومن ذلك: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما»(8).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما»(9).
وعن معاوية بن جاهمة السلمي: أنه استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه، فأمره أن يرجع ويَبرَّ أُمَّه، ولما كرر عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «ويحك الزم رجلها فثمّ الجنة»(10).
وقد سمى الشرع الحنيف الولد كسبا لأبيه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»(11)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أولادكم من كسبكم؛ فكلوا من كسب أولادكم»(12).
وكذلك كان فهم الصحابة والتابعين، وأئمة الدين سلفًا وخلفًا فعن عطاء قال قلت له: إن أمي تقسم علي أن لا أصلي بعد المكتوبة شيئا ولا أصوم إلا فريضة شفقة علي. قال: أبرر قسمها(13).
وقد قال الشيخ الدردير في "الشرح الصغير": «ويجب بر الوالدين - وإن كانت الأم تفضل على الأب في البر - ولو كانا مشركين أو فاسقين بالجوارح أو بسبب الاعتقاد. ويكون البر بالقول اللين الدال على محبتهما؛ بأن يقول لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما بدون رفع صوت عليهما، ويقود الأعمى منهما - ولو كافرا - للكنيسة ويحملهما لها، ويعطيهما ما ينفقانه في أعيادهما...» إلى أن قال: «ويطيع الوالدين في المباح والمكروه»(14).
ويكون بر الوالدين بالإحسان إليهما بالقول اللين الدال على الرفق بهما والمحبة لهما، وتجنب غليظ القول الموجب لنفرتهما، وبمناداتهما بأحب الألفاظ إليهما، كيا أمي ويا أبي، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما، ودنياهما ويعلمهما ما يحتاجان إليه من أمور دينهما، وليعاشرهما بالمعروف؛ أي بكل ما عرف من الشرع جوازه، فيطيعهما في فعل جميع ما يأمرانه به، من واجب أو مندوب، وفي ترك ما لا ضرر عليه في تركه، ولا يحاذيهما في المشي، فضلا عن التقدم عليهما، إلا لضرورة نحو ظلام، وإذا دخل عليهما لا يجلس إلا بإذنهما، وإذا قعد لا يقوم إلا بإذنهما، ولا يستقبح منهما نحو البول عند كبرهما أو مرضهما لما في ذلك من أذيتهما.
وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(15) قال ابن عباس: يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما.
ومن البر بهما والإحسان إليها: ألا يسيء إليهما بسب أو شتم أو إيذاء بأي نوع من أنواعه، فإنه من الكبائر بلا خلاف.
ففي «صحيح مسلم» عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه». قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه»(16).
وفي رواية أخرى: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه». قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه»(17).
ومن برهما صلة أهل ودهما، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبر البر صلةَ الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي»(18). فإن غاب أو مات يحفظ أهل وده ويحسن إليهم، فإنه من تمام الإحسان إليه. وروى أبو أسيد - وكان بدريًّا - قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر والدي بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك»(19). وكان صلى الله عليه وسلم يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها، وهي زوجته، فما ظنك بالوالدين؟!
كل هذه النصوص الشرعية تؤكد على ما للوالدين من حقوق، من بر وطاعة وصلة، وكذلك تؤكد على علو شأنهما وارتفاع قدرهما عند الله سبحانه وتعالى، مما لا يدع مجالا للشك في هذا القدر وتلك المنزلة.
ونحن إنما نذكِّر بقدر الوالدين، وبحقهما في البر والصلة، حتى يعود هذا بالخير على المجتمع المسلم كله، وكفى ببر الوالدين فضلا أن جعل الله رضاه في رضاهما، وكذلك سخطه في سخطهما. نسأل الله العظيم أن يهدينا الطريق المستقيم وأن يتوب علينا والمسلمين.
وننتقل بعد ذلك إلى جهة أخرى من الإنسانية لها حقوق على الإنسان وهي جهة الرحم.
ثانيًا: صلة الرحم
صلة الأرحام ركن قوي من أركان العلاقات في الدين الإسلامي، وهي خلق فاضل حث عليه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه الكريم في غير ما آية وحديث.
وكان العرب يهتمون بالأرحام اهتمامًا بالغًا قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقر هذا الاهتمام، ولم ينه عنها إلا في اتخاذ العصبية الجاهلية، وإنما كان اهتمام العرب بالأرحام؛ لأن تعاطف الأرحام وحمية القرابة يبعثان على التناصر والألفة، ويمنعان من التخاذل والفرقة، أنفة من استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقيًا من تسلط الغرباء الأجانب.
ولذلك حفظت العرب أنسابها لما امتنعت عن سلطان يقهرها ويكف الأذى عنها لتكون به متظافرة على من ناوأها، متناصرة على من شاقها وعاداها، حتى بلغت بألفة الأنساب تناصرها على القوي الأيد وتحكمت به تحكم المتسلط المتشطط.
وقد أعذر نبي الله لوط عليه السلام نفسه حين عدم عشيرة تنصره، فقال لمن بعث إليهم: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}(20) يعني: عشيرة مانعة. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد». يعني: الله عز وجل(21).
وصلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ, أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}(22) وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى وقوله للرحم: «ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فإن ذلك لك»(23)، وقال صلى الله عليه وسلم: «بلوا أرحامكم ولو بالسلام»(24).
ومن المستفيض المشتهر في صفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بصلة الرحم، والأحاديث في هذا المعنى أكثر من أن تحصى نذكر منها على سبيل المثال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أنا الله وأنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته»(25).
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»(26).
وعن عبدالله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس نحوه فأتيته، فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس وجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام»(27).
وقد قال صاحب «درر الحكام»: «صلة الرحم واجبة ولو بسلام وتحية وهدية، وهي معاونة الأقارب والإحسان إليهم والتلطف بهم والمجالسة إليهم والمكالمة معهم ويزور ذوي الأرحام غِبًّا، فإن ذلك يزيد ألفة وحبًّا بل يزور أقرباءه كل جمعة أو شهر، ويكون كل قبيلة وعشيرة يدًا واحدةً في التناصر والتظاهر على من سواهم في إظهار الحق ولا يرد بعضهم حاجة بعض؛ لأنه من القطيعة»(28).
فقطع الرحم المأمور بوصلها حرام باتفاق، لقول الله سبحانه: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}(29) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (30). وقد بين ابن حجر الهيثمي - من الشافعية - ما يكون به قطع الرحم، ووافقه صاحب «تهذيب الفروق» من المالكية. وقد أورد ابن حجر فيه رأيين: أحدهما: الإساءة إلى الأرحام. الثاني: يتعدى إلى ترك الإحسان، فقطع المكلف ما ألفه قريبه منه من سابق الصلة والإحسان لغير عذر شرعي يصدق عليه أنه قطع رحمه، وقد عده بعضهم كبيرة كما سبق.
أما أعذار ترك زيارة الرحم تختلف بحسب نوع الصلة، فعذر ترك الزيارة ضبطه الشافعية والمالكية بالعذر الذي تترك به صلاة الجمعة، بجامع أن كلا منهما فرض عين وتركه كبيرة، وإن كانت الصلة ببذل المال، فلم يبذله لشدة حاجته إليه، أو فقده، أو قدم غير القريب امتثالا لأمر الشرع، كان ذلك عذرًا.
وعذر المراسلة والكتابة ألا يجد من يثق به في أداء الرسالة. ومن الأعذار التي زادها المالكية تكبر القريب الغني على قريبه الفقير، فلا صلة على الفقير حينئذ.
وصلة الرحم واجبة حتى للقريب الفاسق - كما في فتاوى السبكي - فلا يسقط حقه في الصلة بفسقه وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»(31). وهذا يدل على وجوب صلة القريب الفاسق؛ لأن القاطع فاسق وقد أمر بصلته وجعلت هي الصلة، وقال صلى الله عليه وسلم لمن قالت: قدمت أمي وهي مشركة أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك»(32). فهذا العبد القريب الفاسق صلته واجبة والصلة بالإحسان.
وهي واجبة أيضًا لغير المسلمين مطلوبة في الشرع كذلك كبر الوالدين، فللإنسان أن يصل قريبه غير المسلم وإن كانت قرابته بعيدة؛ لأن أصل الصلة من الأخلاق الفاضلة التي جاءت بها الشريعة الغراء، ولأن صلة الرحم محمودة عند كل عاقل وفي كل دين، وهي من مكارم الأخلاق. وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(33). فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعًا.
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا، وأمر بدفع ذلك إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقا على فقراء أهل مكة. فقبل ذلك أبو سفيان، وأبو صفوان وقال: ما يريد محمد بهذا إلا أن يخدع شبابنا(34).
والرحم متفاوتة وليست كلها في درجة واحدة، فهناك الوالدين، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأبناء هؤلاء، وقد ذهب فقهاء الحنفية والشافعية إلى أن درجات الصلة تتفاوت بالنسبة للأقارب، فهي في الوالدين أشد من المحارم، وفيهم أشد من غيرهم. وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك؛ لأن هذا مكافأة، بل أن تصلهم وإن قطعوك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»(35).
وتحصل صلة الأرحام بأمور عديدة منها: الزيارة، والمعاونة، وقضاء الحوائج، والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بلوا أرحامكم ولو بالسلام»(36). ولا يكفي مجرد السلام عند أبي الخطاب كما تحصل الصلة بالكتابة إن كان غائبًا، نص على ذلك الحنفية والمالكية والشافعية، وهذا في غير الأبوين، أما هما فلا تكفي الكتابة إن طلبا حضوره. وكذلك بذل المال للأقارب، فإنه يعتبر صلة لهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة»(37).
وظاهر عبارة الحنفية والشافعية أن الغني لا تحصل صلته بالزيارة لقريبه المحتاج إن كان قادرًا على بذل المال له. ويدخل في الصلة جميع أنواع الإحسان مما تتأتى به الصلة.
وفي صلة الرحم فوائد جليلة، عبر عن أهمها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه»(38). ومن الفوائد الكثيرة التي أشار إليها الفقهاء - رضي الله سبحانه وتعالى عنهم - أن الله سبحانه وتعالى أمر بصلة الرحم لإدخال السرور على الأرحام، كما أن من فوائدها زيادة المروءة، وزيادة الأجر بعد الموت؛ لأن ذوي الرحم يدعون لمن وصلهم بعد موته كلما ذكروا إحسانه.
ولقد ندب الشرع الحنيف إلى زيارة الأقارب خاصة في مواسم الخير كالأعياد، وجعل ذلك عبادة يثاب عليها؛ فقد ذكر الإمام النووي في "المجموع" أن ذلك من سنن العيد فقال: تسن زيارة الصالحين وأهل الخير والأقارب والأصدقاء والجيران وبرهم وإكرامهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم، وينبغي أن يكون من زيارتهم على وجه يرتضونه وفي وقت لا يكرهونه، والأحاديث فيه كثيرة(39).
ومن ثمرات صلة الرحم بين المسلمين قوة المجتمع، والثقة بين أفراده، فإن المجتمع المتواصل، المتواد، مجتمع قوي، يثق فيه أفراده، لا تأتيه الخيانة أبدًا، ويقف وقفة رجل واحد في وجه الشر. نسأل الله لنا وللمسلمين التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
-----------------------
(1 ) الآية 23 من سورة الإسراء.
( 2) من الآية 12 من سورة التغابن.
( 3) من الآية 43 من سورة البقرة.
( 4) من الآية 14 من سورة لقمان.
( 5) من الآية 36 من سورة النساء.
( 6) من الآية 8 من سورة العنكبوت.
( 7) الآية 14 من سورة لقمان.
( 8) أخرجه البيهقي في «الشعب» (6/ 177) حديث (7830).
( 9) أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في الرجل يغزو وأبواه كارهان» حديث (2528)، والنسائي في كتاب «البيعة» باب «البيعة على الهجرة» حديث (4163)، وابن ماجه في كتاب «الجهاد» باب «الرجل يغزو وله أبوان» حديث (2782).
( 10) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الجهاد» باب «الرجل يغزو وله أبوان» حديث (2781).
( 11) أخرجه النسائي في كتاب «البيوع» باب «الحث على الكسب» حديث (4452)، وابن ماجه في كتاب «التجارات» باب «الحث على المكاسب» حديث (2137) من حديث عائشة رضي الله عنها.
( 12) أخرجه أبو داود في كتاب «البيوع» باب «في الرجل يأكل من مال ولده» حديث (3530) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه النسائي في كتاب «البيوع» باب «الحث على الكسب» حديث (4450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
( 13) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (2 /340) حديث (9707).
( 14) «حاشية الصاوي على الشرح الصغير» (4/ 739- 740).
( 15) من الآية 36 من سورة النساء.
( 16) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الكبائر وأكبرها» حديث (90).
( 17) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «لا يسب الرجل والديه» حديث (5973) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
(18 ) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما» حديث (2552).
( 19) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في بر الوالدين» حديث (5142).
( 20) الآية 80 من سورة هود.
( 21) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «قوله: { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }» حديث (4694)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة» حديث (151).
( 22) الآيتان 22 ، 23 من سورة محمد.
( 23) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «تفسير القرآن» باب «وتقطعوا أرحامكم» حديث (4832)، وفي كتاب «الأدب» باب «من وصل وصله الله» حديث (5987)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «صلة الرحم وتحريم قطيعتها» حديث (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( 24) أخرجه البيهقي في «الشعب» (6/ 227) حديث (7973) من حديث أنس رضي الله عنه.
( 25) أخرجه أبو داود في كتاب «الزكاة» باب «في صلة الرحم» حديث (1694).
( 26) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «صلة الرحم وتحريم قطيعتها» حديث (2555) من حديث عائشة رضي الله عنها.
( 27) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الأطعمة» باب «إطعام الطعام» حديث (3251)، والدارمي في كتاب «الصلاة» باب «فضل صلاة الليل» حديث (1460)، وفي كتاب «الاستئذان» باب «في إفشاء السلام» حديث (2632)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 14) حديث (4283) وصححه من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه.
( 28) «درر الحكام شرح غرر الأحكام» (1/ 323).
( 29) الآية 27 من سورة البقرة.
( 30) الآية 25 من سورة الرعد.
( 31) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «ليس الواصل بالمكافئ» حديث (5991) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
( 32) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الهبة وفضلها والتحريض عليها» باب «الهدية للمشركين» حديث (2620)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج» حديث (1003) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
( 33) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 381) حديث (8939) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 188) وقال: «ورجاله رجال الصحيح».
( 34) «شرح السير الكبير» للسرخسي (1/ 96).
( 35) أخرجه البخاري، وقد سبق تخريجه منذ قليل.
( 36) أخرجه البيهقي في «الشعب» (6/ 227) حديث (7973) من حديث أنس رضي الله عنه.
( 37) أخرجه الترمذي في كتاب «الزكاة» باب «ما جاء في الصدقة على ذي القرابة» حديث (658)، والنسائي في كتاب «الزكاة» باب «الصدقة على الأقارب» حديث (2582)، وابن ماجه في كتاب «الزكاة» باب «فضل الصدقة» حديث (1844) من حديث سليمان بن عامر الضبي رضي الله عنه.
( 38) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «من بسط له في الرزق بصلة الرحم» حديث (5986)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «صلة الرحم وتحريم قطيعتها» حديث (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
( 39) «المجموع شرح المهذب» (4/ 478- 479).
المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة .