بتـــــاريخ : 10/23/2008 2:55:07 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 697 0


    الأخلاق المحمدية

    الناقل : heba | العمر :42 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    اخلاق قيم

    ما المقصود بالأخلاق المحمدية التى كثيرا ما نسمعها من علماء الدين ورجال التصوف ؟

    والجواب : 

        الأخلاق الفاضلة هي أثر الإيمان الصحيح والإسلام الصادق، فهي برهان الإيمان بالله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر والقدر، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في كل خلق فاضل، وأرشد ربنا المسلمين لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل أخلاقه، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}
    (1) وكان ذلك الحث من الله لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأعلى والأكمل للأخلاق الفاضلة وقد أثنى الله على كمال أخلاقه فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2)، وكما أخبر هو بنفسه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(3).
        وسوف نتكلم عن جملة من الأخلاق المحمدية الفاضلة عسى الله يرزقنا التمسك بها، وهي ليست كل الأخلاق الفاضلة ولكنها قد تكون من أهم جوامع الأخلاق.

    أولا: الأمانة:
        ورد الحث على الأمانة في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، فمن الآيات التي ورد فيها الحث على الأمانة قوله سبحانه في اللوم على بني آدم في عدم مراعاة الأمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
    (4)، وقال سبحانه في الأمر الصريح بأداء الأمانات إلى أهلها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(5).
        وفي النهي عن الخيانة وذم الخائنين قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
    (6) وقال سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}(7). وقال عز من قائل: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}(8). وقال سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخَائِنِينَ}(9).
        بل إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن الخائنين أنفسهم فقال سبحانه: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}
    (10).
        أما في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم وسنته المشرفة فقد كانت الأمانة من أهم مميزات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يشهد بها أعداؤه فقد سموه الصادق الأمين، وقد طمأنته أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - عندما نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي عندما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرًا». قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث
    (11).
        فقد ورد الكثير من الأحاديث التي تحث على الأمانة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاملة بالمثل في عدم الأمانة خاصة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»
    (12).
         كما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد الحديث وعدم الإيصاء بكتمانه أمانة يجب حفظها وعدم كشفها لأحد، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجلُ الرجلَ بالحديث ثم التفت فهي أمانة»
    (13).
        وأخبر الرسول الأكرم - صلوات الله عليه وسلامه - أن ضياع الأمانة من علامات فساد الزمان؛ فعن حذيفة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا، وليس فيه شيء ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان»
    (14).
        وغير هذا الكثير من نصوص الكتاب والسنة التي تبين وتدل على أن الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظيم قدرها أنها تقف على جنبتي الصراط ولا يُمَكِّن من الجواز إلا من حفظها - كما رواه مسلم في صحيحه - فليس هناك أدل على عظم قدر الأمانة من كونها تكون بجوارك على الصراط يوم القيامة.
        والأمانة تكون في الأعيان كما ذكرنا، وتكون كذلك في غيرها فكلمة الحق أمانة، وإتقان العمل وأداؤه بالشكل المتفق عليه أمانة، فمن ترك عمله فهو خائن للأمانة، ومن قصَّر فيما طُلِبَ منه فهو خائن للأمانة.
        فالأمانة هي الالتزام بكل ما شرع من الدين، والالتزام بكل ما اتفق عليه بين الناس من العقود والأعمال، وإذا طبق المسلمون خُلُقَ الأمانة سوف يتغير الحال إلى خير حال. فسنجد كل إنسان يتقن عمله، ويحافظ على كلامه، ويخدم مجتمعه ووطنه، وسوف يظهر هذا في قوة المجتمع وتقدمه وازدهاره على نحو يفخر به كل من انتسب إلى هذا الدين.

    ثانيًا: الرحمة:
        والرحمة في اللغة: الرقة والتعطف والمَرْحَمَةُ مثله وقد رَحِمَهُ –بالكسر- رَحْمَةً ومَرْحَمَةً أيضًا، وتَرَحَّمَ عليه، وتَرَاحَمَ القوم: رَحِمَ بعضهم بعضًا، والرَّحَمُوتُ من الرحمة، يقال: رهبوت خير، من رحموت أي لأن تُرهَب خير من أن تُرحَم والرَّحِمُ القرابة، والرحم أيضًا بوزن الجسم مثله، والرَّحْمنُ الرَّحِيمُ اسمان مشتقان من الرحمة.
        وقد رحمنا الله رحمة بالغة، عندما أعلمنا أنه رحيم سبحانه، تهدئة لروعنا، فبعد أن أخبر أنه الرحمن الرحيم، فاضت رحمته علينا؛ إذ أعلمنا أن الرحمة حق عليه أوجبها سبحانه على نفسه إذ يقول: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
    (15).
        كما بيّن لنا سبحانه وتعالى أن رحمته لنا ليست عن حاجة وميل إلينا، تعالى عن هذا علوًّا كبيرًا، بل رحمته نابعة من غِناه عنا، سبحانه وتعالى إذ يقول: {وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
    (16).
        وأمر الله عباده بالتخلُّق بهذا الخلق القويم، لاسيما مع أصحاب الحقوق علينا، بل مع أولى الناس بنا وهم الوالدين إذ يقول سبحانه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا}
    (17).
        كما يبيّن ربنا - سبحانه وتعالى - أن جزاء الإيمان والصدقة واستغفار الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم - هو أن يرحمنا ربنا ويدخلنا في تلك الرحمة الواسعة ويغفر لنا ذنوبنا فقال عز وجل: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
    (18).
        ولأن هذه الأمة هي أمة الرحمة والهداية، دَأَبَ المحدثون في تبليغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبة العلم، على أن يستفتحوا بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، هذا الحديث الذي انقطعت أوليته عند سفيان بن عيينة الذي يرويه عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي قَابُوسَ - مَوْلًى لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
    (19).
        وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تحثُّ المسلمين على التخلق بالرحمة فيما بينهم ومع جميع الخلق، بل خوَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بأنّ تَرْك هذه الصفة الحميدة قد تستوجب غضب الله يوم القيامة حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ»
    (20).
        وهذا الصحابي الجليل أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - يخبرنا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ أَبَا الْقَاسِمِ صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ يقول: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
    (21).
        بل حث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على الرحمة مع كل الخلق، والحيوان، بل وحث على الرحمة مع الحيوان في موقف قلَّ من يتذكر الرحمة فيه، إلا من رحم الله، وصار على هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذا الموقف هو موقف ذبح الحيوان فقد ثبت في أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَإِنِّي أَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ إذَا ذَبَحْتهَا، فَقَالَ: «إنَّ الشَّاةَ إنْ رَحِمْتهَا رَحِمَك اللَّهُ مَرَّتَيْنِ»
    (22).
        ولا يخفى ما يؤثر من حلمه صلى الله عليه وسلم واحتماله الأذى، وإن كل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرًا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلمًا.
        ويؤكد هذا الخلق العالي دعاؤه لقومه الذين آذوه وعادوه، وما دعا عليهم، وإن كان الدعاء عليهم ليس بمنقصة، فإن الدعاء على الظالم المعاند لا شيء فيه وفعله أولو العزم من رسل الله كنوح عليه السلام وموسى الكليم عليه السلام. فكان دعاء سيدنا نوح، فقد قال القرآن عنه في دعائه على قومه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا}
    (23).
        وأما دعاء سيدنا موسى عليه السلام فقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ}
    (24).
        وقد كانا - عليهما السلام - على حق، ولكن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أحق؛ فقد روى الطبراني - وذكره الهيثمي في مجمعه وقال: رجاله رجال الصحيح - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كُسرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ وجهُه الشريف صلى الله عليه وسلم يوم أحد، شق ذلك على أصحابه شقًّا شديدًا، وقالوا: لو دعوت عليهم. فقال: «إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثت داعيًا ورحمة: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون».
        وأخرج البخاري في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك فسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت, إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين». فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»
    (25).
        وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن من جذبه من الأعراب جذبة شديدة، وأعطاه سؤاله وزاد، وعفا صلى الله عليه وسلم عن اليهودية التي سمت الشاة له بعد اعترافها، ولم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره، ولا عتب عليه فضلا عن معاقبته. فهذا هو الأسوة الحسنة والنموذج الأعلى المرضي عند ربه صلى الله عليه وسلم.

    ثالثًا: التواضع
        التواضع أصله في اللغة من: وضَعَ الشيءَ وَضْعًا: اخْتَلَقَه. وتَواضَعَ القومُ على الشيء: اتَّفَقُوا عليه.  وأَوْضَعْتُه في الأَمر إِذا وافَقْتَه فيه على شيء. والضَّعةُ والضِّعةُ: خِلاف الرِّفْعةِ في القَدْرِ، والأَصل وِضْعةٌ، حذفوا الفاء على القياس كما حذفت من عِدة وزِنة.
        والتواضع: ضد الكبر، والكبر مذموم طبعًا وشرعًا، فإن النفس تبغض المتكبر من الخلق بطبيعتها، والكبر في اللغة: بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ: الْعَظَمَةُ, وَكِبَرُ الشَّيْءِ مُعْظَمُهُ.
        أما معناه في اصطلاح أهل الشريعة: فقد عرفه الغزالي بأنه الخُلُق الذي في النفس, وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه.
        وهو خُلُق إسلامي رفيع المنزلة، شهد بفضله كل عاقل، ودعا إليه كل مصلح؛ لما فيه من الفوائد الجليلة على الفرد والمجتمع، وقد حث الله سبحانه وتعالى عليه وأمر به في كتابه، وعلى لسان حبيبه المجتبى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان التواضع سيرته الغالبة وسنته الراشدة.
        وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن التواضع للمؤمنين من صفات أحبائه الكرام، الذي يستبدل بهم المرتدين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
    (26).
        وقد أخبر ربنا كذلك أن التواضع لله في السير من صفات عباده الصالحين فقال سبحانه وتعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}
    (27).
        وأمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتواضع للمؤمنين أتباعه، فقال سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}
    (28).
        ويتأكد التواضع ويتحتم إذا كان المتواضع له فضل ومنزلة كالوالدين، فقد أخبر ربنا بوجوب التواضع لهما فقال سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا}
    (29).
        وقد بشر الله المؤمنين المتواضعين بالنعيم المقيم في الدار الآخرة، فقال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِى الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
    (30).
        وقد ذم الله الكبر وأهله، وتوعد المتخلق بهذا الخلق البغيض بالعذاب الشديد فقال سبحانه: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ}
    (31).
        وقال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}
    (32).
        وقال سبحانه وتعالى حكاية عن لقمان في نصائحه لابنه: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
    (33). وذكر ربنا سبحانه وتعالى أن نبيه الكريم موسى عليه السلام استعاذ بربه من كل المتكبرين فقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ}(34).
        وأخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه أن فرعون كان به كبر وعلو على خلق الله فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ}
    (35).
        وفي سنة النبي الأكرم المصطفى صلى الله عليه وسلم وصايا بالتواضع أكثر من أن تحصى، يرشد فيها الأمة إلى التخلق بهذا الخلق العظيم الذي يعود بالخير على الفرد والمجتمع المسلم كله فمن هذه النصوص ما رواه عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا, حتى لا يفخر أحد على أحد, ولا يبغي أحد على أحد»
    (36).
        وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تواضع لله أحد إلا رفعه»
    (37).
        وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن تواضع لله في غير منقصة, وذل في نفسه من غير مسألة, وأنفق مالا جمعه في غير معصية, ورحم أهل الذل والمسكنة, وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته, وكرمت علانيته, وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه, وأنفق الفضل من ماله, وأمسك الفضل من قوله»
    (38).
        وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تواضـع لله درجة يرفعـه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين، ومن يتكبر على الله درجة يضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل السافلين، ولو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس عليها باب ولا كوة لخرج ما غيبه للناس كائنا ما كان»
    (39).
        وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لا أعلمه إلا رفعه - قال: «يقول الله تبارك وتعالى: من تواضع لي هكذا - وجعل يزيد باطن كفه إلى الأرض وأدناها إلى الأرض - رفعته هكذا، وجعل باطن كفه إلى السماء ورفعها نحو السماء»
    (40).
        وعن عمر بن الخطاب أيضًا أنه قال على المنبر: أيها الناس، تواضعوا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تواضع لله رفعه الله، قال: انتعش نعشك الله، فهو في أعين الناس عظيم وفي نفسه صغير, ومن تكبر قصمه الله وقال: اخسأ، فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير»
    (41)
        وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك, فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته, وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته»
    (42).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله»
    (43).
        وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسب إلا في التواضع, ولا نسب إلا بالتقوى, ولا عمل إلا بالنية, ولا عبادة إلا باليقين»
    (44).
     
        هذه جملة من الأخلاق المحمدية هي من جماع وأصول كل الأخلاق الفاضلة نسأل الله أن يرزقنا التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وكل أحواله. آمين.


    الهوامش:
    --------------------------
    (1 )
    الآية 21 من سورة الأحزاب.
    (2 )
    الآية 4 من سورة القلم.
    ( 3)
    أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 381) حديث (8939) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 188) وقال: «ورجاله رجال الصحيح».
    (4 )
    الآية 72 من سورة الأحزاب.
    ( 5)
    الآية 58 من سورة النساء.
    ( 6)
    الآية 27 من سورة الأنفال.
    ( 7)
    الآية 58 من سورة الأنفال.
    ( 8)
    الآية 107 من سورة النساء.
    ( 9)
    من الآية 52 من سورة يوسف.
    ( 10)
    الآية 105 من سورة النساء.
    ( 11)
    أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة»، وذكره القرطبي في «تفسيره» (1/ 115)، وأبو جعفر الطبري في «الرياض النضرة» (1/ 431).
    ( 12)
    أخرجه أبو داود في كتاب «البيوع» باب «في الرجل يأخذ حقه من تحت يده» حديث (3535)، والترمذي في كتاب «البيوع» باب «ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر» حديث (1264)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 53) حديث (2296) وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب».
    ( 13)
    أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في نقل الحديث» حديث (4868)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء أن المجالس أمانة» حديث (1959)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/ 235) حديث (25598) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن».
    ( 14)
    متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الرقاق» باب «رفع الأمانة» حديث (6497)، وفي كتاب «الفتن» باب «إذا بقي في حثالة من الناس» حديث (7086)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب» حديث (143) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
    ( 15)
    من الآية 12 من سورة الأنعام.
    ( 16)
    الآية 133 من سورة الأنعام.
    ( 17)
    الآية 24 من سورة الإسراء.
    ( 18)
    الآية 99 من سورة التوبة.
    ( 19)
    أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الرحمة» حديث (4941)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في رحمة الناس» حديث (1924)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 175) حديث (7274) وصححه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
    ( 20)
    متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قول الله تبارك وتعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } » حديث (7376)، ومسلم في كتاب «الفضائل» باب «رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال» حديث (2319) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
    ( 21)
    أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 461) حديث (9941)، (9946)، (2/ 539) حديث (10964)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في الرحمة» حديث (4942)، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في رحمة الناس» حديث (1923)، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن».
    (22 )
    أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 436)، (5/ 34)، وابن أبي شيبة واللفظ له في «مصنفه» (5/ 214) حديث (25361)، والحاكم في «مستدركه» (3/ 676- 678) حديث (6482)، (4/ 257) حديث (7562) وصححه من حديث قرة رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 33) وقال: «وله ألفاظ كثيرة، ورجاله ثقات».
    ( 23)
    الآية 26 من سورة نوح.
    ( 24)
    الآية 88 من سورة يونس.
    ( 25)
    متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «بدء الخلق» باب «ذكر الملائكة» حديث (3231)، ومسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين» حديث (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها.
    ( 26)
    الآية 54 من سورة المائدة.
    ( 27)
    الآية 63 من سورة الفرقان.
    (28)
    الآية 215 من سورة الشعراء.
    (29 )
    الآية 24 من سورة الإسراء.
    (30 )
    الآية 83 من سورة القصص.
    (31 )
    الآية 29 من سورة النحل.
    (32 )
    الآية 59 من سورة الروم.
    (33 )
    الآية 18 من سورة لقمان.
    ( 34)
    الآية 27 من سورة غافر.
    (35 )
    الآية 4 من سورة القصص.
    (36 )
    أخرجه مسلم في كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب «الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة» حديث (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
    ( 37)
    أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «استحباب العفو والتواضع» حديث (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    (38 )
    أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/ 71) حديث (4615)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 182) حديث (7572) من حديث ركب المصري رضي الله عنه.
    (39 )
    أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (12/ 491) حديث (5678).
    (40 )
    أخرجه أحمد (1/ 44) حديث (309)، والبزار في «مسنده» (1/ 278) حديث (175) من حديث عمر رضي الله عنه، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 82) وصححه.
    (41 )
    أخرجه الطبراني في «الأوسط» (8/ 172) حديث (8307).
    (42 )
    أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 218) حديث (12939)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 82) وحسنه.
    (43 )
    أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7/ 354) حديث (7711).
    (44 )
    ذكره الديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (5/ 191).


    المصدر : كتاب سمات العصر ، لفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة

    كلمات مفتاحية  :
    اخلاق قيم

    تعليقات الزوار ()