وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحثُّ أصحابَه على القيام، ويبيِّن لهم فضله وثوابه في الدنيا والآخرة، تحريضًا على نَيل بركاته والظفر بحسناته.. قال- صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه تكفيرٌ للخطايا والذنوب، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة للداء عن الجسد" (رواه الترمذي والحاكم).
ثمرات قيام الليل
من ثمراته دعوة تستجاب، وذنب يُغفر، ومسألة تُقضى، وزيادةٌ في الإيمان، والتلذذ بالخشوع للرحمن، وتحصيل السكينة، ونيل الطمأنينة، واكتساب الحسنات، ورفعة الدرجات، والظفر بالنضارة والحلاوة والمهابة، وطرد الأدواء من الجسد.. فمَن منا مستغنٍ عن مغفرة الله وفضله؟! ومَن منَّا لا تضطَّره الحاجة؟! ومَن منَّا يزهد في تلك الثمرات والفضائل التي ينالها القائم في ظلمات الليل لله؟!
وهذه توجيهات نبوية تحضُّ على نيل هذا الخير:
فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن" (رواه الترمذي وصححه)، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودُبُر الصلوات المكتوبات" (رواه الترمذي وحسنه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجِيبَ له، مَن يسألُني فأعطيَه، من يستعفرني فأغفرَ له" (رواه البخاري ومسلم)، وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "تُفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي منادٍ: هل من داع فيُستجاب له؟ هل من سائل فيُعطَى؟ هل من مكروب فيُفرَّج عنه؟ فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله تعالى له، إلا زانية تسعى بفرجها، أو عشارًا" رواه الترمذي وحسنه).
فيا ذا الحاجة، ها هو الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة نُزولاً يليق بجلاله وكماله، وهو المنزَّه عن الشبيه والمثيل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ) (الشورى:11)، ويعرض علينا رحمته واستجابته وعطفه ومودته، وينادينا نداءً حنونًا مشفقًا: هل من مكروب فيفرج عنه؟! فأين نحن من هذا العرض السخي؟! قم أيها المكروب في ثلث الليل الأخير، وقل: لبيك وسعديك.. أنا يا مولاي المكروب وفرجُك دوائي، وأنا المهموم واكشف سنائي، وأنا الفقير وعطاؤك غنائي، وأنا الموجوع وشفاؤك رجائي.
قم وأحسن الوضوء ثم صلِّ ركعات خاشعة.. أظهر فيها لله ذُلَّك واستكانتك له.. وأَطلِعه على نية الخير والرجاء في قلبك.. فلا تدع في سويدائه شوبَ إصرار.. ولا تبيِّتْ فيه سوء نية، ثم تضرع وابتَهِل إلى ربك شاكيًا إليه كربك.. راجيًا منه الفرج.. وتيقََّن أنه موعود بالاستجابة فلا تعجَل ولا تدع الإنابة.. فإن الله قد وعدك إن دعوتَه أجابك، قال سبحانه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل:62).
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء؟!
سهام الليل لا تخطي ولكن ها أمد وللأمد انقضاء
قم يا ذا الحاجة ولا تستكبر عن السؤال فقد دعاك مولاك إلى التعبُّد له بالدعاء، فقال سبحانه: (واسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:32)، وخير وقت تسأله فيه هو ثلث الليل الآخر.. قم ولا تيأس مهما اشتد اضطرارك.. فربك قديرٌ لا يعجزه شيء، وإنما أمره إذا قضى شيئًا أن يقول له كن فيكون.. وتذكر أن الله سبحانه من جميل رحمته قد حرَّم عليك سوء الظن به كما حرم عليك اليأس من رحمته، فقال سبحانه: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) (يوسف:87).
قم وأحسن الظن بريك.. وتودَّد إليه بجميل أوصافه، وسعة رحمته، وجميل عفوه، وعظيم عطفه ورأفته، فحاجتك ستُقضى.. وكربك سيزول.. فلا تيأس واطلب في محاريب القيام الفرج، ويا صاحب الذنب قد جاءتك فرصة الغفران تعرض كل ليلة، بل هي أمامك كل حين، ولكنها في الثلث الأخير أقرب إلى الظفر والنيل.. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" (رواه مسلم)، وقد تقدم في الحديث أن الله جل وعلا ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟" (رواه البخاري ومسلم).
ويد الله سبحانه مبسوطةٌ للمستغفرين بالليل والنهار، ولكنَّ استغفار الليل يفْضُل استغفار النهار بفضيلة الوقت وبركة السحر؛ ولذلك مدَح الله جل وعلا المستغفرين بالليل فقال سبحانه: (وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران:17)؛ وذلك لأن الاستغفار بالسحر فيه من المشقة ما يكون سببًا لتعظيم الله له، وفيه من عنت ترك الفراش ولذة النوم والنعاس ما يجعله أولى بالاستجابة والقبول، لاسيما مع مناسبة نزول المولى جل وعلا إلى سماء الدنيا وقربه من المستغفرين.. فلا شكَّ أن لهذا النزول بركةً تفيض على دعوات السائلين وتوبة المستغفرين وابتهالات المبتهلين.
فيا من أسرف على نفسه بالذنوب حتى ضاقت بها نفسه، وشق عليه طلب العفو والغفران لما يراه في نفسه من نفسه من عظيم العيوب وكبائر السيئات.. قم لربك في ركعتين خاشعتين؛ فقد عرض عليك بهما الغفران، قال لك: مَن يستغفرني فأغفرَ له؟! قم واهمس في سجودك بخضوع وخشوع تقول: أستغفرك اللهم وأتوب إليك.. رب اغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.. اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
ويا صاحب النعمة أقبل على ربك بالليل وأدِّ حق الشكر له: فإن قيام الليل أنسب أوقات الشكر، وهل الشكر إلا حفظ النعمة وزيادتها؟! تأمل في رسول الله لما قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: يا رسول الله، أما غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" (رواه البخاري).
ففي هذا الحديث دلالةٌٌ قويةٌ على أن قيام الليل من أعظم وسائل الشكر على النعم، ومن منَّا لم ينعم الله عليه؟! فنعمه سبحانه تلوح في الآفاق، وتظهر علينا في كل صغيرة وكبيرة.. في رزقنا وعافيتنا وأولادنا وحياتنا بكل مفرداتها، وما خفي علينا أكثر وأكثر؛ فإن أحق الناس بالزيادة في النعمة هم أهل الشكر، وأنسب أوقات الشكر حينما يقترب المنعم وينزل إلى السماء الدنيا؛ ولذلك كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلِّل قيامه ويقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" أي: أفلا أشكر الله عز وجل؟!
فقم أخي ليلك بنية ذكر الله ونية الاستغفار، ونية الشكر تبسط لك النعم، ويبارك لك في مالك وعافيتك وأهلك وولدك وبيتك وشأنك كله.
أولاً: الإقلال من الطعام
فإن كثرة الطعام مجلبةٌ للنوم، ولا يتيسر قيام الليل إلا لمن قل طعامه، ولقد بيَّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حد الشبع وآدابَه، فقال: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالةَ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلثٌ لنفسه" (رواه أحمد ).
قال عبد الواحد بن زيد: من قوي على بطنه قوي على دينه، ومن قوي على بطنه قوي على الأخلاق الصالحة، ومن لم يعرف مضرته في دينه من قِبَل بطنه فذلك رجل من العابدين أعمى، وقال وهب بن منبه: ليس من بني آدم أحب إلى الشيطان من الأكول النوَّام، وقال سفيان الثوري: عليكم بقلة الأكل تملكوا قيام الليل.
وجدت الجوع يطرده رغيف وملء الكفء من ماء الفرات
وقل الطعم عون للمصلي وكثر الطعم عون للسبات
ثانيًا: الاستعانة بالقيلولة
فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد وجَّه إلى الاستعانة بها ومخالفة الشياطين بها، فقال: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" (رواه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة)، ومر الحسن بقوم في السوق فرأى صخبهم ولغطهم، فقال: أما يقيل هؤلاء؟! قالوا: لا.. قال: إني لأرى ليلَهم ليلَ سوء، وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: القائلة من عمل أهل الخير، وهي مجمَّة للفؤاد، مقواة على قيام الليل.
ثالثًا: الاقتصاد في الكدِّ نهارًا
والمقصود به عدم إتعاب النفس بما لا ضرورة منه ولا مصلحة فيه، كفضول الأعمال والأقوال ونحوها، أما ما يستوجبه الكسب والحياة من الضرورات ولا غِنَى للمرءِ عن الكدِّ لأجله فيقتصد فيه بحسب ما تتحقق به المصالح.
رابعًا: اجتناب المعاصي
فالمعصية تُقعد عن الطاعة، وتُوجب التشاغل عن العبادات، وتَحرِم المؤمن من التوفيق إلى النوافل والفضائل؛ ولذلك تواتر عن السلف القول إن المعاصي تحرم العبد من القيام.. قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافًى، وأحب قيام الليل، وأُعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟! قال: ذنوبك قيَّدتْك، وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبتُه، قيل وما هو؟! قال رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي هذا مُراءٍ، وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: إني لا أقدر على قيام الليل فصِف لي دواءً؟ قال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه بالليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
خامسًا: سلامة القلب من الأحقاد
سلامة القلب من الأحقاد على المسلمين، ومن البدع وفضول هموم الدنيا، فإن ذلك يشغل القلب ويضغط عليه، فلا يكاد يهتم بشيء سواه.
سادسًا: خوف غالب
أي لزوم القلب أن يتذكر قصر الأمل، فإنه إذا تفكر أهوال الآخرة ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره.
سابعًا: الوقوف على فضائل القيام وثمراته
لأنها تهيِّج الشوق، وتُعلي الهمة، وتُحيي في النفس الطمع في رضوان الله وثوابه، وقد تقدم ذكر أهمها.
ثامنًا، وهو أشرف البواعث: حب الله وقوة الإيمان
لأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناجٍ به، والله مطلع عليه، مع مشاهدة ما يخطر بقلبه، وأن تلك الخطرات من الله تعالى خطاب معه، فإذا أحب اللهَ تعالى أحب لا محالةَ الخلوةَ به وتلذذ بالمناجاة، فتحمله لذة المناجاة للحبيب على طول القيام.
أخي في الله: إن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل، ولا تشرق أنوارها فتبدد ظلمات جاهلية القرن الحالي ما لم تلهج بـ"يا حي يا قيوم"، وهذه وصية الإمام البنا "دقائق الليل غالية، فلا ترخِّصوها بالغفلة".. "إن النصر حُجب عنا لأننا لم نقدم بين يدي الله همسًا في الأسحار، ولا الدمع المدرار، وإنما النصر هبة محضة، يقر الله بها عين مَن يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا"، ووصفهم ابن القيم قائلاً:
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة بتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
وهيا بنا ننفض غبار النوم عنا، ونسعد بأوقات السحر، ونسعد الآخرين بما يحققه الله على أيدينا وأيديكم من فتح، يعزُّ فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، ويقولون متى هو؟! قل عسى أن يكون قريبًا.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وبعد هذا العرض للأحاديث والفوائد التربوية والسلوكية المستفادة، نتمنَّى من الله أن تتحول هذه المعاني والفوائد إلى سلوكيات عملية في حياتنا؛ حتى نسعد في الدنيا والآخرة، ونكونَ ممَّن يضحك الله سبحانه وتعالى إليهم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين