الفلسفة ليست علم، فماهي اذن؟
البعض يقول انها ام العلوم، والبعض يقول انها الحكمة.. ولكن مهما كانت تبقى الفلسفة مرتبطة " بتصوراتنا" الذاتية الى حد بعيد، ولهذا السبب نجد وجود فلسفة اغريقية، وفلسفة دينية، وفلسفة وجودية وفلسفة علمية.. كل ذلك حسب الخلفية الفكرية التي تربى عليها الفيلسوف..
ولكن (من جديد) تبقى الفلسفة محاولة للبحث عن الكليات بالمنظور العقلي.. غير ان العقل وحده لايكفي.
يكتب الزميل صارغون مدخل الى الفلسفة اضعه بين ايديكم لكونه مناسب كمقدمة:
لا يُمكن أن يتم تعريف الفلسفة خارج نسق أو مذهب فلسفي ودائري يُمسك بعضه برقاب بعض , فالذي يريد أن يُعرّف الفلسفة عليه أن يضع نظامه ونسقه الفكري الخاص والمتكامل الأركان , لأن التعريف ينتج عنه ضرورات منطقية وخطوات منهجية تستتبعه . وهنا سأجتهد من أجل تعريف الفلسفة كما أرها في شخصي , لا في مذهبي , لأنني لم أؤسس مذهباً فكرياً مُستقلاً بعد ! وقبل أن أضع مُلاحظاتي الشخصية حول تعريف الفلسفة , ينبغي أن أضع لمحة سريعة لأهم التعاريف التاريخية للفلسفة من قبل الفلاسفة أنفسهم , وهذه التعريفات - كما سنلاحظ - تمثل مقدمة للفلسفة التي سيسير عليها الفيلسوف في نظامه الفكري , ولنبدأ أولاً بأفلاطون :
1- يرى أفلاطون أن المعرفة الحقيقية هي معرفة المُثل , وهذه المُثل هي الكليات التي يتم إدراكها بالعقل ( مثل إدراكنا للكتاب , المنضدة , الإنسان ) وهي بالطبع مختلفة عن الجزئيات المتعينة حسياً ( إدراكنا لكتاب خالد , أو منضدة زيد , أو إدراكنا لشخص عمرو ) وبالتالي فتعريفه للفلسفة يكون متعلقاً بمعرفة المثل الخالدة والأبدية .
2- ويرى أرسطو في كتابه عن الميتافيزيقا , والذي جمعه تلميذه أندرونيقوس في القرن الأول قبل الميلاد , أن الفلسفة هي الميتافيزيقا نفسها , وهي علم العلوم , من حيث بحثها في المبادئ العامة والمجردة , والتي ينبني عليها كل علم جزئي . هذا يعني - أرسطياً - أن الفلسفة هي أم العلوم وعلتها جميعها , فالعلم بالعلة أشرف من العلم بالمعلول .
3- وفي الحضارة الإسلامية لم يخرج تعريف الفلسفة عن هذا الإطار اليوناني , فالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد يُجمعون على كون الفلسفة هي علم المبادئ الأولى والكُلية للوجود . والسبيل لهذه المعرفة الميتافيزيقية هو العقل , وإذا ما اصطدم العقل بالنقل لزم تقديم العقل , وفي ذلك مُخالفة صريحة لروح الحضارة الإسلامية . والميتافيزيقا عند فلاسفة الإسلام هؤلاء هي معرفة عُموميات الوُجود , بينما الكيمياء هي معرفة عناصر الطبيعة , والطب هو معرفة تفاصيل الجسم البشري لمكافحة أمراضه , والفيزياء هي معرفة قوانين حركة الطبيعة . وقد تأثروا جميعاً بأرسطو ومصنفاته التقليدية بخصوص العلوم , إذ تأتي الفلسفة على رأس الهرم العلمي .
4- وفي العصر الحديث , وصولاً إلى القرن العشرين , صار للفلسفة عشرات التعريفات , وكل تعريف ينبع من مذهب صاحبه . فديكارت يرى الفلسفة أنها جذر المعرفة وركنها الركين في كتابه عن مبادئ الفلسفة . وكانط يرى أن الفلسفة والميتافيزيقا عليهما الالتزام بتحليل الأفكار ونقد العقل وعدم التمادي والشّطط في التفكير الميتافيزيقي . بينما يرى التجريبيون عموماً , منذ هيوم حتى راسل , أن الفلسفة هي تركيب شامل للعلوم في صيغ وأنساق نظرية تعتني بمنجزات العلوم وتساهم في نشر الأفكار العلمية . ويرى هيجل أن الفلسفة هي تاريخ الفلسفة نفسها , من حيث تطورها وتعدد مدارسها وصولاً للعصر الحاضر من أجل تجاوزه باتجاه العصور المستقبلية وانتهاءً بالمطلق , فلا يمكن فهم تعريف واحد دون فهم التعريف الذي يضاده ضمن جدلية التأليف والتركيب والرفع , الخ . بينما هي عند ماركس ولفيف الماركسيين ترتبط بالصيرورة التاريخية والجدل الاجتماعي وتحليل التاريخ بغية التأسيس لفلسفة جديدة قائمة على الصيرورة والتغير وسيادة المجتمع اللاطبقي . ويرى الوجوديون أن الفلسفة لا دخل لها بهذا الكلام كله , وإنما هي أداة لفهم الإنسان الفرد فقط , فهم آماله وميوله وآلامه وتحدياته , أي أنها , كما يقول الوجودي يسبرز , أعظم رسالة يمكن لأي إنسان أن يُكلف بحملها .
هذا كله فيما يخص ماضي التعريفات الفلسفية , ولو أردت أن أتوسع في طرح هذه التعريفات لما كفاني مقال واحد ولاحتجت أن أسرد الأسفار المطولة للإلمام بكل ثنايا التعريف وطواياه . ولكن تعقيد الموضوع لن يمنعني من محاولة الإيجاز والاختصار قدر المُستطاع , وهذه الملاحظات الآتية أسوقها من أجل " المُحاولة " للعثور على سمات مشتركة بين التعريفات المختبئة في تاريخ الفلسفة , ومُحاولتي هذه أتت من واقع قراءتي الشخصية للفلسفة واطلاعي على حياة الفلاسفة وآثارهم , ومن واقع محاولتي في هذا الموضوع للعثور على قاسم مشترك يجمع كل أنماط التفكير الفلسفي , فدونكم هذه المُلاحظات :
1- الفلسفة هي أشمل معرفة على الإطلاق , فالمعرفة إذا كانت جُزئية لا تُصبح فلسفية وإنما هي معرفة متعينة بالزمان والمكان , أي أنها معرفة بواقعة صغيرة لا تصلح أن يُقام عليها استدلالات كثيرة , أيضاً هذا يُفسح المجال للعلماء المُتخصصين لكي يبحثوا في علومهم بحرية دون أن يتم التدخل فيها , فكما يقول زكي نجيب محمود , ليست مهمة الفيلسوف أن يُزاحم العلماء , بل أن يُمهّد لهم الدرب كي يستفيد منهم ويُفيد .
2- أن الفلسفة هي نشاط ذهني ناقد , ولا تعترف بالمُسلمات الجاهزة , ولا تعرف اليقين المُسبق بأية معلومة , وعليه فقد كان الشائع عند الفلاسفة هو الهدم قبل التأسيس , فكل معلومة يتم نقلها من الجيل السابق يتم التحقق منها عبر نقدها وإخضاعها للفحص الدقيق والمنطقي . وحينما نعي هذه القضية سرعان ما يزول الشك من رؤوسنا عن سبب نقد سقراط لسابقيه , وسبب نقد أرسطو لأستاذه أفلاطون , ونقد الغزالي لابن سينا , ونقد ابن رشد للغزالي , ونقد بيكون لأرسطو , ونقد كانط لكل من سبقه , إلى آخر الانتقادات .
3- بناء على الشرطين أعلاه تصبح الفلسفة تفكيراً جذرياً وأكثر أشكال التفكير تطرفاً وتعمقاً , وكما يقول شوبنهور : لا يجب على الفيلسوف أن يكون مُعتدلاً في تحليله الفلسفي , لأنه من الواجب عليه أن يتطرف في الجذرية وأن يصل بالتحليل إلى آخر أفق ممكن من آفاق العقل , والذي لا يقوم بالتحليل لا يُمكن له أن يتفلسف , لأنه لكي يتم " تركيب " أي عنصرين فكريّين معاً , يجب اختبار سلامتهما الفكرية قبل الخروج بأية مُركّبات فكرية ونظريّة .
4- أن للفلسفة جانب شخصيّ وذاتيّ ملحوظ , وفي تاريخ الفلسفة نصادف شخصيات وأعلام كبرى , وهذا الأمر لا ينطبق على العلوم , فالعالم يمكن أن يتم نسيان اسمه ما أن يخرج اختراعه للعلن , أما الفيلسوف فقد يشيع اسمه دون أن تُعرف له كتب , ويوجد عشرات الفلاسفة لم تصلنا كتبهم بينما بقيت آراؤهم معروفة وشائعة وعلى رأسهم سقراط الأثيني الذي لم يُدوّن ورقة واحدة في حياته .
5- لأن الفلسفة شمولية , ولأنها تسعى لمعرفة المقولات الكُلية للوجود , تصبح خالدة بذلك . لأن الكتاب الفلسفي إذا ما تمّ تأليفه في العصر اليوناني أو الهيليني أو الإسلامي , يبقى كتاباً ذا قيمة هائلة , وربما كان العكس صحيحاً , فكلما مضى وقت أطول على عمر الكتاب زادت قيمته , وهذا الأمر ينطبق على الكتب الأدبية أيضاً , لكنه لا ينطبق على الكتب العلمية , فلا أحد يقرأ كتب أرسطو وابن رشد العلمية إلا من باب " التأريخ " للعلم , بينما تعتبر كتبهم الفلسفية من أمهات المراجع المقروءة في كل عصر ومصر , لأنها كتب عمومية وشمولية وليست ككتبهم العلمية التي تغيرت تفاصيلها بمجرد انقضاء زمانها .
6- أن الفلسفة علم يتحقق بالعبقريات الفردية , ولا تتحقق بالجهود الجماعية . فلو اجتمعت حكومات العالم بأسرها لأجل أن تخلق فيلسوفاً واحداً لما استطاعت ! وإنما تكون ولادة الفيلسوف منوطة بعبقريته الفردية وقدرته على تحليل وجوده العيني وصولاً إلى الوُجود المجرد حادساً لماهيّاته الأساسية وكاشفاً لبُنيته المُتوارية والمحركة للأحداث . هذا يعني , أن الفلسفة قضية فردية صرفة , وهذا يفسر وجود الفلسفة حتى في أحلك العصور انحطاطاً ( القرون الوسطى ) إذ وُلدت عبقريات فلسفية لا تضاهى آنذاك , من شيمة القديس أوغسطين والقديس توما والقديس أنسلم في الفكر المسيحي .
هذه هي النقاط التي حاولت حشدها في هذه العجالة , وآثرت أن أُفسح المجال للمزيد من المُشاركات والاقتراحات لإيجاد المزيد من الملاحظات حول تعريف الفلسفة , ولا يظنّن أحدكم أن هذا التعريف سهل المنال , وإنما هو تعريف صعب ومحفوف بالمواعر والمزالق , فلا أسهل من إلقاء الكلام على عواهنه , ولا أصعب من التفكير فيه وتقصّي مباحثه ودقائقه !
صارغون...