المصالح المُرسَلة: رائدها في الشريعة الإمام مالك.
جاءت الشريعة لتحقيق خمسة أنواع من المصالح وهي على هذا الترتيب: الدين، الحياة، العقل، النسل أو العرض والمال. كل الأئمة الأربعة أخذوا بها.
المصالح المرسلة هي أن يرى العالِم الفقيه أمامه مصلحة حديثة العهد طارئة، لم تكن موجودة من قبل تقتضي حكماً شرعياً ولكن هذا الفقيه لا يجد عليه (أي على الحكم الشرعي) دليلاً من القرآن أو السُنَّة ولا يجد دليلاً على حكم يشبهه للقياس لا سلباً ولا إيجاباً، فما العمل؟ يقول مالك: أنا أعود بهذه المسألة في الحكم إلى جنس هذه المصلحة التي يحققها الحكم، ننظر هل هي واحدة من هذه المصالح الخمس التي جاءت الشريعة بحمايتها ورعايتها؟ فإن كانت واحدة من هذه المصالح وكان الأخذ بها لا يُفَوِّت مصلحة أهمّ منها يقول مالك أنا أجتهد على وفق هذه المصلحة. و هذا باب عظيم في الاجتهاد و سنورد في ما يلي بعض الأمثلة والنماذج لتوضيح الصورة:
1- منع عمر بن عبد العزيز الناس أن يشتروا أراضٍ في مِنى وأن يبنوا عليها بيوتاً لهم لأن ذلك سيضيق على الحجّاج مع أنه لا يوجد نص في ذلك و لكن من باب المصالح المرسلة أصدر عمر بن عبد العزيز أمره هذا (وهو ما يسميه الحنفية مقاصد الشريعة).
2- قال الإمام مالك لو أنَّ صبياناً يلعبون ويتشاجرون و يمزِّق أحدهم ثوب الآخر أو يتلف متاعاً (يكسر زجاج منزل أو سيارة مثلاً) فالوالد (أي أبو الولد الذي سبب الضرر) يضمن (أي يدفع تعويضاً عن الضرر الحاصل) وإن لم يكن الولد بالغاً. و لكن هنا الشهود كلهم أولاد والقاعدة أنَّ الشهادة لا تصحُّ إلا من بالغ كبير. ماذا نفعل إذا تركنا القضية هكذا؟ طبعاً ستقع مفاسد كثيرة. المصلحة المرسلة هنا التي تتوخاها الشريعة هي أن نقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في أمور إجرائية من هذا القبيل.
3- تدوين قواعد اللغة العربية و المجامع الفقهية والمؤتمرات كلها أشياء حسنة تخدم مصلحة الدين ...
سابعاً: العُرف: إنَّ العرف في الشرع له اعتبار فيما لم يرد فيه نص أو كان الأمر غامضاً، و الأئمة كلهم متفقون على ذلك. يقسم مالك العرف إلى قسمين: عرف قولي عرف فعلي أو سلوكي (فقط في العقود).
مثال على العرف القولي: كلمة اللحم، فلو أنَّ رجلاً أقسم أن لا يأكل لحماً، ننظر ماذا تعني كلمة اللحم في عرفهم أحياناً تُطلَق ويُقصَد بها لحم الضأن (الخروف) و في بعض الأعراف تُطلق ويُقصَد بها لحم البقر و في بعض الأعراف يُقصد بها لحم السمك. فإذاً يقع القسم على ما هو معروف عندهم إلا إن قصد كل اللحم ساعتئذ تكون النية مقدَّمة على دلالة العرف.
مثال آخر على العرف القولي: لو نذر فلان أن يتصدَّق بكل ما في جيبه من دراهم وكانت الدراهم في عرفهم تُطلَق على عملة البلاد فلا يجب عليه أن ينفق من العملات الأخرى إن وُجِدَت في جيبه إلا إن نوى غير ذلك.
أما العرف السلوكي فهو مثلاً أن يعقد فلان على فلانة دون أن يتفقا على موعد لدفع المهر و كان العرف أن يُدفَع قبل الدخول ساعتئذ يكون هذا هو الحكم.
ولو اشترى أحدهم سيارة مثلاً و لم يشترط أن تكون مكيَّفة و البائع لم يشترط ذلك فاختلف المشتري والبائع، ننظر إن كان العرف أن تكون غير مكيفة كما في بلادنا فالحق مع البائع أما إن كان العرف أن تكون مكيفة كما في بلاد الخليج فيكون الحق مع المشتري.
قاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
يقول الإمام مالك إن النصوص القرآنية و نصوص السنَّة إنما تُفَسَّر على ضوء العرف القولي في عصر النبي صلى الله عليه و سلم، و هكذا فالعرف القولي مفتاحٌ هام وخطير جداً لِفَهم النصوص. و نضرب على ذلك مثلاً ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن زكاة الفطر هي صاع من غالب قوت البلد. كلمة صاع عبارة عن مكيال معيَّن هذا المكيال يتغير من بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر، فالصّاع في العراق كان غير الصاع في مصر غير الصاع في المدينة ... فإذاً نحن نفسر ذلك بما كان معروفاً عندما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الحديث في المدينة.
مثال آخر كلمة النبيذ كانت تعني أو يُقصَدُ منها شراب مُكَوَّن من الماء والتمر ولا يُقصد بها النبيذ المسكر المعروف في عصرنا وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ وهذا كان سبب الإشكال الذي وقع فيه الكثير من المستشرقين عندما قرأوا كتب التاريخ فوجدوا أن هارون الرشيد كان يشرب النبيذ و ظنوه من السكارى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوِّرون "، وفي حديث آخر " كُلِّفَ أن ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ "، هنا نفسر المصوِّر حسب العرف الدارج في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا لا يشمل الحديث الصور الفوتوغرافية والمرايا و انعكاس الضوء فيكون حُكم هذه الأشياء الجواز علماً أن الإنسان له أن يبتعد عن هذه الأمور من باب الورع و لكن هذا لا ينفي جوازها وعدم حرمتها فالورع أمر والجائز أمر آخر. وبالطبع فالشيء المصوَّر له حكم آخر إن كان صوراً لفتيات عاريات لا خلاف في أنه حرام قطعاً.
أما الدليل الشرعي للأخذ بالعرف أن الله تعالى أمرنا بكثير من الآيات أن نحتكم إلى العرف بقوله تعالى: " وأمُر بالعرف و اعرض عن الجاهلين "، أي اجعل العرف أساساً.
قالت هند زوجة أبي سفيان يوم فتح مكة وكانت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تسرق ولا تزني، قالت له: لقد كنت آخذ من مال أبي سفيان الهنة تلو الهنة (أي الشيء القليل دون علمه)، ماذا أصنع؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المستقبل: " خذي ما يكفيك وأولادك بالمعروف".
مثال آخر: قال الله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين "، قال الإمام مالك إن كانت المرأة من الأغنياء أو كانت شريفة (العادة عندهم أن النساء الأغنياء لا يرضعن) ساعتئذ لا يجب عليها الإرضاع و لكن هو حق لها، أما إن كانت غير ذلك فهو واجب عليها، لأن ذلك لم يأتِ بصيغة الأمر الجازم كقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233].
قاعدة: إن النص يُهَمِنُ على العُرف ولا يهيمن العرف على النص.
ونأخذ بالعرف فقط في الأمور التي علَّقها النص على العرف، أما ما ورد فيه نص فلا يغيِّره العرف حتى لو ترك أهل بلد ما جميعاً العمل بحكم شرعي، يبقى الحكم الشرعي كما هو. فلا نقول إنَّ العرف السائد اليوم هو عدم ارتداء الحجاب مثلاً خلافاً للعرف قديماً وأن الزمن قد تغير، فلو كان الأمر هكذا ما كان للشريعة الإسلامية معنى إذا كنا دائماً نحتكم إلى العرف فقط دون النص