كان علماء الصحابة إذا سُئلوا في مسألة ما، نظروا في كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا نظروا في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، فإن لم يجدوا نصاً لا من الكتاب و لا من السنة، سألوا باقي الصحابة هل قضى أحد قبلنا في هذا الأمر بقضاء؟ فإن سمعوا أنَّ أحداً قضى بقضاء و نفذ و وجدوا أنَّ الأمر قريب قضوا. و لقد كان الصحابة يتحفظون تحفظاً شديداً في الاجتهاد، فكان الواحد منهم إذا اضطر إلى الاجتهاد في حال عدم وجود نص، جمع مجلس الشورى و طرح القضية التي هو بصددها و استشار الصحابة العلماء و تجاذب معهم أطراف البحث والنقاش ولم ينفرد في إعطاء حكم، فإن انتهى إلى شيء - سواء كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو أي ممن جاء بعدهم - كان يقول: " هذا رأيي فإن كان صواباً فمن الله تعالى و إن كان خطأً فمني و أستغفر الله تعالى ".
ورد أنَّ رجلاً ممن أرسلهم سيدنا عمر والياً على جهة من الجهات قال للناس: هذا ما قضى به الله و قضى به عمر، فسمع عمر ذلك و أرسل إليه يقول: " بئس ما قلتَ، بل هذا ما قضاه عمر، لا تجعلوا الرأي سنّة الله في الناس فتحمِّلوها خطأ الناس ".
و كان الصحابة يقولون إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم المُؤيَّد بالوحي ، قال الله تعالى له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فما بالك بمن جاء بعده ! فإذا استشاروا و أجمعوا على رأي واحد، فذاك هو الإجماع، أما إذا اختلفوا فكل يقضي بما يرى. و من مظاهر الشورى أنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه لمّا جهّز جيش أسامة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم - و كان هذا أول ما قام به أبو بكر - قال لأسامة و قد رأى أنَّ عمراً رضي الله عنه قد انخرط بين أفراد الجيش: " إن رأيتَ أن تعطيني عمر و تبقيه عندي فعلتُ ". انظروا كيف يقول خليفة المسلمين، -ذاك الشيخ الكبير لأسامة الذي لم يبلغ من العمر التاسعة عشر بعد، هذا الكلام بأدب متناهي! لماذا ؟ لأنَّ أبا بكر كان يرى أنه قد تعرض له الفتوى و المشكلات و هو بحاجة إلى أمثال سيدنا عمر رضي الله عنه ليستشيره و ليأخذ رأيه. و طبعاً أجابه أسامة لذلك و بقي عمر عند أبي بكر الذي لا يتأخر في استشارة من حوله من الصحابة كعثمان و عليّ و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين. و ما أكثر ما كان يقول عمر: " لولا علي لهلك عمر ". و كذلك علي كان إذا عُرِضَ عليه رأي لم يبُتّ بهذا الرأي حتى يستشير كبار الصحابة و في مقدمة هؤلاء أبو بكر و عمر.
فلنلاحظ صورة الأخوَّة الواقعية في حياة الصحابة و آل البيت و محبتهم لبعضهم البعض، لا شك أنَّ جيلاً ربّاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بد أن يكون هذا حاله. مستحيل أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام أعظم مُرَبّي أوجده الله تعالى لينجد به الإنسانية ثم يخفق في تربية أصحابه. فإن تصوّرنا أنه بعد وفاته صلى الله عليه و سلم كان أصحابه أعداء لآل البيت و العكس لكان ذلك علامة على أنه أخفق في تربية هذا الجيل و هذا يُعَدّ عيباً شديداً في رسول الله صلى الله عليه و سلم -وحاشاه من ذلك- الذي لم يستطع أن يربي جيلاً واحداً فهو أعجز من أن يربّي أمّة !!! و الرسول صلوات الله و سلامه عليه منزّه عن مثل هذا.
سُئِلَ عليّ لماذا كثُرَت الفتن في عصره و لم تكثر في عصر أبي بكر و عمر فقال رضي الله عنه: " لمّا كانوا هم الخلفاء كنتُ أنا الرعية فأطعنا و لمّا صرتُ أنا الخليفة كنتم أنتم الرعية فعصيتم ".
إذاً كان الصحابة يتواصون بالتدقيق في مسألة الاجتهاد بعد الشروط التي ذكرناها كلها، كما كانوا يتواصون فيما بينهم بالتريّث و الفهم الشديد وعدم العجلة في الإفتاء، فها هو عمر لمّا أرسل كتابه لأبي موسى قال له بعد أن أمره أن يتتبع نصوص القرآن و السنّة فإن لم يجد، قال له: " الفهم، الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله و سنّة رسول الله صلى الله عليه و سلم "، أي لا تستعجل، تريَّث وفكِّر وتأمَّل.
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه هو أول من فصل سلطة القضاء عن رئاسة الدولة، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر كان كل منهما رئيس الدولة و القاضي في آن واحد . وفي عصر عمر، عندما اتسعت الفتوحات ولم يعد يجد الوقت كافياً لأن يجلس مجلس القضاء و مجلس إدارة أمور المسلمين، عندئذ فصل سلطة القضاء عن سلطة رئاسة الدولة وعيَّن أول قاضٍ أثناء خلافته و هو جريج رضي الله عنه.
وكان الصحابة لا يجيبون على سؤال فرض لم يقع بعد، فإذا سألهم سائل عن مسألة ما، كان أحدهم يجيب: " هل وقعت هذه المشكلة التي تسأل عنها "؟ فإن قال لا ما وقعت بعد ولكننا نحب أن نعلم إن وقعت هذه المشكلة ماذا نصنع ! كان الصحابي يجيب: " إذا وقعت فاسألوا عنها أمَّا الآن فقد كفانا الله مهمة البحث في أمر لم يقع ". فهم لا يريدون توسيع نطاق الإجتهاد إلى أكثر من الحد الضروري، وهذه سياسة كانت متَّبَعة من قِبَل جميع علماء ذاك العصر.
ســؤال: هل وقع الخلاف في الاجتهاد في أحكام الشريعة الإسلامية ومتى و قع و لماذا ؟
الجواب: أمَّا في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالخلاف لم يقع ولا سبيل أصلاً للخلاف ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حي يُمكِن الرجوع إليه في أي أمر.
وبعد وفاته عليه الصلاة و السلام، بدأ الخلاف الاجتهادي يظهر في بعض المسائل الفرعية التي لا تتعارض مع أصول الدين للأسباب التالية:
1- تفاوت الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌ حسب وضعه ومقدار تفرغه وملازمته له . ونتيجة لذلك كان إذا وقعت مشكلة، تسائل الصحابة عن حكمها، والذي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيئاً ، يفتي بظاهر القرآن. أما الذي حفظ وروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدراً أكبراً فهو يذكر أنَّ هذا الموضوع قد أوضح النبي عليه الصلاة و السلام حكمه، فهو يختلف في فتواه عن الأول الذي لم يسمع و القاعدة تقول: من حفظ حجة على من لم يحفظ. من هنا كان لا بد أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت إذا عرضت على أبي بكر أو عمر حادثة جديدة ولم يُسمَع من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها شيئاً، جمع الصحابة وقال: " أنشدكم الله رجلاً سمع من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوى في هذه القضية ". وكان من عادة عمر رضي الله عنه إذا سُئِلَ في موضوع أن يبحث عنه في كتاب الله ثم السنّة فإن لم يكن قد سمع في المسألة شيئاً نادى في الناس: " من سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة شيئاً " ؟ فإن لم يجبه أحد قال: " هل قضى أبو بكر في هذا الموضوع من قبلي شيئاً "؟ فإن قال له قائل إنَّ أبا بكر قد سُئِلَ وقضى في هذا الأمر بكذا، قضى عمر بمثل ما قضى به أبو بكر رضي الله عنهما وإلا اجتهد عمر.
مثال: دية الأصابع، رجل قُطِعَت إصبعه، الخنصر أو البنصر أو السبابة أو الوسطى، ما هو القدر الذي ينبغي أن يؤخذ من الجاني كدية لهذا الإنسان؟ فكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الموضوع وهو لا يذكر في هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجتهد في الأمر، وأراد أن يجعل دية كل إصبع على حسب فائدة تلك الإصبع، ولكنه تريَّث و أخذ يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فجاء من أخبره أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قضى بأنَّ في كل إصبع عشراً من الإبل متساوية يعني في قطع الأصابع العشرة دية كاملة. فرجع عمر رضي الله عنه وقال: " إن كدنا لنقضي في هذا برأينا ".
مثال آخر دية الجنين: سُئِلَ سيدنا عمر رضي الله عنه عن دية الجنين، اعتدى إنسان على امرأة حامل فأسقطت جنيناً، ما الجزاء؟ وقف عمر يناشد المسلمين أن يكون فيهم رجلاً سمع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراً في الدية. معلوم في القرآن أنَّ عقاب من اعتدى على إنسان و مات، هو القصاص فإن عفى وليَّه تصبح عقوبته دفع الدية، هذا هو الحكم العام و الجنين يُعتبَر إنساناً و مات، وعلى هذا يأخذ الجاني الحكم نفسه، إما القصاص و إما الدية.
و لكن عمر تريَّث، لعل في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً خاصاً. فقام أحد الصحابة وقال إنَّ جمل ابن مالك جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كانت له زوجتان فتخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى فألقت جنيناً ميتاً، فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم للجنين بغُرَّة يعني بنصف عشر الدية (خمسة من الإبل) فتهلل وجه عمر باسماً وقال: " إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا ".
2- عدم الاتفاق على صحة نسبة حديث ما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم.
3- عدم الاتفاق على معنى كلمة أو جملة في كتاب الله تعالى أو حديث المصطفى عليه الصلاة و السلام و ذلك بسبب ورود لفظ يحتمل معنيين.
4- اختلاف الفتوى بسبب الرأي: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب أو سنّة وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس وكانوا يعبِّرون عنه بالرأي.
5- قياس الفرع على الأصل: البعض يرى إنَّ هذا الفرع يشبه ما نص الله تعالى عليه في آية كذا.
نعرض لطائفة من أمثلة الخلاف بين الصحابة في بعض الفتاوي:
- عُرضت مشكلة على ابن مسعود رضي الله عنه: رجل عقد نكاحه على امرأة و لم ينص في هذا العقد على مهر و مات قبل الدخول بها، فما الذي تستحقه هذه المرأة ؟ أفتى ابن مسعود بأنَّ لها كامل مهرها أي صداق مثلها من النساء. بينما سيدنا علي كرَّم الله وجهه عندما سمع بهذه القضية قال: " أنا أختلف معه في هذه المسألة، هذه المرأة إذا مات زوجها ليس لها إلا الميراث، تأخذه و ليس لها ما وراء ذلك شيء وعليها العدة و لا صداق لها ". سبب هذا الخلاف أنَّ هذه المسألة ليس فيها نص واضح صريح من كتاب الله تعالى، كل ما في الأمر قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
يقول سيدنا علي: " أرأيت لو أنَّ زوجها لم يمت و لكن طلق ، ليس لها شيء بنص كلام الله عز و جل ". فسيدنا علي قاس وفاة الزوج على طلاقه لها. قال ابن مسعود: " الرجل الذي يطلق يطلق بقصد الاختيار و يترتب على ذلك أشياء كثيرة، لكن مات الزوج و حبل الزوجية موجود، ولا يسبب الموت انقطاع الزوجية عند جمهور العلماء، فالموت لا يُقاس على الطلاق لأن الطلاق عمل اختياري والموت أمر قصري ".
مسألة أخرى: المرأة التي توفي عنها زوجها و هي حامل، ما عدتها ؟
سيدنا عمر رضي الله عنه قال : عدتها وضع حملها. و قال سيدنا علي و ابن عباس : عدتها بأبعد الأجلين، أي أيهما كان أبعد وضع حملها أم مضي أربعة أشهر و عشراً تأخذ به . قال جمهور الفقهاء انَّ عدة المرأة تنتهي بوضع حملها و القول بأبعد الأجلين مرجوح ، و دليل ذلك ما أخرجه البخاري و مسلم عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة و هو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع و هي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاة زوجها ، فلما طهرت من دم النفاس تجمَّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: " ما لي أراكِ متجمِّلة ، لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنتِ بناكح حتى يمر عليكِ أربعة أشهر و عشرا " ! قالت سبيعة: " فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي و أمرني بالتزوج إن بدا لي ". و قد رُوِيَ أنَّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة لما احتُجَّ به عليه