بتـــــاريخ : 10/17/2008 9:26:06 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1645 0


    الجراد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جـبـير المليـحان | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الجراد

    دب على الأرض في هذا الزمان ، في قرية منسية طفل . قال :اسمي سين ، جسمي صغير ، و رأسي كبير ـ ...... كنا ندعوه بالحكيم ، ذي الرأس الكبير ، الرائي ، و رجل آخر ناداه بالشيطان ــ ......

    نعم أنا سين كنت أقول للأطفال أن الخطر يأتينا من فوق ، قالوا لآبائهم ذلك فلم يصدقوني و غضبوا .. الصغار يحسون بخوفي فيخافون .. كنت أخاف من السحب ــ ......

    ننظر إلى سين و جسده يرتعد عندما تسود السماء بالغيوم وترعد ، و يبدأ لمعان البروق .. يهرب سين إلى الرابية المرتفعة و هناك يبدأ بالعويل و تحذير الناس ــ ......

    نعم ، لا أحب السيول ، لا أحب الجراد .. فهي تأتي و تفسد كل شيء ، دون أية مسؤولية ــ ....

    كنا ، نحن ( أطفال القرية ) نلعب في ملعبنا ؛ تختفي الشمس .. تقترب الغيوم .. ينتفض سين ، و يهم بالهرب إلى الرابية .. يقبض عليه رجل من رقبته الدقيقة .. نضحك ورأسه الضخم يتأرجح في يد الرجل كبطيخة .. ننتظر أن يتدحرج و يسقط بين قدمي الرجل .. الرجل يقول :

    * أنت تقول ـ يا شيطان ـ ( يكشر الرجل ، و ينتفض سين كدجاجة ) أن الخطر يأتينا من فوق .

    يرفع الرجل إصبعه إلى السماء فنرفع كلنا أبصارنا ..يهز سين رأسه المتدحرج ويقول :

    * نعم .. من فوق ..

    يرفع الرجل يده هاما بلطمه على فمه .. لكن سيناً يشير إلى الجبال العالية التي تخفي الشمس بعد صلاة العصر ، ويقول :

    * ألا تأتي الغيوم من فوق هذه الجبال ؟!! ألا تدمر سيولها مزارعكم و تهدم بيوتكم ؟!! .. ألا يأتي الجراد طائرا في السماء ويحط على أشجاركم و يأكلها ؟!!

    تتسع عينا الرجل ، و تتراخى يداه ، فيتملص منه سين و يفر إلى رابيته .. الرجل يبصق في الأرض ، و يطوي يديه الخاويتين و يقول :

    * أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. إنه شيطان .. الشيطان ..

    تلك الليلة استمر عويل سين على الرابية وقتا طويلا .. هدأ بعد تبدد السيول في الشعاب البعيدة ..لكنه في ليلة أخرى كان هو الوحيد الذي يعوي مفجوعا.. أما الآخرون فكانوا سعداء :

    كنا نلعب في الشمس التي أخذت تدلهم بالقاني لتمتص فرح القرية و تخفيه .. أظلمت الدنيا فجأة .. نظر سين إلى السماء و ارتجف ، ثم زعق :

    * الجراد.. الجراد .. جاء الجراد ..

    و فرّ راكضا يصيح بالناس ، لكن صوته الضعيف اختفى وسط الصهيل الفرح لصوت الرجل الذي كان يمسك برقبته .. الرجل يصهل عاليا ، مبشرا أهل القرية بالجراد ، الجراد يخيم ـ بهدوء ـ على غصون الأشجار كالعناقيد .. الناس يخرجون جذلين ويملؤون ، طوال الليل ، أكياس الخيش به. سين يعول صائحا : الجراد كثير ، و سيلتهم كل شيء في الغد .. صوته يتبدد .. و في الصباح :يترك الناس مزارعهم ، وينصبون القدور الكبيرة ، و يوقدون النيران .. المياه تغلي في القدور . و أكوام الجراد الأعمى تندلق من أفواه الأكياس متخبطة بالماء طلبا للفرار .. عناقيد الجراد المتبقية في الأشجار تقضم الأوراق و الثمار و الغصون و تطير منتقلة من مزرعة إلى أخرى و أخرى .. والرجال و النساء يمزقون الأكياس و يكبون الجراد في القدور .. والأطفال يركضون فرحين في كل مكان ، يدورون حول القدور ، و الكبار يمصمصون شفاههم بانتظار الوليمة..

    نزل سين وجلا ، من رابيته صباحا ، و وقف بجانب قدر كبير .. وشاهد أن ما يكبونه لم يكن جرادا ــ كان أشبه بعقارب صغيرة صفراء ، عقارب بأذناب معقوفة و لها إبر سامة .. الناس مستمرون يوقدون نيرانهم الصغيرة ، و يغلون مياههم في تلك القدور، و هم يكبون العقارب،و يمصمصون شفاههم ؛ و أنا واقف أشاهد أسراب العقارب تنسل من القدور ، مارقة بخفة وسط البخار المتصاعد إلى الجو وهي تطير .. أشاهد أسراب العقارب و هي ترتفع بالجو ، و تتضخم إلى ما يشبه الأفاعي الكبيرة .. أفاع كبيرة .. كبيرة ..أسراب من الأفاعي .. أسراب ،أسراب ...أشاهد أن لها أجنحة ، و مراوح، و أزيز ... طائرات ...

     

    * * *

    سين يدب على الأرض في هذا الزمان ، في المدينة على هيئة رجل ، جسمه صغير .. مرّ بي ، و كنت أقف أمام باب البيت ، بدأت الشمس تدلهم بالقاني لتمتص فرح اللون .. أظلمت الدنيا فجأة .انتفض الرجل سين و تلفت ، لم يكن هناك رابية . بدأ يصرخ ، و يشير إلى السماء بيديه :

    رفعت بصري : كانت أسراب الأفاعي اللامعة تشقها ، و تحوم فوق المدينة ....

    الأفاعي الكبيرة الطائرة ..

    كانت تسقط فوق رؤوسنا عناقيد كثيرة من جراد أشبه بعقارب صفراء لامعة ..

    تتشظى العناقيد و تثقب الدور والقدور والصدور والجسور و الأرض ....

    الناس يتبعثرون و الأشجار و الهواء و الأغاني تتمزق كالآهات ....

    و أنا أقف في باب منزلي في شارع في المدينة ، وشعري الأبيض يتطاير مني ، و أعضاء جسدي تتساقط .. و أنا أطلق فجيعتي خلف الرجل الصارخ الراكض ململما أحشاءه المتناثرة ، و يداه تعلوان بصراخ حاد كالدم للآخرين :

    * الجراد ...الجراد .. العقارب .. الأفاعي .. القنابل.. الصواريخ ..الطائرات .. الحرب .... الحرب ... الحرب ..

     

    و أنا أتابعه ، وهو يجري وسط الشارع ، مع حركة السير المنسابة بهدوء كالطمأنينة .. و من بعيد يلوح صدى صراخه كغمامة حزن .. و خلفه ينفجر في الهواء سؤال صغير : إلى أين يركض و السماء فوق كل الأمكنة ؟!!

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الجراد

    تعليقات الزوار ()