فجعني وجه عبد الله ، الحزين كأرض :
- ما بك ؟
- مررت بجانب البحر و لم أره !!
دقت كلماته في حلقي الحنظل ، فقلت له بمواساة :
- ألا تعرف البحر؟!
ظل سؤالي معلقاً فوق وجهه كصمت الأيام الخوالي ، و لم يكن لي غير أن أداري عينيه ليفرّ السؤال من وجهه . كبر صمته كصخب البحر الهائج بجوارنا .. وغطتني غيمة قلق شاسعة ، ركضت فيها ، و صمته يتشعب من حولي ، عدت إلى حيث يجثم ماداً عينيه إلى حقيقة بعيدة..نطقت لسؤالي الناشب فيه :
- إذ تقفر الشواطئ من أقدام الأطفال يا عبد الله ، يسحب البحر أحزانه كل مساء ، و يدلف كعجوز ، بعيداً عن ضجيج المدينة ، وأضوائها ، حيث أحضان الظلمة الفسيحة . هناك سرير أحلامه ، و غار هدوئه : ينام و يفيق ، و يعد في أوقاته الخاصة أغانيه ، و هداياه التي سيحملها للصيادين : يصنعها من صبره على هيئة أمواج متقافزة داساً وسطها اللآلئ ، و المحار ، وعطور الأعماق !
لا يدري : ـ و هو الحيوان الضخم الواسع المسكين ـ أنه قد كشف أحشاءه ، وترك بطون الأصداف مفتوحة فاضحة عري المحار، و السمك الصغير ، و الطحالب ، و الكائنات الدقيقة ! .. كلها : تفغر ... في عيون الليل خائفة !
فرّ ـ الآن ـ السؤال المتعلق في وجه صديقي عبد الله كطائر ، صوب أسهمه إلى اصطفاق الموج .. و غاب كبروق الليل الطارئة … أفاق عبد الله ، و أخذ يمشي نحوي بعينيه : بمساحات حديث لا نهاية لها ، زرعت له هذا القول :
- في ذلك الوقت ـ يا عبد الله ـ يأتي الرجال الذين لا يرون من الأرض غير أتربة الذهب .. يحملون أدوات الحفر ، وأمتار القياس ، و خرائط البنايات ، و رزم المنفذين .. و ينقضون على أحشاء البحر ، يفرونها .. تتعالى صرخات المحار والسمك الصغير و الطحالب و الكائنات الدقيقة .. تبتعد النجوم التي كانت تخفق لها في السماء .. والرجال الليليون ، المدلهمون بالبيع يهيلون الرمل ، والإسمنت .. يدفنونها بأصواتها في الأرض .. تغور بعيداً ..بعيداً ، وهي تعول تحت طين البنايات وقاماتها العملاقة ، تدور ، مثل الفجيعة ، و هي لا تعرف كيف ترجع إلى بحرها !