والجروف النائيات. كنّ يدعوننا منذ ذلك الوقت أولاد شلتاغه. ولا شيء غير ذلك. وكانت الام شلتاغه توصي بنا في كلّ يوم أن لا نقترب من الشرائع والغرباء والبلامه والصيادين وسورات الهور.
لكننا عندما كبرنا خالفنا تعاليم شلتاغه. وتعرّفنا على الناس سرّا. كانت لهجتنا صعبة في البداية، لكننا تعلّمنا كلّ شيء بسرعة. كما ولدنا من جوف الهور. بسرعة. بسرعة. فركضنا كأبناء آوى ونحن نتصايح ووو ووو ووووو!عرفت شلتاغه أننا قد خدعناها بعد أن سمعت منا كلمات لم تعلّمنا إياها. وقفت بعمودها الفقري العنيد وهزّت راسها بأيماءة غريبة لم نفهمها. لكنها لم تغضب وقالت: إنها سنّة الحياة ومن يستطيع تغييرها؟ حتى اولئك الذين يسكنون في العلى فشلوا في إيقاف ذلك. ولم نعرف قط ماذا تعني تلك السنّة إلى يومنا هذا. كما أننا لم نسألها.
كم كان عددنا وقت تعلمنا كلمات (الغربه) ؟ يصعب علينا أن نحدد ذلك، وحتى الأم شلتاغه تخطأ في الحساب؛ هي تبكي عند كلّ حادثة، وتنوح بعد كلّ موقف لغياب أحدنا. كنا نرتب السنيين حسب الغياب الذي يظهر بيينا. هذا عام أسعيد( مات أسعيد الاسود في حادث غرق) وقبل ذلك سنة الولدين الذين كانت رؤويهما ملتصقة وماتا عند اول رؤية للقمر. أجل. الغياب هو كلّ ما يخيفنا، ويخيف الام شلتاغه أيضا. ولم نكن نعرف بان شلتاغه تخاف الغياب أيضا إلا في وقت متأخر. بيد أن من بقي منا هم ثلاثة فقط: أنا، ووبريه، وجنجون الصغير. يمكننا أن نذكر الآن كريم الذي افترسه الذئب. وناجي الذي غرق في سورة ماء. وفطيم التي اختفت عنا دون أن نعرف السبب. ليلتئذ بحثنا عنها في كلّ أنحاء الهور بلا جدوى. لم يتبق من كلّ تلك الاعداد إلا نحن الثلاثة.
لا شيء دائما غير أصوات القطا المتقافزة. ونحن نتقافز وجلين، و شلتاغه ترقبنا بعين حانية. هطل المطر على الهور كلّه فاهتزت الأرض و أينعت باخضرار جديد لشتاء آخر. مطر مطر حلبي، عبّر بنات الجلبي.. كانت الأصوات تردد من بعيد.. ورأينا لأول مرة ثلاث بنات نظيفات يلبسن أثوابا هفهافة ويعقصن شعورهن بأشياء براقة لم نر مثلها أبدا. ربما هبطن من السماء أيضا؛ لكن شلتاغه قالت إنهن أرضيات.. وفي عربة بأربعة خيول تسير بتؤدة، وحوذي يضع على رأسه شيئا اسود دائريا غريبا لم نر مثله من قبل .. شارباه أبيضان كثان كبيران. كنّ يرمقننا من خلال الشبّاك المذهّب ويلوحن لنا بأيديهن المزدانة بالأساور.
قالت وبرية: ما هذا؟!
وقال جنجون: ربما هو من السماء.
ـ هل هم مثلنا؟ لنسأل الأم شلتاغه فورا.
وحالما اختفت العربة ركضنا وسألنا الأم شلتاغه عما رأينا من عجب وسط الاخضرار اللامتناهي، قالت:
ـ لا تقتربوا من تلك العربة أبدا.
ـ وما هذا الشيء الذي يضعه السائق على رأسه يا أم؟
ـ (شفقه)
- 2 -
.
ـ وما الشفقه ؟
ـ حتى أنا لا أعرف..
ولم نسأل عن السبب في أوامر ابتعادنا فقد تعلمنا أن نطيع شلتاغه في كلّ شيء.
كان آخر مرة رأيناها، نحن الثلاثة، قبل هطول المطر الكبير، والفيضان العجيب. لم تخبرنا أين ذهبت؟ ولم كان ذلك الغياب المفاجئ؟ ربما اختفت عنا بعد أن ماتت العنزة. لكننا لم نعد نشرب الحليب بعد أن تعلّمنا صيد السمك. كانت وبريه هي الوحيدة التي شاهدتها تعود إلى السماء وقد انتفخ ثوبها الأسود مثل (بقجة)
- 3 -
كبيرة وهي ترتفع وترتفع، ووبريه تصرخ:عودي عودي. وأنا اصرخ: شلتاغه شلتاغه شلتاغه!. لم نصدق وبريه لأنها طالما ترى أشياء كبيرة وعجيبة. لكنه الخبر الوحيد الذي بقي لدينا من ذلك الزمن. وبكينا خوفا من (العالم) الآتي لأول مرة. ولم نكن قد جربنا الدموع من قبل.
-2-
هتف الشيخ البلام وسط أصحابه وهو ينفث دخان سيكارته:
ـ كم هو عدد أبناء شلتاغه الآن؟
ـ كانوا في البداية سبعة.
ـ بل ثمانية
ـ بل تسعة
ـ أنا عددتهم أثنا عشر ولدا وبنتا.
ـ لا لا. اكثر.
ـ ربما كانوا خمسة قبل أن تأخذ سورة الماء أحدهم.
ـ والذئب؟ هل نسيتم الذئب؟ كم طفلا نهشه؟
ـ من الصعب أن نعرف عددهم إلا من العجوز نفسها.
ـ حتى العجوز لا تعرف كم هم الآن.. صدقوني.
ـ لكن العجوز غابت هذه الايام, ولا أحد يعرف من اين جاءت, ومن اين جاءت بكلّ أولئك الصبيان والبنات؟
ـ ماتت؟
ـ ربما.
ـ هذه عجوز لا تسري عليها السنن.
ـ جنية؟
ـ اختفت تماما.
ـ عمي طارت. أنا رأيتها بكلتي عيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود: أرتفهت إلى السماء على سعفة نخل خضراء.
ـ شنووو؟
ـ طارت طارت!
ـ والأولاد؟
ـ في كوخهم.
ـ هل نذهب لإحضارهم؟
ـ لا لا لا!
ـ يا معود من يعرف ماذا سيحلّ بنا بعد ذلك.
ـ ما الذي سيحلّ بنا؟ ها؟
ـ ماذا نفعل إذا؟
ـ لندع كلّ شيء كما هو..
ـ كيف؟
ـ وما شأننا وأولاد شلتاغه الغرباء؟
ـ عووووفووووهم! .
صاح البلام. فسكت الجميع.
-3-
لحظة سرنا على اليابسة لم تتعثر خطواتنا. رمقنا السماء بنظرة ملؤها الحنين. أين أنت يا أم الآن؟ لم نكن ثلاثة فقد التحق بنا آخرون ليس لشلتاغه علاقة بهم..عربة بنات الجلبي تسير بالقرب من كوخ شلتاغه. نرى الملابس الجديدة وأحذية البنات المذهبة لأول مرة وهنّ يهبطن الواحدة تلو الاخرى. كانت الدشاديش بالنسبة لنا حلما بعيد المنال. لنشاهد الآن رومي الأسود السامق الذي التحق بنا مؤخرا: كان يسير أمامنا وهو يلهج بصوت يشبه النواح: يييآآآآآآآآ شششششششللللللللللللللللتاغغغغغغغغغغغغ! وكانت الام في السماء بالنسبة لنا جميعا رؤية حتى لأولئك الذين لم تحتضنهم يوما. البنات يلعبن بالقرب منا والحوذي يراقبهن باهتمام.وما ان حاول رومي ان يمسك بإحداهن حتى صرخ الحوذي وووووولللك! وغادر الجميع على عجل.
ازداد عددنا اكثر فاكثر، فأعلن أهل الهور: أن لا مكان لأولئك "النغول"
- 4 -
من سارقي الدجاج والبيض وصغار الخرفان أحيانا بين الناس. إنهم أخافوا بنات الجلبي أيضا.
وهكذا كانت الطلقات تأتي من كلّ صوب، والكوخ قد التهمته النيران، والصراخ ملأ المكان بالقرب من (شريعة الصابئة) حيث حدثت المذبحة.. وكانت الام شلتاغه ترقب كلّ شيء من عل..