بتـــــاريخ : 10/15/2008 9:07:02 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1907 0


    عمّالُ منازلٍ صغار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. رياض الأسدي | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة عمّالُ منازلٍ صغار

    رأيت نفسي آخر مرة في (سي دي) يباع في سوق الهرج. يتمايل فيه (الأستاذ) شخصيا، وهو يرتدي زيا عربيا. كانت تلك آخر مرة شاهدته فيها، وأنا أميل على صدره، هازّة كتفي البضّين العاريين، فيميل( الأستاذ) نحوي مرة أو مرتين؛ تلك كانت نعمة حسدتني عليها صويحباتي دائما. لكنهن لم يحسدنني على هذا الذي يشبه الدم القديم على راحتي.

     

    ليلة صاخبة أخرى لحفلة غجر خاصة. كانت الأيام كلّها مصنوعة من طبول و رباب ودفوف وصنوج وهزّ حتى آخر الليل. تختلف هذه الأيام عن تلك التي كنت اعرف من قبل. لكنها أيام الله أيضا. فهو صاحب الأيام كلّها. آه من الصعب أن أتذكّر بعد كلّ ما كان، مهنة عمال المنازل الني كنا نزاولها. أحيانا تبدو في رأسي كومضة سريعة؛ كأنها محيت من ذاكرتي تماما؛ حتى بصقت على الأرض من غير ما قصد أمام (الأستاذ) وأنا سكرانة طوخ، فاستعدت كلّ ما كان بالتدريج.. يآآآآآآآآه أن تكون المرأة راقصة غجرية تحتاج على مدة من الزمن للتأمل في ما كان، على الأقل .هذه القضبان تترك أثرا واضحا على الراحتين. شكرا على أية حال.كان الخروج صعبا بعد عامين من السجن عارية، هنا.لم يعد الأمر مهما في إخفاء عوراتي .. أبدا. 

     

    أما كيف تسرّب ذلك (السي دي) إلى العالم؟ ولم تتسرّب حكايتي معه؟ تلك عادات البشر وعلينا أن نتقبّل الأمر بروح أولمبية – كما يقول الأستاذ- دائما. دائما. وهذا ما لم أستطع تفسيره حتى الوقت الحاضر. أن أشاهد نفسي بعد كلّ ذلك الروع الغريب: سنتان عارية من أجل بصقة واحدة غير متعمدة.. كان الجميع يحدّقون (بالأستاذ) وهو يضحك متمايلا، وأنا لم يذكرني أحد في السي دي: أنا عاملة المنازل (زنّوبة) الصغيرة. هل نسيتموني؟ لقد أصبح كلّ شيء واضحا منذ البداية. كلّ شيء.. إلا مضاجعة (الأستاذ) لي وهو عار ٍ..يووه حدث ذلك قبل الإصابة. كنت أرقب عجيزته المشعرة بنظرة خفية. فقد كان يكره النظر إلى عجيزته على أية حال. كما تؤكّد التعليمات. وكان الناس مهتمين ب(الأستاذ) فقط, ولا أحد يعرف من تكون هذه البنت المتمايلة طوال الوقت.

     

    من اهتم بي في السابق حتى يأتي من يهتم بي الآن؟ الدنيا كلّها لم تعد تهتم كثيرا، بعد أن هوى ذلك الشيء الكبير الأسود في ساحة الأندلس. والحناء لما تزل على راحتي منذ ذلك الوقت. وأنا مازلت أرقص في البيوت الخاصة. ألعب دور غجرية دائما وفي كلّ المراحل ،وما أنا بغجرية.أبدا .لكني تعلمت الرقص وحدي أمام المرآة بعد أن غادر الجميع..غابوا.. في وهدة من الزمن غريبة كصفير حادّ في الآذان. الحناء الأصيلة بلون الدم تذكّر بالصفير دائما. لم تغب عن راحتي أبدا. ثمة علاقة ما بين الحناء والصفير لما أدرك كنهها بعد. ربما أعرف ذلك في زمن لاحق. ثمة أشياء سوف تتكشّف حتما مثل هذا (السي دي) أشياء كثيرة في هذا العالم لا أعرف عنها شيئا، على الرغم من أن صويحباتي يعدنّي من(اللوتيات) جدا. بهيي بهيي! 

     

    سيارة قديمة (بيكب) حمراء ,متعتعه ،موديل1972 وضع عليها درابزين أسود قوي يترك أثر صدأ على الراحتين دائما؛ عرفت ذلك فيما بعد، وسألت نفسي: ماذا تترك قضبان السجن على الراحتين يا بنت ؟ عرفت عرفت!عندما صعدنا في (البيكب) كنا ستة اخوة. لكن تبخّرنا بعد ذلك. ويقولون نحن لا نتبخّر!!يا معوّد حكي.. نحن أول من تبخّر هنا،والله ،نعم طرنا في هواء بعيد:كل ّواحد في جهة؛ فنصيح هآآي أنت هآآآآآي أنتَ . أنتِ .هو هو.هي هي. لماذا لا نلتقي مثل ما كنا نفعل سابقا ؟ وأين سنلتقي لو أردنا ذلك ؟ذهبوا بعيدا ولم أعد أراهم .يمآآآآآآآآآآآآآ ! بعد سنين من العمل في خدمة المنازل .افترقنا. وما كنت أحسب أن نفترق يوما.أبدا أبدا. أما عند أول صعود لنا في (البيكب)؛ فقد كان عجيبا: العمارات تمرّ بسرعة ، والعالم زحام شديد. والأبواق لا تكف عن الصياح طاط طاط طاط. حقيقة فرحنا بالأبواق. كنا نضحك. وكلّ واحد منا نحن الستة كان يصيح أيضا:طاط طاط طاط. ضجة. لكن البيت كان أفضل على أية حال.

     

    لم نخف.طبعا. الخال عواد في الصدر.جالس.طبعا طبعا. وهو كان يخرج يده ويلوح لنا في كلّ استدارة تقريبا. وهو يتحدث مع (السيد أبو المكتب)، كان يعرف كلّ ما في الدنيا هذا الخال الوحيد. ومن لديه خال مثل عواد لا يخاف في الدنيا شيئا. طبعا!. قرفصنا في الحوض الخلفي للسيارة كدجاجات خائفات. كانت الدنيا شتاء، والريح باردة، والسيارة تخبّ الأرض خبّا تكاد أن تطيّر الخرق البالية. والأدوات على العموم بدائية جدا، تتكون من مكانس محلية الصنع، وجرادل مبعّجة قديمة تشبه رؤوس محاربين موتى، وقطع قماش مستهلكة فقدت ألوانها تماما؛ كلّ شيء يتحرك بقوة في السيارة. ووجدنا صعوبة كبيرة في الحصول على الأدوات بعد أن قلّت الأقمشة القديمة في البيت، وبيوت الجيران، والأقارب، والمعارف.كان من الصعب أن نفهم حقيقة لم يحافظ الناس على ملابسهم المهلهلة؟ وظننا إن تلك مسألة في غير صالحنا دائما. فما الذي ينفع الناس احتفاظهم بملابس قديمة وممزقة؟

     

    لم نسكت بازاء هذه المشكلة, فسألنا الخال عواد عن السرّ في شحّة الملابس القديمة؟ صمت قليلا، وشرع يتفكّر في الأمر مليا؛ فهو الذي يعلم كلّ شيء دائما عن الدنيا وأهلها وأحوالها وتقلّباتها؛ أليس هو البنا(في الحقيقة كان مساعدا لبنا لأنه عامل قديم، ولم يستطع أن يكون بنا طوال حياته، وإن لقب البنا قد أطلقته عليه أمنا للاعتزاز به فقط) زفر زفرة طويلة كعادته، وقال:" هذا الأمر الذي سألتموني عنه أكبر من رؤوسكم. أعملوا ولا تسألوا عما ترون. مفهوم؟ ". ماذا كان يقصد؟ عجيب. كلّ شيء عجيب. هنا.

     

    كان الشرط الوحيد لربّ العمل ـ السيد صاحب المكتب البدين المسمى أبو خضراء ـ هو أن نأتي بعدّتنا الخاصة معنا دائما، فهو ـ كما يصرّح دائما ـ غير مسؤول عنها، لأننا نستهلك ما يكفي من أدوات العمل اليومي. واصبح الحصول على الخرق أمرا صعبا جدا. لقد اتفق مع الخال عواد على ذلك منذ البداية، وحتى قبل أن ينبّهنا إلى أن الأمانة هي رأسمال هذه المهنة الوحيد. فأكّد إن علينا الإتيان بمكانس جديدة وخرق نظيفة وجرادل غير مبعّجة لأن العمل يجب أن يكون على ما يرام. وأن نعيد كلّ شيء إلى مكانه كما كان سابقا تماما في المنازل التي نزاول تنظيفها لكي يرضى عنا ( الإكبارية) يووووووه وعندما سألناه وما (الإكبارية) ؟قال ضاحكا: " هذه كلمة اكبر من راس خالكم عودة نفسه " حقيقة كان من الصعب علينا أن نتصور كلمة اكبر من رأس الخال عودة الذي يعرف كلّ ما كان وما يكون، وعلى ( الموده) كما يداعبه السيد أبو المكتب قائلا : "عودة أحسن موده. عواد شنو." أما الأمانة فلم يحدثنا بها أحد لأن الخال عواد هو الكفيل لنا.

     

    كانت قضية الأمانة محسومة منذ البداية،منذ أن جاء بنا عواد البنا إلى المكتب وقال:"عمي ، هؤلاء أبناء وبنات أختي ،طرون،أبوهم مات في الرشاد(*) فقراء،ينامون بلا عشاء طوال الدهر، بل هم نسوا أن ثمة وجبة طعام في الليل؛الليل للنوم عمي.إذا ما ضاع من بيوت (العالم) شيء ، أنا كفيله،من الدينار للألف..زين؟ " هكذا سرنا نحن الأخوة الستة كلّ يوم تقريبا:الأولاد الأربعة ( علي وحسين وحسن وعباس) والبنتان (فطم وزنوبه) اللائى اختصصن بتنظيف المطابخ والبلاليع ودورات المياه ولمّ الزبال. في حين تولّى الأولاد الأعمال الثقيلة في التنظيف كغسل السجاد، وتنظيف غرف النوم والاستقبال، وترتيب الحدائق أحيانا. كان الخال عواد يأخذ بخشيشا من كلّ منزل. فيشتري لنا بعض الحلوى أو الموطا ويلزمنا بعدم إخبار الوالدة. لكني أنا زنوبة أم لسان الطويل كنت أخبرها بكل شيء، فتضحك، وتقول : عوافي يووووم.

     

    كان أول من غادرنا ، ولم نرهما بعد ذلك ، علي وحسين. ذهبا إلى خدمة العلم. ولم نفهم ماذا يعني أن يخدم الإنسان قماشا بألوان ويرفرف في كلّ مكان، وبنجوم خضر، والأهم من ذلك اليوم :يوم وقفت السيرة البيكب أمام (الدفاع) ونزل الجميع منها إلا نحن الطرون ، وترجّل الجميع احتراما للعلم. عجيب.في حين راح البوق يصهل..طوطوطوطووطوطو! ولم نفهم . قالوا : تحية علم! لكن علي وحسين لم يكونا تحت العلم ، فماذا كانا يخدمان؟ آآه. الجبهة . الجبهة . الغياب. غابا .التوأمان. في معركة واحدة.البسيتين. يمآآآآآآآآآآآآ! لا أحد ينسى تلك الكلمة أبدا. العلم. طوطو طو طو طو طو طو. بكت أمي حتى عميت.وكرهت العلم والطوطو.وقلّ عددنا وزاد العمل.أصبحنا أنا وزنوبة ننظف السجاد. ونرمي بتراب الحديقة بعيدا. ولم نعد نشاهد الخال عواد إلا نادرا..

     

    كان السيد أبو المكتب هو الذي يأخذنا ويعود بنا، وكان يفتّشنا في كلّ مرة فقد خفت بريق الأمانة، يقول: الدنيا خربت!. فتداعب يده الخشنة صدري الناهد الصغير. أما فطم فقد كانت تضحك وتسترخي له. عيب فطم . دولّي مو يبطلنا. لكن فطم في ليلة غريبة أحرقت نفسها وهي تصرخ وسط الزقاق الضيق يآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ ! كانت بطنها مثل بالون أسود .وأشاعت أمي إن المدفأة قد أحرقتها وهي نائمة. أنا كنت نائمة. وعندما فتحت عيني كانت النار قد التهمت فطم. وحدي كنت أعدو في الشوارع وأخواي حسن وعباس يعدوان خلفي: زنوبة زنوبة !حسنا لم يعد ثمة أحد يذهب إلى خدمة المنازل بعد ذلك. والسيد البدين صاحب المكتب لم نعد نشاهده. وعبارته القديمة :انظم لعمال المنازل! لم نعد نسمعها.

     

    عندما ظهرت في آخر (سي دي) يمكنكم أن تشاهدوا (الأستاذ) وهو يداعب شعري، ربما كان يمسح دمعة طافرة عني. بصقت على الأرض. فألقي بي هنا، في سجن (الأستاذ) عارية ربما اكثر من سنتين لم يكن الزمن مهما، ضاع الزمن معي منذ ان فقدت أخوتي ؛ كنت أشبه القردة
    كلمات مفتاحية  :
    قصة عمّالُ منازلٍ صغار

    تعليقات الزوار ()