لســــع النعناع

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : محمد شمخ | المصدر : www.arabicstory.net

 لســــع النعناع  

 

 " الشيخ إسماعيل " مؤذن الزاوية القديمة يردِّد دائماً أن لا منبه ولايحزنون ، هو يفيق من تلقاء نفسه ، و"الشيخ على" الإمام لا يصدقه أبداً ، لأنه هو نفسه لا يستغنى عن المنبه .

 

أحس الشيخ إسماعيل  بلحم " أم فرج " يثقل على سلسلة ظهره . فتح عينيه ببطء . تنصت لصوت الأنفاس العميقة ، نادى : أم فرج ، أم فرج

 

لكن صوته تحشرج . بدا كأنه يتنحنح ، أراد أن يقول لها أن تكشح فخذها عنه ،وأن تنقلب الى الجهة الأخرى : نايمه نوم أهل الكهف ...

 

 قالها لروحه ، فيما أحسَّ أنه أوان الفجر . انقلب على ظهره . جاهد حتى اعتدل . قعد . نظر بضيق الى سحنتها العرقانة ، لاحظ أن جبينها ووجهها يلمعان من أثر العرق المدهِّن ، حوّل عينيه عنها .

 

      زحفت كفُّه تحت المخدة ، سحب طاقيته ، كبسها فى صلعته ، ثم ترك ساقيه تنزلقان وتتدليان ، شعر بالحصيرة تدغدغ باطن قدميه . نتش الجلباب المعلّق على مسمار بالجدار ، طرحه خلف رقبته المعروقة، خطا نحو الباب ، تحاشى أن يخبط شيئاً ، شدّ دلفة الباب نحوه مرتين ، أزت المفصلات ، مرر جسده ثم استدار ، زم ًّالباب ، انقلبت " أم فرج " الى مكانه .

 

فوق عتبة البيت دسَّ قدميّه فى المداس .. بعد خطوتين فى الحارة الضيقة السدْ . شعر بنسمة هواء رطب تدخل من فتحتىّ لباسه الطويل ." يا الله " تمتم بها ، وحَوَد الى الشارع .

 

رغم سُمرة بشرته الا أن النور المنبعث من مداخل البيوت ، جعل زبيبته الداكنة تسطع فى وجهه ، وتنافس أنفه على الظهور .

 

وجد نفسه – كما فى كل مرة – يمشى من الجهة التى بها بيت الشيخ على ، رغم أنه ينوى دائما أن يخالفها ، حتى لايشعر به ، إذ ربما يكون فى نوم ثقيل فتروح عليه الصلاة ، فيؤم هو المصلين ، ويظل يتندر بها طوال النهار .

 

مرقت ( عِرسة ) من أمامه ، لم يلحظها .. حاذى جدار غرفة نوم " الشيخ على " .. وحاذى جدار مكتب تحفيظ القرآن .. وتحاشى العتبة التى يجلسان فوقها آخر النهار ، وهما يتحادثان ويحكيان لبعضهما الأسرار ، حتى إذا غلبهما الصمت ، سأله عن الوقت ، وقام يسبقه الى الزاوية ، ليؤذن ، ويرد الشيخ على بأنه سيلحق به ...

 

( وينسل من الباب الموصل حجرة المكتب بالصالة ، ليطمئن على زوجته الجديدة ، وما إذا كانت تريد شيئا أو ينقصها شىء ، فهو يدلّلها آخر دلال ، وشايف مزاج مزاجها ...)

 

ولاحظ الشيخ إسماعيل أنه صغر أكثر من عشر سنوات ، وأنه قد صبغ شعر رأسه ، ويداريه عن الناس ..

 

( وعنى أيضا ً، مع أنه كان لا يدارى عنى شيئاً مطلقا ً، حتى نيته فى الزواج صارحنى بها فى وقتها ، بعد أيام من وفاة زوجته، ولما نقلتُ الخبر إلى أم فرج ضربتْ صدرها وقالت : بعد وطفة ناوى يتجوِّز   !؟   

 

وأقسمتْ أنه لن يأخد ثواب صلاته ، بل أن صلاته باطلة ، ولم لا !؟ وهو الذى تزوج وخان العشرة ...فضلت ُ ساعتها السكوت ..)

 

 

 

      رفع كلب رأسه ، وقام متمطعا ًالى الجهة الأخرى ، زام ، حتى مرّ الشيخ اسماعيل من فوق مكانه ، عاد ورقد فيه ثانية .

 

وقف الشيخ إسماعيل قبالة باب الزاوية ، مدّ يده فى ( الصديرى ) ، طلّع ربطة المفاتيح ، أطول مفتاح هو مفتاح الباب العمومى ، فتحه .

 

بسمل . خلى المداس فوق المصطبة أمام الباب .

 

" يا الله " قالها ودخل .

 

مدّ ذراعه الى لوحة الكهرباء ، أضاء لمبة فوق القبلة تماما ً.. ركن الجلباب عند المنبر ، قرّب ربطة المفاتيح ، المفتاح القصير الغليظ هو مفتاح المنبر ، فتحه .

 

أدار الراديو ، ورغم أنه يقفله دائما ًبعد كل صلاة للعشاء ، وصوته نقيا ًواضحا ً، إلا أنه يجده فى الفجر مشوشا ً، مختلطا ًبموسيقى ، وكم أوضح له الشيخ على وفسّر ، بأن السبب يرجع إلى الموجة ، وتغيّْر الإرسال ، ويعيد مايقوله ، ويزيد ، لكن الشيخ إسماعيل لا يفهم منه شيئا ، ويقع فى نفسه أن الشيخ على يتفذلك ، وأن فذلكته زادت من يوم زواجه الجديد ..

 

( المسألة ببساطة أن أحرك المؤشر قدر شعرة ، وأُنصتْ .. تختفى الموسيقى ، ويصفو الترتيل ، أمّا الكلام عن موجة وخلافة فهو كلام غير مفهوم ، ولا مؤاخذة يا شيخ على ..)

 

اطمأن الشيخ اسماعيل للصوت .. هوّى تكة لباسه .. راح للميضة ، وكلما اقترب سمع صوتا ً، كأنه خرخرة مياه. حدًّث نفسه لابد أنه أحد الملاعين الذين يأتون فقط للتبول ، قد ترك الحنفية من ورائه مفتوحة ..تأكد وتيقن أن الصوت خرخرة مياه ، وأنه يأتى من ناحية الحمًّامات . لبس قبقابا ً، نزل درجات ، خبط الأرضية ..

 

يسأله الشيخ على : إنت بتخاف ياشيخ إسماعيل ؟؟

 

يرد سريعا ً: أخاف من اتنين ؛ ربنا والنسوان .

 

يقول الشيخ على : النسوان خلقهم ربِّنا لنا .. للحياة الدنيا .. عشان نحبهم ، مش نخاف منهم !؟

 

-  بس ياشيخ على ما قدرتهم على حد !!

 

يعجن الشيخ على فى الحديث ، ليأنسا وهما فى طريق عودتهما من المعزى :

 

- يعنى لو طلع لنا شيطان ماتخافش !!؟

 

-  الشيطان ومالو.. لكن شيطانة أعوذ بالله ، احنا قادرين على إنسهم ..!؟

 

يقهقه الشيخ على فيجعل الطريق كله ضوضاء .

 

من عادة الشيخ إسماعيل أن يدخل أول حمَّام ؛ يقضى حاجته فيه ، ويخرج ليتوضأ ، لكنه تخطَّاه . حاذى كل حمَّام ، يبص ويتسمَّع . تبلبل لسانه فجأة واستعاذ ، حين لمح فى الضوء المتسلل من الزقاق المجاور شبحا ًعند آخر حمَّام ، زعق:

 

- بت !؟

 

صوته تحشرج .. استعاذ فى سره ، ربما مائة مرة :

 

- بت .. بتعملى ايه عندك ؟

 

- باملا ياشيخ اسماعين ..

 

استقر قلبه ، هدأ ، زرَّ عينيه ، عرفها :

 

- دخلت إزاى يابت !؟

 

- الباب دا مفتوح.. أهو .

 

(مفتوح.. !؟ المفتاح الأوسط هو مفتاح باب الزاوية الخلفى ..)

 

حط المفتاح فى الكالون، (المفتاح بيفوِّت! الكالون لابد فسد ..)

 

استدار ، وضع كفَّه فى الأخرى ، وراء ظهره ، عند خيط التكة . خفَّف من صوته :

 

- يا بت دى مية الجامع ..

 

- المية مابتوصلش عندنا ياشيخ إسماعين .

 

لاحظ ثوبها ( السرسيه ) مبلولا ً، وملتصقا ًببدنها ..

 

- دى يا بت مية وضو ..!

 

-  ما احنا بنتوضى منها ياشيخ إسماعين !

 

قالتها بميوعة ، وابتسمت . بدت نضارة خديّها .. انحنت ترى إن كانت الغلاَّية امتلأت .  انتفاخات أردافها بقيت فى الضوء ، وقعت عينا الشيخ إسماعيل عليها ..

 

يسأله الشيخ على : بنت مين ؟

 

يجيبه : بنت الشوربجى ..

 

يعتدل الشيخ على ويقول : البنت دى فرسة ..!

 

يردّ الشيخ اسماعيل وقد خمَّن مافى رأسه : مِرات عبد اللطيف السباك ..

 

يتغير وَجْه الشيخ على ، يرتد بصره ، يرجع ظهره إلى جدار مكتب التحفيظ ،

 

يضيف الشيخ إسماعيل : اللىّ فى العراق..

 

اعتدلت بنت الشوربجى ؛ الغلاية لم تمتلىء بعد ، سألها وقد راحت حشرجة صوته :

 

- عبد اللطيف هنا يا بت ؟

 

شدّت ثوبها الى الوراء : هنا ..

 

اختنقتْ ضحكة قصيرة فى صدره ، كح :

 

- كله منكم ، الخزان مابيكمِّلش النهار !

 

تقطَّعت ضحكته ، ولا يعرف كيف نطَّت صورة أم فرج اللحظة الى رأسه ، وكبستها بأكوام من اللحم المتهدل ، المدعوك بـ ( المروخ ) ..

 

- بيلعب نفسى ياشيخ علىّ ، ساعتها أقرف من الدنيا ومن كل بنات أمنا حوا ..

 

يقهقه الشيخ على ، يخرج الولد " رفعت " من دكانه الذى فتحه قبالة مكتب التحفيظ ، يمسح الشيخ علىّ قفاه بالمنديل ، ويميل هامسا : يعنى لاتعاشرها ياشيخ !؟

 

يرد سريعا ً، كأن الشيخ علىّ رماه بإحدى الكبائر : أبداً والله ، ومن سنين ، وكمان المرض اللىِّ جالها فى القلب ..

 

انتبه ، انتبهت ..

 

الغلاية طفحت ..

 

انكفأت تقفل الحنفية ، غابت عينا الشيخ اسماعيل ، حطَّت ، زحفت فى الخط الذى بين ردفيها وساقيها . تصوَّر الشيخ علىّ راقدا ًجنب بنت الراجحى التى لاتتخير عن هذه .

 

عدلت قامتها ، فكَّ يديه من وراء ظهره ،  ومن غيرأن تطلب منه أو تلمح إليه مال معها ، يرفع الغلاية ، لم يشعر بثقلها ولا بدفقة المياه التى اندلقت عليه ، أحسَّ عافية واتته فى ذراعيه ، استحالت فجأة خدرا ً، حين انزلق ظهر يده – فى صعوده – على نهدها . استقرت الغلاية فوق رأسها ، واستدارت تخرج ، تقافزت عينا الشيخ إسماعيل على بدنها ، ثم حطَّت على الكالون .

 

وقف متسمراً ، لايشعر بشىء ، الا شيئا ًواحدا ً؛ هو ظهر يده ، يشعر أن به لسعا ً، كأن الذى فى عروقه ليس دما ً؛ إنما نعناع .

 

    أفاق ، راح عند أول حمام ، لم يدخل ، تقدم للوضوء . صب َّالماء على يده . ازداد لسع النعناع .راح يلبس جلبابه . خرجت يده قبل رأسه . قعد على غير عادته ولم يصل ركعتى التحية ، ولم يسبِّح حتى أوان الآذان . أسند رأسه إلى المنبر، وضمَّ ركبتيه الى صدره ورأسه الى كفه ..

 

ينطلق لسع النعناع تحت جلده ، إلى أطرافه ، وإلى أنفه ، وإلى عينيه ، وإلى قلبه