أمضيتُ في السجن بِضعَ سنين، قبل أنْ يسمحوا لي باقتناء قلم ودفتر، ولهذا ستكون كتابتي كما هي، لقد كان ذلك الرجل خفيا لكن احدا من الناس لم ينتبه لذلك، مبعثرة ومشتتة بعض الشيء، لا أعرف من أين أبدأ، لكنَّ الأحداث بدأت بعد التهجير الطائفي في العاصمة، فاضطررنا لترك البيت، لم نأخذ سوى ملابسنا، الإيجارات غالية جداً، عملت لأشهر كحارس ليلي لمنزل أحد المسئولين من أقرباء والدي، مقابل مئتي دولار في الشهر، في الحقيقة لم يكن واجبي الحراسة، فالمنطقة كانت مليئة بمنازل كبار المسئولين فضلاً عن دائرة لا أحد يعرف عنها شيئا تتمتع بحراسة مشددة ليلاً ونهاراً، وشارعها مسدود المداخل، من الجهتين، رغمَ أن لتلك الدائرة بعض الجيران الذين يملكون سيارات شخصية، وطالما حيرتني مسألة امتلاكهم لسيارة لا تستطيع أن تغادر الشارع بسبب الحواجز الكونكريتية، لا يدَّ أن يكون للشارع مدخلاً آخر أو نفقاً تحت الأرض، يسمحون فيه لجيرانهم بالدخول والخروج، كان واجبي بالدرجة الأولى تشغيل مولدة الكهرباء، في ساعات الانقطاع الطويلة، كان يقلقني شيءٌ واحد، وهو أنَّ ابن هذا المسئول اعترف أمامي بأنَّه يتناول المخدرات، ولكنَّه لم يدمن بعد، وكنتُ أريد إخبار والده، الذي كان لطيفاً جداً معي، وسخياً، ودعاني لتناول العشاء معه مرتين، كان يأتيني إلى غرفتي، وقد جلب أنواعاً لذيذة من الطعام ويجلس معي بتواضعٍ وودٍّ كبيرين وكأنَّه أحد أصدقائي، لكن تناول العشاء بصحبة الأهل مجتمعين، هي أكثر من مجرد مسألة عشاء، أو حتى اجتماع، كانوا يودعونه تقريباً، فقد حصل على دعوة من أخيه في النرويج، وأرسل له ثمن الطائرة (ذهاب وإياب)، لم ينم ليلته إلا إغفاءات قليلة، في كافتيريا المطار الصغيرة، أخطأت الموظفة المسئولة عن قبض ثمن البضائع، وأعادت له مبلغاً أكبر من العشرة دولارات التي أعطاها، فنبهها دون تردد إلى الخطأ وأعاد لها مالها، رغم حاجته الشديدة، كان في جيبه ستون دولار فقط، باعتبار أنَّ أخاه سينتظره حال وصوله في مطار العاصمة أوسلو، والتي يبلغ عدد سكانها نصف مليون فقط، كما أخبره شقيقه، وهو لا يكاد يصدق، يركض عبر ممر ضيق في المطار، كأنَّه كيس رجال الفضاء، فيه أناس ظنهم ينزلون من طائرة، وناس يريدون اللحاق، والصوت يصدح برقم الرحلة، وهو قد تأخر قليلاً، فجأة تعثرت امرأة عجوز وبدينة جداً وسقطت بشدة على الأرض أمامه، كان معها فتاة صغيرة، لم يستطع أن يتوقف لمساعدتها خوفاً من تفويت موعد الطائرة، تجاوزها لبضعة أمتار، ثم التفتَ إليها، كانت لا تزال على الأرض، والفتاة تبكي وهي تحاول عبثاً مساعدتها، قرر العودة دونما أن يتذكر العواقب، كأنَّه نسيَ كل شيء، طارت الطائرة وعاد بخفي حنين، لكن أحد الإرهابيين استولى على الطائرة، التي هبطت اضطرارياً في أنقرة، وبعد هبوطها وتسليم الإرهابي نفسه للحكومة التركية، والتي بدورها أعادته إلينا، وتبينَّ أنَّه قد سافر بدلاً عني، وهكذا جاءت قوات الأمن وأخذتني منذ ذلك اليوم، لكنني لم أتعرض للتعذيب مثل بقية زملائي في التوقيف، ولم أفهم سرَّ هذه المعاملة الحسنة، كان للمسئول الذي كنتُ أعمل لديه ابنةٌ على درجةٍ عالية من الذكاء، والأخلاق الحميدة، تخرجت من الإعدادية بمعدل 99% وهو أعلى معدل في القطر، وكانت محل فخرٍ لكل من يعرفها، وفي كلية الطب كانت الأولى، فتمَّ تعيينها كمعيدة في الكلية، هي التي أخبرتني بالحقيقة، لكن بعد ماذا؟ فعندما خرجتُ من السجن كانت والدتي قد التحقت بأبي رحمهما الله، وشقيقتي قد سافرت إلى الشام، ولم أعرف مصيرها، أخبرتني الدكتورة، أنَّ الطائرة التي اختطفت من المطار، لم تكن طائرتي، وأنَّ سقوط العجوز كان تمثيلية، وحتى المال الذي أعطتني إياه موظفة المبيعات في كافتيريا المطار، كلُّ هذه العراقيل وضعت لاختباري، استعدت شريط الذكريات الذي كاد يتلف من كثرة الاستعادة، في غرفة حراستي كان يوجد جهاز كومبيوتر، ولأنني كنت قلقاً جداً على مصير ابن المسئول الذي بدأت حالته تتدهور شيئاً فشيئاً، قررت أنْ أكتب رسالة لأبيه أخبره بحالة ابنه، واتركها في ظرف، بدون توقيع، فيعثر عليها الوالد وينقذ ابنه، لكنَّ الدكتورة كانت قد سبقتني بخطوات كثيرة، حيث كانت هي أيضاً تخطط في نفس الاتجاه، لكن بمستويات أعلى من الوزارة حتى، كانت قد كتبت شكوى ضد والديها بأنَّهما مدمنين على المخدرات، وأنَّ والدها الذي كان بدرجة رفيعة جداً يتاجر بها، ولكن الشكوى أهملت، وخافت أن تعترف لأبيها بأنَّها هي التي تقدمت بالشكوى عن طريق خطيبها، وبالتالي فقد شكك السيد الوالد بالحارس، لأنَّه بعد كتابتي للرسالة غير المعنونة ولا الموقعة، حذفتها من الحاسبة، وبسهولة استطاع والدها عن طريق برنامج إعادة المحذوفات الإطلاع على الرسالة، فدبر مسألة الدعوة، وفبرك اختطاف الطائرة، التي لم تختطف أصلاً، لكنَّهُ أحيل على التقاعد، بعد سنتين، ابنته قالت له قبل وفاته بثلاث سنوات أنَّها هي التي تقدمت بالشكوى ضده، لكنَّه لم يصدق، ظنَّا منه بطيبة قلبها وسذاجتها...ولم يبقَ من كل تلك السنين، سوى الدعوة المزيفة لزيارة النرويج مع الدليل السياحي، واليوم بدأت أشكك في معلومات الدليل نفسه، فكيف لدولة كالنرويج، بلغ عدد سكانها بداية الألفية الثانية أربعة ملايين و 478 ألفا و 497 نسمة، وهي إلى اليوم لم يزدد عدد سكانها إلا نصف مليون فقط..رغم أنَّ وزارة الهجرة تستقبل سنوياً أكثر من مائة ألف مهاجر، سألت الدكتورة عن الدليل فيما إذا كان مزوراً أم لا، لم تجبني سوى بابتسامة أظهرت تجاعيد وجهها بشكلٍ أبرز، ثم انصرفت...