بتـــــاريخ : 10/12/2008 8:25:42 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1297 0


    عيون

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبدالكريم يحيى | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة عيون

     

     

    عيون
     
     
     

     

    آثر أبو بصير البقاء، وعاد أبو جندل من سفره، ورجعتُ أنا منهكاً إلى بيتي، أنفقت مدخراتي في المحاولة الأخيرة، ساعدتني قليلاً قصة المليونير النموذج لأوسكار وايلد، قصصتها عليه فكان دائماً يدفع آخر دينار في جيبه لأول شحاذ يلتقيه، كان رأسه قد أمتلأ بخواطر حزينة عن الذين ما تمهلوافي طريق الهروب إلى قشمد، تبادلوا الأدوار، ولعبوا جولةً أخرى، الرابح خاسرٌ فيها، ثمَّ جميعهمتأسفوا، إذ ما كانوا من الذين قاموا فقالوا....ولأنَّهم تعجلوا، وكذّبوا وضللوا، وضخموا، وهوِّلوا، تقافزوا، تراقصوا، تكحلوا، وقيدوا وقتلوا وحرقوا وفجروا ونَكِّلوا، ويتموا ورملوا، وفرَّ البقية، حين انفجرت الأرض عيوناً، رآه صديقي في منامه فقال له مؤنباً: ما بكم؟ عجزتم حتى عن سدِّ هذه العيون!! يقول صديقي نظرتُ إلى الأرض فإذا بها مئات العيون البشرية المفتوحة، كانت مرعبة، لكن لم أرَ فيها رعباً أكبر من الذي وجدته في وثيقة(كيف سيبرأني التاريخ؟).
     

     

    سئمتُ البقاء في طريق الهاربين، جميعهم تساءلواوتساءلوا..واشتاقوا إلى الأرض التي خذلوها، بلاد رفضٍ وقبول، لفظتني مجعدا لتَكْويني الغربة، أسماءً أخرى لم اسمع بها من قبل، وعباءةٌ حمراء بعتها في مزاد خليج الخنازير السنوي، لهذا المزاد عاداتٌ وتقاليد وعيونٌ وآبار تنزف ورداً قانياً للريح، يرث جنوني هذا العجوز، يساومني على حياتي، وكلما أردتُ البقاء، على عتبة العار، وبوابات حرب الأفيون، والوحش الذي لا زال مستيقظاً، يبلعُ لؤلؤةً منتهية، يبلغ ساعة الحلم، يتجاهلهم وينبذهم ولا يترك لهم شيئاً، يفكر ويتساءل ويتبلل قبل المطر، وهو يفعل هذا بصورةٍ مبالغ فيها، منذ أن قال لهُ أحد أساتذته(ستشقى كثيراً قبل أن تعود).

     

    تَقَوْقَعَ داخلها، جعلتْ منه شخصاً آخر من نوعٍ مختلف، ليس لأنَّه يريد أن يختلف، بل لأنه بدأ يتساءل: ثَمَّةُ ساعةٍ، في الليل،‏ أو في النهار، يتجلى الصمت الكوني، ينصت لعربة الأقدار الرشيقة وهي تنزل عبر ألف سنة قبل أن تصيبنا المصائب كالصواعق، آنذاك تتكاثف الأشياء وتتساوى الأقيام، واللاوعي يضغط،‏ وأنا رأيتُ كل هذا في قيلولة حارة لَفَّنِي فيها الوسن، ومنعتني قطرات العرق اللزجة من النوم والفهم، وطنين ذبابةٍ كلما طردتها عادت بلا حياء، أتخيَّل أحياناً إنَّ جميع الناس ينظرون، ويسخرون من تأخري في المشي وحذائي المتهالك، ألتفتُ إليه بسرعةٍ كبيرة فسبقني وغير وجهة نظره، وانشغلت بشيءٍ آخر، مستعد كل الاستعداد أنْ أُحرقَ كل شيء، بواسطة عود ثقاب أمسكه بيدي اليسار وأشعل سيكارتي قبل أن أرميه فوق البنزين الذي أسكبه من العلبة التي أمسكها بيدي اليمين، لا أدري من أينَ جاءت هذه الصورة الوحشية إلى ذهني، رغم إني لا أدخن.

     

    أليسَ من الممكن أنْ يكونَ أكثرَ إدراكاً للمقابر التي تتجدد أسوارها كل يوم؟ ولخريف لم يأتِ بعد؟ وعجوز مبغض حسود؟ مفسد الدقائق الأخيرة، يسكن في منطقته، من أهم مشاكله وهمومهِ،ومهما فعل لم يكسب منه وداً،وعبثاً يحاول أن يهرب منه إذا نجح في التهرب منهُ عند الخروج من المنزل، يصطاده عند عودته،وينهال عليه بِالأسئلة،التي تنهمر على رأسهِ كالمطر الشديد الذي لا تنفع معه مظلة، مرةً رآه يحمل كتباً بادره: - مبروك عدت إلى الدراسة من جديد.

     

    ورآه يحمل كيساً،فسأله عن محتوياته ومن أين اشتراه، وفي إحدى المرات زاره صديق لا يعرفه، فوقف معه يسأله أين تسكن؟وماذا تعمل؟وعن أسعار صرف الدولار والوضع السياسي، وقصصاً وأساطير عن بطولات الرئيس الجديد، وكرامات الرئيس السابق، كل هذا في دقائق انحصرت بين طرق بابه وتلبيته مسرعاً، أدخل صديقه بسرعة خائفاً عليه من عين العجوز، بَقيَ العجوز قرب النافذة التي تطلُّ على الشارع ينتظر ويروح ويغدو من أمام النافذة، وبعد ذلك يطرق على الباب طرقاً قويا ويصرخ: - انتهت الزيارة...انتهت الزيارة...

     

    قريباً يبلغهم كل الذي قلنا، فيقتحموننا، لقد كره كل الأغاني، وترك هوايته في اصطياد الفتيات السريعات، ودارت به الريح، يخاف الرجوع إلى أية غرفة في فندق رخيص، وبالتأكيد لا يعلم العجوز كم هو مزعج للجميع،كانت عينه اليسار طافية كما يقولون أي يعلوها البياض،طُرِقَ بابه في الصباح الباكر،كان على موعد مع صديقه ليذهبا إلى خارج المدينة،وقف العجوز مع صديقه قرب السيارة يسأله عنها وهو يدور حولها:

     

    -سعرها ومواصفاتها وصديقه الذي بدا منزعجا يجيبه بضجر:

     

    -ليست للبيع.

     

    - هل شاهدت الأخبار يوم أمس وكيف ينحني جمال الدرة بجسمه المتهالك الضئيل، ووجهه الأسمر،على ولده محمد، ليحميه، وكيف اندفع معه إلى الجدار، ليلتصق به، قال إنَّه كان ذاهباً ليشتري سيارة جديدة، ولا دخلَ له بالمقاومة.

     

    -أنا لا أتابع الأخبار أبداً.

     

    خرج من البيت فَصُدِمَ بجدار عندما رأى العجوز،نظرَ إليه بازدراء وصرفه بأسلوب خالٍ من اللباقة: - نحن على عجلة من أمرنا.

     

    -إلى أين تذهبان؟

     

    سأل العجوز لكنهما ركبا في السيارة ولم يهتما لسؤاله، قال صديقه:

     

    -أنا لن أذهب معك، هذا عارض مستقبلٌ سفرتنا.

     

    -ما هذه الخرافات؟

     

    أدار محرك السيارة فلم يعمل فقال:

     

    -هل رأيت؟ألم أقل لك؟هذه بسيطة والعارض الأصعب عندما سنستمر برحلتنا.

     

    الحسد أغبى الرذائل إطلاقاً لأنَّه لا يعود علي صاحبه بأية فائدة فضلاً عن الحسرة والحزن، وهو عاطفة مفعمة بالجبن والعار بحيث لا يجرؤ انسان علي الاعتراف بها، فماذا سيستفيد وقد أُلغيت الرحلة، نصحه صديقه أنْ يضع قنفذا في سروال العجوز الداخلي أو هراً، لكنه عجز في العثور على قنفذ، لذا فكر ولأول مرة أنْ يقتل العجوز ويتخلص منه، لقد أعطبَ اليوم سيارة صديقه الوحيد الذي تبقى لهُ، صديقه الآن أستاذ في الجامعة،والآخر ضابط مرموق في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة،والآخر تاجر جلود يتنقَّل بين دول الجوار، ولا سفرٌ يؤدي إلى سفر، وهؤلاء المرموقين كانوا يتهافتون عليه ليحلَّ لهم مسألة رياضية في الفيزياء أو الرياضيات أو ليعرب لهم جملةً أو بيتاً من الشعر،(اسمحوا لي أن أنبه هنا على أن تهافت الطلبة عليه كان حقيقياً، لكنَّه عندما يتحدث عنه يذكره مبالغاً بعض الشيء بالنسبة لقوة تهافتهم) إنَّه ببساطة لا شيء، هو عبارة عن عجوز متعفن فاته القطار، وفي انتظار القطار الثاني لا يملك إلا يدخن سيكاراً آخر وينتقل إلى غرفةٍ أخيرة في فندق آخر، رغم كل مواهبه الطبيعية وذكائه الكبير وثقافته الواسعة، كان يعتقد بيقين بأنَّه لا شيء، رغم مئات الكتب التي قرأها وربما تجاوزت الآلاف، لكنه لم يتجاوز الفكرة التي اقتصت منه، إنَّه يقرأ فقط، مرةً في الأدب ومرةً في التاريخ، لينتقل إلى التصوف،وأخرى في الروحانيات، ويعود إلى الشعر والقصة،وكان يجيد اللغة الإنكليزية، لكنَّه يخاف عمل المترجم، ليس لأنَّه لا يملك الثقة الكافية بنفسه، بل لأنَّه يكرهه فحسب دون أنْ يعرف السبب، ووفق آراء مَنْ حوله من الذين يعرفون مواهبه، فهو(سبع صنائع والبخت ضائع)كما يرددون دوماً، وهو عندما يسمع هذا المثل، يشعر بخليط عجيب من المشاعر المتناقضة، الحزن والفرح، الإحباط والطموح، من الخزي والفخر، وينتهي التفاعل بين هذا الخليط العجيب من المشاعر، إلى حالة إكتئاب شديد، يظنُّ نفسه لا يعرف السبب،وبصورةٍ أو بأخرى وصل إلى حلٍّ لمشكلته، وهي التخلص من عين العجوز، ومن الأسئلة والمشاكل التي يسببها،ظلَّ يسأله عن دراسته حتى تركها وعن وظيفته حتى فصل منها،إنَّ الشيء الذي يراه أو يتكلم عنه يتلاشى ويتبدد كالغبار، يخاف من نظرته أكثر من أي شيء في العالم ويكرهه كراهيةً ملأتهُ حتى صار يكره العالم كله بسببه، وبدا عليه التغيير النفسي الذي طرأ عليه، من خلال العزيمة الراسخة التي تفضحها نظراته الحادة، سبعة أيام وهو يراقبه وخاصةً في الليل حتى أنَّ العجوز شعر به وما عاد يتعرَّض له كما كان يفعل في السابق،الأوان قد فات ولا صورة في ذهنه إلا مقتل العجوز، والخطة كانت رسمُ عصفور وبابٌ للقضاء والقدر، مرحلة التنفيذفي الليلة الثامنة،حين استدار العجوز إلى الفرع الذي يؤدي إلى بيته، كان الحي الذي يقيم فيه سيئ الإضاءة ومصابيح الشوارع فيه قليلة ونادرة، لأنَّها أهداف حيوية للأطفال المشاكسين، رآه يسرع في العودة إلى بيته بسبب الجو المحمل بالتراب والرياح القوية وهو لديه ربو،لحقه وأنهال على رأسه ضرباً بقضيب حديدي كان قد أعدَّه لهذا الغرض وبقي يضربه حتى أن العجوز لم يكد يتفوه بأكثر من كلمة واحدة: آآآ

     

    لكنها كانت مختلفة، وعاد إلى البيت، تخلص من سبب خوفهِ، لم تعد تفزعه عين العجوز الطافية، لكنَّه تغير، يشعر أنَّه قد تغير، ليس هو، نزع ملابسه وغسلها جيداً لكنه رأى في إحراقها أماناً أكثر فأحرقها، منْ لحمِ العجوز، قدّد حساءً ينيرُ عتمة الخزف القديمة في غرفته الرطبة، وظلَّ بين لحظةٍ وأخرى يسرع إلى النافذة ليسمع شيئا عن الحادث لكنه لم يسمع شيئاً، ومن دون رغبة استغرق في نوم عميق، وفي الصباح ذهب إلى صديقه الذي لم يتوقف عن طرح الأسئلة بعد أن أخبره بالقصة، كان منهاراً يعجز عن التفكير أو أي شيء آخر، وعند عودتهِ إلى البيت ويا لهول المفاجأة، إنَّه العجوز نفسه بشحمه ولحمه يجلس كالمعتاد على رصيف بداية الشارع يمارس هوايته في مراقبة الناس وطرح الأسئلة بكم اشتريت هذا؟وبكم تبيع ذاك؟غير معقول فقد قتله بيديه هاتين،هل ضرب شخصاً آخر؟ولكن المعطف الذي يرتديه الآن هو نفسه ومن المستحيل أن يوجد مثله في هذا العالم،مرَّ به سريعاً ولم يستطع أن يرفع نظره باتجاهه،لكنه سأل عنه أحد البقالين في المنطقة:

     

    -من ذلك العجوز الذي يجلس على ناصية الشارع ذو المعطف الأسود؟

     

    -لا بدَّ أنَّك تمزح، يا مسكين ماذا حلَّ بك وهل هناك أحدٌ لا يعرف هذا العجوز الذي وصلت شهرته إلى دول الخليج إنَّه وحش الشاشة ذو العين الواحدة بواحدة!لابُدَّ أنَّه قد نظرَ إليك نظرةً أطارت لك عقلك، أيها المسكين هههههه.

     

    وأستمر البقال يتكلم بلهجته الساخرة بينما هو كان قد وصل إلى بيته، لم يستطع الاستقرار في البيت فخرج ثانية إلى مكان الحادث ليبحث عن بقع دمٍ أو ما شابه ذلك وسأل الجيران عن حدوث مشاجرة ما، يوم أمس فأجابوهُ بالنفي، عاد إلى صديقه وأخبره بأنه رأى القتيل يمارس هوايته ثانية فنصحه صديقه بأن يذهب إلى طبيب نفسي وقال له بأنه قد كذب عليه في ذلك اليوم فالسيارة لم تكن عاطلة ولكنه كان على موعد مع صديقته،لم يهتم كثيراً بحديث صديقه ففكرة بقاء العجوز على قيد الحياة عطَّلَّتْ له كلَّ ما كان يحمل في ذهنه من محركات أفكار لأنَّه غير قادر على أن يستوعب شيئا، أخذ يفكر في خطةٍ ثانية للتخلص منه،لم يغادر بيته لأسبوع إلاّ لشراء حاجة ضرورية،تفاجأ بطرقات قوية تكاد تخلع الباب وضجة كبيرة خرج ليرى أفراد من الشرطة تلقي القبض عليه وتنهال عليه ضرباً،في التوقيف بقي شهرين وأعترف بكل شيء لكنهم لم يعثروا على جثة العجوز المزعوم ولا على أداة الجريمة،وأحيلت القضية إلى المحكمة التي أفرجت عنه مؤقتاً لعدم كفاية الأدلة وعدم العثور على أداة الجريمة أو الجثة،وبسبب تقرير لجنة الأطباء التي شكلتها المحكمة للنظر في حالتهِ النفسية،وهدده ضابط التحقيق بعد الإفراج عنه:

     

    -لا تفرح سنعثر على الجثة حتى وإنْ اشتريت واحدة على حسابي الخاص.

     

    بعد أسبوع من إطلاق سراحه عاد في إحدى الليالي متأخراً ليجد العجوز يعترض طريقه، شعرَ برعبٍ حقيقي وتجمدت أطرافه وحاول العودة لكن العجوز ناداه وسأله:-تريد قتلي أليس كذلك؟

     

    وامسك به بقوة شديدة،وهزهُ بعنفٍ وصرخ: -النجدة إنه يريد قتلي.

     

     وخرجت الشرطة من كل مكان وأطلقوا العيارات النارية في الهواء وانهالوا عليه ضرباً وأخذوه معهم وأحيل إلى المحكمة بتهمة الشروع في القتل فحكم عليه بالسجن سبع سنين، ومع أنه أنكر التهمة لكنه لم يهتم بالحكم كثيراً وقال لنفسه:

     

    -الحمد لله إنني لن أرى العجوز ونظراته التي تؤلمني أكثر من أي شيءٍ آخر.

     

    بعد مرور فترة من الزمن على سجنه، دخل العجوز نفسه السجن معه، وشاركه غرفته، لم يعدْ يخاف منه، بقيا أياماً أخرى قبل أن يتكلم العجوز:

     

    -       لكم أنت مسكين وساذج!!!

     

    -       ولمَ؟

     

    -       لأنَّك لم تشك أبداً بأنني مخبر، وأقبضُ أجراً كبيراً.

     

    -       وهل أهملت في واجبك فأرسلوك هنا؟

     

    -       كلا أنا في مهمة وزميلي من نوعٍ جديد، وقد سامحتك على ما فات.

     

    ثم فرَّا من السجن، (فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ.....)

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة عيون

    تعليقات الزوار ()