بتـــــاريخ : 10/12/2008 8:24:26 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1311 0


    سربُ الحمام ممسوخ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبدالكريم يحيى | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة سربُ الحمام ممسوخ

     

    الرياح تحمل الموت إلى اتجاهات شتى، قالت لي: تأتي معي؟ وبغداد تردُّ الأيام أناسها، وكنت امرءاً رفعته فتنةٌ فعلا، أيامها غادراً بالعهد والذمم، كلما وقفتُ أغسل فمي أرى وجهي الجهم القبيح، هو نفسه هو، "ونحنُ أنفسنا نحنُ"، وعيناي تتحرك ببشاعة حقيرة، دمائهم تنضح من بين أسناني المتهرئة، أتمضمضُ بأحشائي من الألم،قرأتُ في مكانٍ ما، أنَّ الجنود المغاربة حرروا باريس من الاحتلال النازي، فإنزال النورماندي ضمَّ 70% من المغاربة الذين كانوا يرزحون تحت نير الاحتلال الفرنسي، أخبرتُ صديقي بما قرأت ففرح، وبشوقٍ كبير كان ينتظر الحرب العالمية الثالثة التي لم تأتِ، فهي الوحيدة القادرة على أن تنقذ مستقبله من هذا الحرج، في زمنٍ، الأرض لم تعد سوى جرح، في بيتي رجلٌ لا يملك إلا الحبر، في ذاك البيت الآخر، لا يوجد بشر لكنه ملآن بأشياء أُخَرْ، وفي البيت الثالث لا يوجد خبز فقط بشرٌ وثرثرة، في تلك الناحية من الشارع تعزف الأباتشي لحن الجاز، والزمنُ هنا يقاس بالدولار، بعد أن قصفوا ساعة المأمون، وشوَّهوا ملوية سُرَّ من رأى، صار اسمها، عَمَيَ من رأى، قطفوا رأس جدهم المنصور، وسرقوا برونز السعدون، رائحة اللحم المتفسخ تقاس بلون الجدار، الذي التصقت به بعد الانفجار، تستمطر رائحة النزيف، قماشة البحر زرقاء، ورغم ذلك فهو يزداد شفافية وعتمة كلما اتجهنا نحو الجبل الذي لن يعصمنا من الماء، لمعت بلون الدم الداكن، البحر يضحك من سذاجة قواربنا الصغيرة، التي انبعثت من السفينة التي كنتُ اختبأ بها، أواه(متى سيعلم السبعة الذين في زورق النجاة أنَّنا ثمانية؟)اتجهوا شمالاً خوفاً من حرس السواحل، الأطفال والنساء ابتلعتهم زرقةُ الصحراء، التي فروا منها، في متوالية فيبوناتشي: الموت1، الموت2، الموت3....، حلٌّ لسرِّ مدينتي.

     

    أخيراً وصلت باريس، وفي أول ليلةٍ لي هناك جرت احتفالات صاخبة، رقصتُ كثيراً وسقطتُ مراتٍ عديدة من شدة إخلاصي للرقص العشوائي، لم أعرف سبب الاحتفال، ثم اخبروني أنَّهم يحتفلون لإحياء ذكرى تصفية النازيين لأربعين من رجال المقاومة في شاتوبريان انتقاما لمقتل ضابط ألماني في باريس، ماذا سيفعلون بي لو علموا أنني كنت السبب في مجزرةٍ أكبر وأبشع، كنتُ السبب في إبادة أكثر من مائة إنسان بينهم أطفال ونساء، عرس ابنة عمي التي رفضني أهلها لأنني مترجم، رغم إنَّها مهنة شريفة، حتى إني في بداية مزاولتي للعمل لم أكن أحمل سلاحاً، بماذا سينفعهم تركي للعمل؟ سيقوم أحد السفراء باستيراد ألف مترجم في يومٍ واحد، ولن يكونوا مثلي ولا بإخلاصي.

     

    الأسبوع الأول لمعَ الدولار تحت قدمي الكولونيل الذي رفع رأسه نحو أقدام المشنوقين، وقهقه ضاحكاً، كانوا أصدقائي لكنني كنتُ أول الضاحكين، الأسبوع الثاني بدأت باغتيال أطفالي، ثم بهدوء وبرود دفنتُ مدينتي، قبلت رأس الجثة(زوجتي/مترجمة) وهاجرت، الأسبوع الرابع محقون بلقاح شلل الأغنياء، نفذت المدخرات سريعاً، كان يَتَسَكَّع في الشوارع باحثاً عن عمل جديد، قال لي صاحب المطعم: أغسل الأرض جيداً، حتى تصير كالمرآة، وبقيتُ أغسل سنوات، لكنَّها أبداً لم تنزع السواد، الخامس كانت البطالة والطرد من العمل أجمل ما في بلاد ما وراء البحار، أمَّا غير ذلك فلا داعي لاستثارة اشمئزازكم.

     

    كان رأسي قد بلغ حجماً كبيراً، أكبر من رأس حصان، أكبر من أنْ يحتمله إنسان، هلاّ من يقطفه. هلاّ من يحمله عني ولو لساعة، الذين يشاركونه نفس الهواء، لم ينتبهوا له، إنَّهم دوماً على عجل، فالزمن هنا يجري بصورةٍ أسرع، ويستغرق طويلاً في أحلام يضحك منها كلُّ من كان في غرفة فرجينيا وولف[1]، كان حجمُ رأسه قد بدأ يزداد منذ أن قاموا بفحصه، كإجراء للقبول في عملٍ جديد، وأجريت له عملية جراحية، لا يدري كم بقيَ على أثرها في المستشفى.

     

    بخار الحزن تساقَطَ مطرا أسود، هرب الجميعُ، تظاهر بالمرح، ورقص تحت المطر، عبق المتعة التي استعارها من الرقص، كان المارة قد فروا، وتجمهروا تحت المطر، ظنَّهم جميعاً ينظرون إليه، تصور فتاةً حسناء أعجبت به وتقترب منه شيئا فشيئا ازداد دورانه حول نفسه، حتى سقطَ على الأرض، انتظر يداً تمتدُّ إليه، رفع رأسه، ليجد أن لا أحد ينتبه إليه، عاشقان عاريان يخرجان من إحدى الزوايا، رائحة العرق من جسده، ذكرته بالجوع الذي عاناه في زورق النجاة، قفز منه إلى البحر وما شعر به أحد، أين النساء الحسناوات؟ أين ذوات العيون الزرقاء؟أين الشقراوات؟  احترقت مدينتي/زوجتي، قالوا لي إنَّ النساء هنا يعطينَ المال للرجل الأسمر القوي، يعشقن الشرقي ذو الشعر المجعد، وها أنا قد أمضيتُ أربع سنين لم أَذق فيها طعم النساء، إلا واحدةً في نهاية السنة الخامسة، بكت وهي ترتدي ثيابها، ظننتها فقيرة، لن تقدر أن تدفع لي ما يليق بي، لكنها قالت بلهجةٍ عربية فصيحة:

     

    - أنا آسفة يا عزيزي لكنني مصابة بفقدان المناعة.

     

    يا لسخرية الأقدار، ضحكت منها كثيراً، لأنَّها أعطتني ما جئتُ من أجله، ليتني أحيا فترةً أطول لأتمكنَّ من نشر هذا الوباء في مدينتي، ليتني أطير، ليتَ لي جناحان.

     

    -ليتكَ تتكلمُ معي فتؤنسني أيها الطائر البائس.

     

    هل سمعتم هذا الصوت الذي يناديني؟ نعم سمعنا. من أين صدر؟ راقب نفسك وستتعلم. بدأت يداه تمتدان، وينمو فيهما ريشٌ أسود، ما هذا نعامة!!! أنا لا أريد أن أكون نعامة، أريدني نسراً أو صقراً، بصق عليه الطائر دماً قذراً كالطمث، وطار مبتعداً.

     

    -      حتى أنت يا بروتوس!!

     

    -      هزَّ رأسهُ: ما هذا لعلني أحلم، هل بصق عليَّ هذا الطائر.

     

    بصق عليه الطائر ثانيةً، وطار مبتعداً.

     

    -اذهب عني أيها القذر الحقير.

     

    ورماه بشيءٍ من القمامة التي كانت قريبة منه بحيث لم يبذل جهداً كبيراً في تناولها وهي تحت يده، لكنَّهُ أخطأ الهدف كما هو حاله في جميع رمياتهِ فطار الطائر مبتعداً، عائداً إلى النافذة التي جاء منها وكانت مغلقة، يستظلَّ بها، أمّا هو فقال متعجباً:

     

    -ما هذا لعلَّني أسرفت في الشراب، لكني لم أشرب غير الماء، لعلني جننت، كنت قررتُ أن لا أُسرِفَ في الفلسفة.

     

    وأَخرجَ من جيبِ معطَفِهِ زجاجة فارغة وتناولَ جُرعةً طويلة:

     

    -يا لهُ من طائرٍ نحسٍ ضَيَّعَ النشوةَ التي كنتُ أَشعُرُ بها، ليتَهُ يعود وسَأضرِبُهُ بحذائي هذا.

     

    حذائه الذي تمردت عليه أصابع قدمهِ، مليء بالثقوب، وبَدا يُلوِّحُ للطائرِ كي يَعود، وتوقف المطرُ شيئاً فشيئاً، وعادَ الطائر إلى قُربِهِ لكن بِحذرٍ شديد، وبقي على مسافةٍ خمسةِ أمتارٍ تقريباً ومن ثم قال لَهُ الطائر:

     

    - يا لَكَ من نفاية لا تختَلِفُ شيئاً عن هذهِ القُمامة التي تجلسُ فيها، وتقتاتُ عليها.

     

    وهنا فكر في أَنْ يَنصُبَ فخاً للطائر، فقالَ بِلُطف :

     

    - اقترب أيُّها المسكين، تعال اقترب.

     

    وحاولَ بِهدوء نزَعَ حِذائهُ لكنّ َحركتُهُ البطيئة فَضَحَتهُ فَبَصقَ الطائرُ في وجهِهِ وطارَ مُبتَعِداً إلى مكانهِ وهو يصيحُ بهِ :

     

    -أَيُّها النذل الغادِر ستبقى أَبدِ الدهرِ في صناديق القُمامة أَيُّها السكير.ولَحِقَهُ بحذائهِ الثقيل ورَماهُ بِهِ لكنَّ الطائر كان قد أبتعد وسَقَطَ حِذائَهُ في شرفة إحدى شقق العمارة التي كانت تنتصبُ أمامهُ،في الطابق الأول،وبَدأَ يسُبُّ الطائرَ وكانَ المطرُ قدْ توقف:

     

    -سأقتُلُكَ أَيُّها.. وَوَقَفَ تحتَ العمارة وهو ينادي الطائر: -سَأقتُلُكَ أَيُّها الوَغد الجبان الـ

     

    -تعال انزل هنا وواجهني..لأنتفَ لك ريشك.. وفُتِحَتْ النافذة التي سقط فيها حِذائَهُ وخرجت

     

    فتاةٌ جميلة، ومعها كلبٌ كبير، إلى الشُرفة لِتَنظُرَ إلى الأسفل، ورمقتهُ بنظرةِ ازدراء وغضب، ومن ثمَّ حملت الفتاة الجميلة الطائر الجريح بلطفٍ، احتضنته بمكر وعادت بهِ إلى داخل شقتها، بعد أن أغلقت النافذة، أمّا هو فهربَ مُسرِعاً وهو يترنَّحُ متمايلاً، ولَمْ يبتَعِد كثيراً حتى أَوقَفَتهُ سيارة الشرطة وترجل منها سربُ غربان، وقيدوهُ وأَخذوهُ مَعَهُمْ، وبَقيَ أُسبوعين في الحجز لِعدَمْ دفعِهِ الكفالة وتعويض الضرر الذي لحق بالفتاة صاحبة الشقة، سلموهُ بَعدَها إلى السفارة العثمانية لِتُعيدَهُ إلى جزيرة قبرص.. أين مصابيحك أيتها السماء؟ ها هي الأرض قد امتلأت ثانيةً بالشياطين، والغربان.

     

     

     


     

     


     

     

     

    [1]كاتبة انكليزية(1882-1941)نشرت كتابها(الغرفة)دراسة في الأدب النسوي، يجب أن تخصص غرفة منفردة للكاتبة وهي تكتب
     
    كلمات مفتاحية  :
    قصة سربُ الحمام ممسوخ

    تعليقات الزوار ()