طـــــــــرد بريــــــــدي
في المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه متأملاً بعض الصور التي التقطها في الصيف الماضي ، طالما وقف هنا يجتر الذكريات ، من هذا المرتفع البسيط ظل يرقب المارة ، صور مكررة لوجوه مل النظر إليها ، نفس الأشباح التي تغدو وتجيء ، الأبواق المزعجة تعود كصدى تدق في رأسه آخر مسامير الملل ، وهن ذات النساء البدينات اللاتي يترجرجن يمنة ويسرة كبالون ملئت بالماء ، أكوام النفايات فقط توحي بالجديد كل يوم ، حتى اليوم صورة طبق الأصل من الأمس ، حيث لا وشاية تذيب هذه الرتابة ، مل حتى النظر إلى صندوقه البريدي ، منذ مدة وهو مطبق فمه على الخواء ،جدد دفع رسومه للمرة الثالثة بلا جدوى ، كانت لا تصل إليه سوى فواتير الشركات الخدمية، صب جم غضبه على موظفي البريد ، وصمهم بالخيانة وغياب الضمير ، كيف أن رسائل أصدقائه تكاد تكون يومية ، ولا تكف صناديقهم عن الحديث ، لماذا ظل صندوقه أخرساً طوال هذه المدة ، لكنه أخيراً نطق ! ظرف بريدي يبدو أنه من مكتب البريد ، هل هو إشعار جديد ؟ فض المظروف وتأكد بأن هناك طرداً بريدياً يخصه وعليه مراجعة مكتب الحي ، طوال مسافة الطريق وهو يحدث نفسه عن هذا الطرد ، ليس ثمة ما يؤكد توجه طرداً إليه ، ربما أخطا الطريق كما ظلت الرسائل تطيش عن صندوقه دائماً ، كان أول طرد بريدي في حياته ، يذكر تماماً بأنه لم يتلق أي رسالة بهذا الحجم ، قرأ العنوان وتذكر آخر زيارة قام بها إلى ذلك القطر العربي الجميل ، فتح الصندوق ليفاجأ بدمية (دب ) ، علقت بعنقه قلادة على شكل قلب أحمر كتب عليه (Happy Valentine's Day)، خجل أن يستعين بأحد الموظفين ليفسر له معنى تلك العبارة ، وهو المتحذلق دوماً بنثر بعضاً من كلمات هذه اللغة واستخدامها حتى فيما لا يتناسب مع الزمان أو المكان ، صورة أحد الزعماء العرب المدموغة على طابعها أكدت له جهة القدوم ، غير أنه بات في حيرة من أمر هذه الحروف ، وما لذي يرمز له هذا الدب ؟ هل كانت تسخر منه هذه الرسالة ؟ ما لذي يمكن أن يربط بين القلب والدمية ؟ لا يذكر أبداً أنه حين كان هناك تمنى دباً ، هل كانت إشارة عن شكله البدين ؟ ربما أراد هذا البغيض أو البغيضة أن يسخر منه ، وهو الذي كان معتداً برجولته ولم يكن يخشى أضواء الغرف الخافتة ، زاد ضجره وتسربت إلي داخله شكوك حيال مقصد هذا المرسل ، وقف أمام مرآته يحملق في ذلك الماثل أمامه، وأخذ يردد.. دب .. دب .. - هل كان هو المعني بهذا المسخ الصامت ، امتلأ غيضاً رفع عن قلمه الغطاء ليحرر رداً على تلك الرسالة ، وشكا فيها أنه مهما يكن من أمر هذا الدب وتلك الكلمات فإنه لن يقبل بتكرار مثل ذلك ، ولن يكون في هذا العمر ممتناً وسعيداً للاحتفاء بتلك اللعبة ، أنتظر أسبوعين كاملين يترقب ، كان له ذلك ، وصلت رسالة تحمل نفس العنوان السابق ، ظرف جميل وخفيف ، فتح الرسالة ولم يجد سوى خمس كلمات قرأها بغيظ أكبر : بكل أسـف أنـت فعـــلاً دب .