المدينة تتلقى أنباء النصر
ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بشيرين إلى أهل المدينة ، ليعجل لهم البشرى ، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية ، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة.
وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة ، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ .
فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيرًا، وتقدم رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الفتح المبين.
قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خلفنى عليها مع عثمان.
الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة
أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام ، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم ، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بأن يرد الجميع ما بأيديهم ، ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة .
عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم)، فشهدت معه بدرًا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، لا يصيب العدو منه غِرَّة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها ، وليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم أحق بها منا ، نحـن نحـينا منـها العـدو وهزمناه ، وقال الذين أحدقوا برسول الله(صلى الله عليه وسلم) : خفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به، فأنزل الله: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين " [ الأنفال :1 ] . فقسمها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بين المسلمين.
رواه الترمذي (1561) وحسنه ووافقه الألباني
وبعد أن أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين ، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين ، وجعل عليه عبد الله بن كعب ، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة ، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس .
وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر ، وكان من أكابر مجرمي قريش ، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام وإيذاء لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب .
ولمـا وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فهو الذي كان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو في الصلاة ، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه ـ فلما أمر بقتله قال : من للصِّبْيَةِ يا محمد ؟ قال : ( النار ) . فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى ، ويقال : علي بن أبي طالب .
وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما ، فلم يكونا من الأسارى فحسب ، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث .
وفود التهنئة
ولما وصل إلى الرَّوْحَاء لقيه رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح. وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة: ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها ، فتبسم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال : ( يا بن أخي ، أولئك الملأ ).
أخرجه الهيثمي في المجمع (10/23،24) وقال : رواه الطبراني وفيه حسين السلولي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات .
وقال أسيد بن حضير : يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظفرك ، وأقر عينك ، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا ، ولكن ظننت أنها عير ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : (صدقت).
ثم دخل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا .
وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم ، فقسمهم على أصحابه ، وأوصى بهم خيرًا . فكان الصحابة يأكلون التمر ، ويقدمون لأسرائهم الخبز ، عملاً بوصية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .
قضية الأسارى
ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا.
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ما ترى يا ابن الخطاب ) ؟ قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين ، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء: فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) ـ شجرة قريبة.
وأنزل الله تعالى: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [الأنفال:67، 68]. رواه مسلم (1383)
والكتاب الذي سبق من الله قيل: هو قوله تعالى: " فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء " [محمد: 4]. ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وقيل: بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر.
وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء.
ومنّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم: المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى، وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي.
ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: ( كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فتصحباها )، _رواه أبو داود (2692) وحسنه الألباني _ فخرجا حتى رجعا بها. وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جدًا.
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر: يا رسول الله ، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رفض هذا الطلب ، احترازًا عن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة.
وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
القرآن يتحدث حول المعركة
وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة ، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح .
إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أولًا ـ إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم ، ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات.
ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين . ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم ، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء ، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام .
ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول(صلى الله عليه وسلم) لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك .
ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والتقيد به .
ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم ، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة .
ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة ، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية ، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل ، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها .
ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها ، والذين يسكنون خارجها.
وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان ، وفرضت زكاة الفطر ، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى ، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض .
ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر. فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا: " وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " [الأنفال:26].