|
غزوة بني المصلق أو غزوة المريسيع ( في شعبان سنة 6 هـ )
دور المنافقين في الغزوة (حديث الإفك)
|
|
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى :"لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ " [التوبة: 47]فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر ، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين ، والدعاية الشنيعة ضد النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وهاك بعض التفصيل عنها :
** قول المنافقين : [ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ] :
كان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع ، ووردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له : جَهْجَاه الغفاري ، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة"، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه ، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال : أو قد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر ، فأخبر عمه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعنده عمر ، فقال عمر : مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله . فقال : ( فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل ) ، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها ، فارتحل الناس ، فلقيه أسيد بن حضير فحياه ، وقال : لقد رحت في ساعة منكرة ؟ فقال له : ( أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ ) يريد ابن أبي ، فقال: وما قال ؟ قال : ( زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) ، قال : فأنت يا رسول الله ، تخرجه منها إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز ، ثم قال : يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه ، فإنه يري أنك استلبته ملكاً .
ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً . فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث .
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وحلف بالله ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به ، فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل . فصدقه ، قال زيد : فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط ، فجلست في بيتي ، فأنزل الله : " إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ " إلى قوله: " هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا" إلى لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ [ المنافقون: 1 ـ 8 ] ،فأرسل إليّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقرأها عليّ . ثم قال :( إن الله قد صدقك ) .
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار ، فتبرأ من أبيه ، ووقف له على باب المدينة ، واستل سيفه ، فلما جاء ابن أبي قال له : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول(صلى الله عليه وسلم) ، فإنه العزيز وأنت الذليل ، فلما جاء النبي(صلى الله عليه وسلم) أذن له فخلي سبيله ، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي : يا رسول الله ، إن أردت قتله فمرني بذلك ، فأنا والله أحمل إليك رأسه .
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك ، وملخصها : أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها ، وكانت تلك عادته مع نسائه ، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل ، فخرجت عائشة لحاجتها ، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه ، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها ، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خِفَّتَه ، لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها ، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته ، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال ، فرجعت عائشة إلى منازلهم ، وقد أصابت العقد ، فإذا ليس به داع ولا مجيب ، فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها ، والله غالب على أمره ، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء ، فغلبتها عيناها ، فنامت ، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، زوجة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ؟ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش ، لأنه كان كثير النوم ، فلما رآها عرفها ، وكان يراها قبل نزول الحجاب ، فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها ، وما كلمها كلمة واحدة ، ولم تسمع منه إلا استرجاعه ، ثم سار بها يقودها ، حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته ، وما يليق به ، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً ، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه ، فجعل يستحكي الإفك ، ويستوشيه ، ويشيعه ، ويذيعه ، ويجمعه ويفرقه ، وكان أصحابه يتقربون به إليه ، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) ساكت لا يتكلم ، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها ، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ، ويأخذ غيرها ، تلويحاً لا تصريحاً ، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فقام على المنبر يستعذ من عبد الله ابن أبي ، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج ، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية ، فجرى بينهما كلام تثاور له الحيان ، فخفضهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى سكتوا وسكت .
أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً ، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئاً ، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي ، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً ، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها ، فدعت على ابنها ، فاستنكرت ذلك عائشة منها ، فأخبرتها الخبر ، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، لتأتي أبويها وتستيقن الخبر ، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر ، فجعلت تبكي ، فبكت ليلتين ويوماً ، لم تكن تكتحل بنوم ، ولا يرقأ لها دمع ، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها ، وجاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في ذلك ، فتشهد وقال : " أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ".
وحينئذ قَلَص دمعها ، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا ، فلم يدريا ما يقولان . فقالت : والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم ، وصدقتم به ، فلئن قلت لكم : إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي ، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف ، قال : " فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ " [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت ، ونزل الوحي ساعته ، فَسُرِّي عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو يضحك . فكانت أول كلمة تكلم بها :" يا عائشة، أما الله فقد برأك " ،فقالت لها أمها : قومي إليه .. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها ، وثقة بمحبة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله .
والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ " [ النور: 11: 20] . العشر الآيات .
وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحَمْنَة بنت جحش ، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك ، والذي تولى كبره ، إما لأن الحدود تخفيف لأهلها ، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله .
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة ، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك ، قال ابن إسحاق : وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه . فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لعمر:" كيف ترى يا عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لأرعدت له أُنُف ، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ". قال عمر: قد والله علمتُ ، لأمْر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أعظم بركة من أمري .