أبو بكر وعمر والمقدار وسعد بن معاذ وكلما تهم في الجهاد
· قال محمد بن إسحاق رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس ـ كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر ـ قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس , فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حرباً , وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان : أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري , فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم , ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال ه "" ذفران" فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش , فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، أمض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى " برك الغماد " لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا على أيها الناس ـ وإنما يريد الأنصار ـ وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يارسول الله ، إنابرآء من ذمامك حتى نصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسر بهم إلى عدو من بلادهم .
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟قال : أجل فقال : فقال : فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يختلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ؛ إن لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم .
هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله. وله شواهد من وجوه كثيرة .
· فمن ذلك ما رواه البخاري عن طارق بن شهاب ، قال سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسواد مشهداً لأن أكون صاحبة أحب إلى مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين . فقال : لا نقول كما قال قوم موسى لموسى : أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون . ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك . فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره .
· روى أحمد ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان ، قال : فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه ، فقال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها ، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا . فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس .
قال : فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان واصحابه فيقول : مالي علم بأبي سفيان ، ولكن هذا ابو جهل بن هشام وعتبه بن ربيعة وأمية بن خلف . فإذا قال ذلك ضربوه ، فإذا ضربوه . قال : نعم ، أنا أخبركم ، هذا أبو سفيان ، . فإذا تركوه فسألوه قال : مالي بأبي سفيان علم ، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية . فإذا قال هذا أيضاً ضربوه .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، فلما رأى ذلك انصرف فقال : والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذاكذبكم .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مصرع فلان ، يضع يده على الأرض هاهنا وها هنا ، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
غريب القصة :
ـ ذفران : واد بقرب المدينة ، والذفر كل ريح نفاذة من طيب أو نتن .
ـ برك الغماد : موضع خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن .
ـ خضناه : يعني الخيل أي لو أمرتنا بإدخال خيولنا في البحر وتمشيتنا إياها فيه لفعلنا .
ـ نضرب أكبادها : كناية عن ركضها ، فإن الفارس إذا أراد ركض مركوبه يحرك رجليه من جانبيه ضاربا على موضع كبده . ( حاشية مسلم / عبد الباقي ) .
ـ روايا قريش : الإبل كانوا يستسقون عليها .
ـ انصرف : أي سلم وفرغ من صلاته .
ـ أماط : أي بعد .
الفوائد والعبر :
1- استيثاق الرسول من أمر الأنصار ، لأن الذين تكلموا كانوا من المهاجرين وهم أقلية في الجيش قال النووي (12/124) : " قال العلماء إنما قصد صلى الله عليه وسلم أختبار الانصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقون على ذلك فأجابوه أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها ، وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة .
2- استشارة الرسول عليه السلام لأصحابه مرتين يفيد التعرف على الإمكانيات ، وليستن به من بعده ، ولتطيب به قلوبهم قال ابن الجوزي من فوائد المشاورة أن المشاور إلا لم ينجح أمره ؛ علم أن امتناع النجاح محض قدر؛ فلم يلم نفسه .
ومنها : أنه قد يعزم على أمر يتبين له الصواب في قول غيره ، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح ( انظر شرح ثلاثيات مسند أحم للسفاريني 1 / 682 ) .
3- جواز ضرب الأسير الكافر إذا كان في ضربه طائل ( قاله الخطابي ) .
وقال أبو داود : باب في الأسير ينال منه ويضرب ويقرر .
4- الكلمات القوية الصادقة تبعث في الجيش الحماس .
5- من فضائل أبي بكر وعمر والمقداد وسعد رضي الله عنهم أجمعين .
6- فضل الأنصار رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين .
7-جواز التعريض بالكلام لمعرفة رأي الآخرين .
8- فطنة سعد بن معاذ رضي الله عنه .
9- بشارة الرسول للصحابة دليل على أن القوة المعنوية من أكبر رسائل النصر .
10 – الغبطة على المواقف البطولية بيان لتسابق الصحبة على الخبر .
11- خور قوم موسى وشناعة قولهن وردهم القبيح دليل على أن قولهم وفعلهم من الكبائر العظيمة الموجبة للفسق ، ( انظر تيسير الكريم للسعدي 2 / 277) .
12- جواب المقداد رضي الله عنه بيان أنه عالم بأخبار المرسلين .
13- تحديد مصارع القوم من دلائل معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
قال النووي (12/126) : " وفيه معجزتان من أعلام النبوة إحداهما اخباره صلى الله عليه وسلم بمصرع جبابرتهم فلم ينفذ أحد مصرعه ؛ الثانية اخباره صلى الله عليه وسلم بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه ، وكان كذلك في نفس الأمر ، والله أعلم " .