بتـــــاريخ : 10/8/2008 7:00:53 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1181 0


    الهجرة - الهجرة في مواطن كثيرة

    الناقل : heba | العمر :43 | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم

     

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات   القربات .

    أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وقد وصلنا في دروس سابقة بعد بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية إلى الهجرة ، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة .

    مفهومات الهجرة في الإسلام

     

    المفهوم الأول : الهجرة حركة

    بادئ ذي بدء ، الهجرة حركة ، وليست سكوناً ، لذلك الإسلام حركي ، وليس الإسلام سكونياً ، أي أنك استمعت ، وأعجبت ، وأثنيت ، ومدحت ، وقدرت ، وأكبرت ، ولم تفعل شيئاً فأنت لست على شيء .

    ( سورة المائدة الآية : 68 ) .

    ويا أيها المسلمون ، لستم على شيء حتى تقيموا أحكام القرآن في حياتكم ، الإسلام حركة ، سلوك ، التزام ، عطاء ، صلة ، مجاهدة ، فإذا بقي الإنسان معجباً بالإسلام إعجاباً نظرياً ، أو إعجاباً سكونياً ، أو إعجاباً لا يسبر عملاً ، هذا فالإنسان أبعد شيء عن حقيقة هذا الدين .

    كان من الممكن أن يستمر الإسلام في مكة المكرمة بترتيب إلهي ، أن يخضع أهل مكة إلى النبي ، ويبقى النبي في مكة ، ولكن لماذا شاءت حكمة الله أن تشتد المعارضة في مكة ، وأن يبالغ القرشيون في التنكيل بأصحاب النبي ، وأن يبدو الطريق مسدوداً للدعوة في مكة ، عندها كانت الهجرة .

    هذا الدرس بليغ ، ما لم تتحرك ، ما لم تلتزم ، لك حرفة لا ترضي الله ينبغي أن تتركها ، لك سلوك لا يرضي الله ينبغي أن تتوب منه ، لك علاقة مشبوهة ينبغي أن تقطعها ، اعتقدت أن العلاقة مع هذا الإنسان تنفعك مع الله ينبغي أن تقيمها ، أما أن تبقى ساكناً ، وهذا من أصعب ما يواجه المسلمون به اليوم أعداءهم ، سكون ، انتظار ، ماذا يفعل بنا ؟ دون حركة ، دون سعي ، دون تفكير في المستقيل ، لذلك المفهوم الأول للهجرة يعني الحركة  ، المسلم كائن متحرك ، وليس كائناً ساكناً ، والإنسان يميل إلى السكون ، والقعود ، والاستسلام  ويندب حظه ، ويندب أعداءه ، ويندب الظروف الصعبة التي يمر بها ، ليس هذا من الإسلام في شيء .

    النبي عليه الصلاة والسلام واجه أعتى أنواع الظلم ، والكفر ، والاضطهاد ، والتنكيل أصحابه يعذبون أمامه ، ولا يملك شيئاً ، يقول : صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة .

    المفهوم الثاني : هجرة المعاصي

     

    أيها الإخوة ، أوسع معنى للهجرة أنها حركة ، والإسلام حركة ، وفي معنى واسع آخر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فقال :

    (( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )) .

    [ رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو ] .

    أنت مهاجر ، بعد ما أُغلق باب الهجرة من مكة إلى المدينة هو في الحقيقة مفتوح بين كل مدينتين يشبهان مكة والمدينة ، أما الهجرة بالذات من مكة إلى المدينة فأُغلق بابها ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :

    (( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ )) .

    [ متفق عليه عن ابن عباس] .

     

    لكن بين أيّ مدينتين تشبهان مكة والمدينة الهجرة قائمة بينهما .

    المعنى الثاني الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام الذي يوسع معنى الهجرة الضيق :

    (( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )) .

    تركت هذه الحرفة التي بُنيت على معصية ، فأنت مهاجر تركت هذه السهرة التي فيها اختلاط فأنت مهاجر ، تركت هذه العلاقة التجارية التي فيها شبهة فأنت مهاجر  تركت إيداع المال في مؤسسة ربوية ، وأخذت رأس مالك فأنت مهاجر

    (( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )) .

    أعطى النبي عليه الصلاة والسلام مفهوماً ثالثاً للهجرة ، الأول حركة :

    ( سورة الأنفال الآية : 72 ) .

    أول مفهوم حركي .

    المفهوم الثاني : أن تترك ما نهى الله عنه فأنت مهاجر  .

    المفهوم الثالث : هجرة المعاصي

    عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

    (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .

    [ رَوَاهُ مُسلِم عن معقل بن يسار رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ] .

    أي في زمن الفتن ، في زمن النساء الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، في زمن الفضائيات ، في زمن الإنترنت ، في زمن أن يعم الفسق والفجور أهل الأرض ، في زمن أن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، في زمن لا يأمر الناس فيه بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، في زمن أن يأمر الناس بالمنكر ، وينهون عن المعروف ، في زمن أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، في زمن أن تضيع الأمانة ، وأن يكذب الصادق ، وأن يصدق الكاذب ، وأن :

    (( يكون الولد غيظا ، والمطر قيظا ، وتفيض اللئام فيضا ، وتغيض الكرام غيضا )) .

    [رواه الخرائطي من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن مسعود ] .

    في زمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغيّر ، إن تكلم قتلوه ، وإن سكت استباحوه ، في زمن موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ؟ المقتول فيمَ قُتل ، تطهير عرقي ، في زمن التناقضات ، في زمن أن تحتقر الأَمَة ربّتها التي ربّتها ، تقول : أمي دقة قديمة ، هي مثقفة ، في زمن أن يوسد الأمر لغير أهله ، في زمن أن ترتكب المعصية على قارعة الطريق ، في زمن أن يكون الفجار هم علية القوم ، في هذا الزمن :

    (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .

    إذا عبدت الله في زمن الفتن ، في زمن أن يمس الناس غبار الربا ، في زمن أن يُكذب الصادق ، ويصدق الكاذب ، فهذه العبادة بنص الحديث الصحيح القدس :

    (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .

    أول مفهوم : الحركة .

    المفهوم الثاني : أن تدع ما نهى الله عنه .

    المفهوم الثالث : أن تعبد الله في زمن الفتن

     

    توقيت الهجرة بالمفهوم العام

     

    ولكن متى ينبغي أن تهاجر ؟ ومتى ينبغي ألا تهاجر ، أنا أتكلم عن الهجرة بالمفهوم الواسع .

    أضرب مثلاً : أُرسلتَ ببعثة إلى بلد غربي لتنال الدكتوراه ، من جامعة بالذات ، إذا مُنعت من دخول هذه الجامعة ، وقرار إيفادك ينص على هذه الجامعة ، ولم يسمح لك بالانتساب إلى هذه الجامعة أيعقل أن تبقى في هذا البلد ؟ الجواب : لا ، علة وجودي الوحيدة في هذا البلد أن أنتسب لهذه الجامعة ، وأن أنال الدكتوراه ، فإذا مُنعت من أن أنتسب إليها فلا معنى للبقاء في هذا البلد ، هذا المثل .

    التطبيق : هل يعلم الأخ المؤمن ما علة وجوده في الأرض ؟ أن يعبد الله .

    ( سورة الذاريات ) .

    سبب الهجرة العامة ودليلها

     

    أن يعبد الله بالمفهوم الواسع ، طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، فإذا كنت في مكان ، وحيل بينك وبين أن تعبد الله ، وحيل بينك وبين أن تحقق علة وجودك في هذا المكان ، هل تبقى في هذا المكان ؟ إن كان في الإمكان أن تعبد الله في مكان فابقَ فيه ، وإذا كان في الإمكان أن تصلح هذا المكان ليتاح أن تعبد الله فيه فابقَ في هذا المكان ، أما إذا مُنعت أن تعبد الله ، وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المكان فعليك أن تغادر هذا المكان إلى مكان تعبد الله فيه ، هذا كلام ، ما الدليل ؟ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، الدليل :

    ( سورة النساء الآية : 97 ) .

    معنى الاستضعاف في الأرض

     

    المعنى الأول : عدم الاستطاعة لعبادة الله

    ما معنى مستضعفين ؟ أي لا نستطيع أن نفعل شيئاً وفق اختيارنا ، لا نستطيع أن نعبد الله ، لا نستطيع أن نؤدي شعائر الإسلام ، لا نستطيع أن نصلي ، لا نستطيع أن نحجب نساءنا ، لا نستطيع أن نفعل شيئاً يرضي ربنا ، ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ ، يعني كان الذي يتولى الأمر يمنع الناس أن يحققوا شعائر دينهم .

    المعنى الثاني : الضعف أمام الشهوات

    هناك معنى آخر : ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ ، أي : ضعفنا في مكان ما أمام الشهوات ، أمامي كأس من الماء شربت من رشفة ، قلت : هذا العمل في بلاد المسلمين بمَ يقيم ؟ هل يعدّ الذي شرب الماء قد ارتكب منكراً ؟ لا يعد منكرا أبداً ، هذا الماء ماء عذب زلال أنزل الله من السماء ، فاختزن في الأرض ، وظهر ينبوع ، وشربنا منه ، والناس شركاء في ثلاث ، في الماء ، والإنسان خلق فيه ، أو خلقت فيه حاجة إلى الماء .

    أقسمت إلى أحد الإخوة الكرام البارحة أن الزنا في بلاد الغرب كشربة الماء تماماً ، ويستحيل أن تجد فتاة عذراء هناك ، بل إن الفتاة العذراء متهمة في عقلها ، فإذا كان الإنسان في بلد كهذا البلد المعاصي ترتكب على قارعة الطريق ، وفي الحدائق ، وأمام الناس ، ترتكب الفاحشة العظمى في الطريق فليهاجر .

    كنت أضرب على هذا بعض الأمثلة :

    إن شاباً أعجبته فتاة هناك فاستأذن والده بالزواج منها ، والأب كان زير نساء ، هذا مصطلح معروف ، قال : لا يا بني ، إنها أختك ، وأمك لا تدري ، فأحجم عنها ، ثم أعجبته فتاة ثانية ، فاستأذن والده ، قال : لا يا بني ، إنها أختك أيضاً ، وأمك لا تدري ، أعجبته فتاة ثالثة ، فقال : لا يا بني ، إنها أختك أيضاً ، وأمك لا تدري ، هذا الشاب ضجر فأخبر والدته ، قالت له : خذ أين شئت ، فأنت لست ابنه ، وهو لا يدري ، هكذا .

    فإذا كنت في هذا البلد ، في بلد غربي ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق وضعفت أمام شهوتك ، هذا الضعف من نوع آخر ، هناك ضعف قمع ، وضعف غلبة ، غلبتك شهوتك ، فإذا كنت في بلد ضعفت أمام شهواتك ، ولأن الشهوات مستعرة ، وسبلها ميسرة أيضاً فهاجر من هذا البلد ، متى أهاجر ؟ إذا كنت مستضعفاً .

     

    الترغيب في سكنى بلاد الشام

     

    الاستضعاف الأول : أن أُمنع من تأدية شعائر الإسلام ، نحن في فضل كبير ، والحق يقال : المساجد ممتلئة ، وعامرة بالمصلين ، ولك أن تفعل كل ما يأمرك به الدين ، ولك أن تحجب فتياتك ، ونساءك .

    نحن في بلد تكلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ عَمْرِ بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

    (( بَيْنَا أَنَا فِي مَنَامِي أَتَتْنِي الْمَلَائِكَةُ ، فَحَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي ، فَعَمَدَتْ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا ، فَالْإِيمَانُ حَيْثُ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ )) .

    [أحمد]

    (( طوبى لمن له فيها مربض شاة )) .

    كحجم هذه الطاولة ، (( طوبى لمن له فيها مربض شاة ، الداخل إليها فبرضائي ، والخارج منها بسخطي )) .

    [ورد في الأثر]

    هناك أحاديث صحيحة في الترغيب والترهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فضل السكنى بالشام ، ذكرت هذا من أجل أهمس من آذان من اغتربوا ، وأقاموا في بلاد الغرب ، وضعفوا أمام أولادهم ، حيث لا تستطيع إذا رأيت مع ابنتك في غرفتها الخاصة شاباً في فراشها ، إذا غضبتَ فأنت لست حضارياً ، أنت لست مهذباً ، لأن هذا الذي ينام معها جاء بطلب منها ، هو مدعو ، وأنت إنسان همجي حينما ترى ابنتك تحتضن شاباً في غرفتها أو هي في المدرسة فتنهاها عن ذلك ، لذلك تؤخذ إلى دوائر الشرطة كي توقع تعهداً ألا تغضب مرة ثانية إذا رأيت شاباً مع ابنتك ، في مثل هذه البلاد لا يعاش فيها ، لذلك :

    (( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة )) .

    [ رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن جرير ] .

    لي طالب أقام في بلد بعيد ادعت زوجته التي هي حلاله ، أنه التقى بها وهي ليست راضية فحُكم عليه بسنتين سجنا ، هذا اسمه بالقانون الغربي اغتصاب الزوجة ، زوجته وهو بحاجة إليها حلاله ، (( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة )) ، لأن عندهم الزواج عقد بين شخصين ، لا بين ذكر وأنثى ، قد يكون العقد بين رجلين ، أو بين امرأتين ، أو بين رجل وامرأة  ، والإجهاض مسموح به ، والزوجة ليست مطالبة أن تتابع زوجها ، لها أن تسكن في مكان آخر ، وهذا حديث يطول عن مؤتمر السكان ، وعن توصيات مؤتمر السكان ، وعما يفرض على العالم الإسلامي من إباحيات مؤتمر السكان .

    ( سورة النساء الآية : 97 ) .

    ﴿ فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ ، كم نوعًا من الضعف ؟ ضعف قمع ، وضعف غلبة شهوة ، فمثل هاتين الحالتين إذا كنت ترجو الله والدار الآخرة ينبغي أن تهاجر إلى بلاد المسلمين ، إلى بلاد تؤدي فيه الصلوات بحرية ، إلى بلاد تستطيع أن تحجب بناتك .

    أيها الإخوة الكرام ، هذه علة الهجرة ، لكن المشكلة أن هؤلاء المسلمين الذين أقاموا في بلاد الغرب وجدوا الحياة هناك طرية ، والعيش رغيداً ، والحاجات موفرة ، وفي حريات ، وفي إباحية والإنسان فيما يبدو له حقوق كثيرة جداً محققة هناك ، فآثروا دنياهم على أخرتهم ، لذلك لا توازن بين دولة متقدمة جداً ، وبين بلد إسلامي متخلف ، وازن بين الدنيا والآخرة .

    في رمضان كنت مدعواً إلى طعام الإفطار فجلس إلى جانبي رجل عرّفني عن نفسه بأنه رائد فضائي سوري ، ركب مركبة فضائية وصل إلى منطقة انعدام الوزن بين الأرض والقمر ، قلت له : هذا الجنين الذي في بطن أمه حجمه بعد أن يبلغ الابن تسعة أشهر 750 سم مكعبًا ، وهو جالس في مكان مرتاحًا ، هناك سائل أمينوسي ، يحقق له الدفء والراحة  ، طعامه وافر ، ليس عنده مشكلة ، حينما يعلم أنه سيخرج يتألم أشد الألم ، لكن غاب عنه أنه سيخرج من ضيق الرحم ، إلى سعة الدنيا ، سوريا وحدها فيها ساحل ، وفيها شمال ، وفيها جنوب ، وفيها شرق ، وفيها بادية ، أليس كذلك ؟ وفي بلاد أوربا ، وفي بلاد أمريكا ، وفي بلاد آسيا ، إفريقيا ، أقينوسيا ، استراليا ، وفي ريادة فضاء .

    في الأثر : " ينتقل المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا " .

    فهذا الذي آثر الدنيا ما عرف الآخرة ، وقد خسر أكبر خسارة :

    ( سورة الزمر الآية : 15 ) .

    أعظم خسارة تتحقق أن تخسر الآخرة ، فهذا الذي آثر الدنيا على الآخرة ما عرف قيمة الآخرة ، لذلك يقول :

    ( سورة الفجر ) .

    فهذا الذي استمرأ الحياة في بلاد يعصى الله فيها على قارعة الطريق ، ويضعف الإنسان أمام شهواته هناك ، هذا الذي فعل ذلك خسر الآخرة ، فلذلك الهجرة جزء لا يتجزأ من الدين .

     

    مفهومات الهجرة الضيقة وتطبيقاتها

     

     

    أيها الإخوة ، لو وصلنا إلى مفهوماتها الضيقة : قد تكون في حرفة لا ترضي الله يقتضي مفهوم الهجرة أن تدعها إلى حرفة ترضي الله .

    حدثني أخ قال لي : في رمضان الماضي وأنا راكب مركبتي متجهًا إلى أحد المساجد لأداء صلاة التراويح ، استوقفه شرطي لمخالفة ، قال لي : أعطيته خمسين ليرة فرفضها ، توهمت أنه لم تعجبه ، أعطيته مئة ليرة ، قال له : لا تحاول ، أنا تائب إلى الله ، ولن آخذ منك قرشاً واحداً ، قال له : انظر إلى يدي ، أنا أنقل الرمل مساء لئلا آخذ درهماً حراماً ، هذا الشرطي مهاجر ، أليس كذلك ؟ والقصة لها تتمة رائعة ، فهذا الإنسان عنده معمل ألبسة درجة أولى أعجب بتوبة هذا الشرطي فأخذه إلى معمله وكسا أهله جميعاً بأحدث الألبسة ، هذا شرطي مهاجر .

    لما تنتقل فجأة في وضع فيه معصية إلى وضع في طاعة فأنت مهاجر عند الله ،  سهرة لا ترضي الله ، فيها لعب نرد ، وفيها غناء ، فيها مقاهٍ ، فيها نساء كاسيات عاريات ، والسهرة عمرها عشر سنوات ، بعد أن عرفت الله أنا أعتذر ، أنا لا أجلس في مثل هذه الجلسات ، أنت مهاجر .

    لك حرفة مبنية على معصية غيّرها .

     حدثني أخ قال لي : عندي مطعم ، من خمس وعشرين سنة مسموح  فيه الخمر ، قال لي : والله أرباحي فلكية ، أنا متعاقد مع 18 شركة أجنبية ، والأسعار عشرة أمثال ، لكن فيه خمر ، تاب إلى الله ، بعد أن تاب إلى الله هبط الدخل إلى واحد من عشرين ، لأن 18 شركة ألغوا العقد معه باعتبار إلغاء الخمر ، لأنهم أجانب ، صاحب هذا المطعم ما تصنيفه عند الله ؟ مهاجر ، هذا هجر المنكر .

    امرأة سافرة ، ولها مكانة اجتماعية ، فلما عرفت أن الحجاب جزء من الدين  تحجبت ، وقطعت كل علاقاتها مع من كنّ على شاكلتها فهي مهاجرة ، (( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه )) ، إنْ ثيابك ، أو في بيتك ، أو في علاقاتك ، أو في حرفتك ، أو في عملك .

    قال لي أخ : أنا منعَم عليّ والحمد لله ، وأسافر دائماً بالدرجة الأولى ، أنا مرة دعيتُ لمؤتمر ، طبعاً الداعي أمير بالخليج ، بالدرجة الأولى ، قرأت بطاقة الطائرة 50 ألفًا ، 25 ألفًا زيادة على الضعف ، يضعون معطفك في مكان ، هناك كأس عصير ، وهناك بعض المجلات الزائدة ، وثمة أخوان لنا كرماء ، بعد أن عرفوا الله ألغوا الدرجة الأولى من حياتهم ، لأن الزيادة في هذا المال الفقراء أولى بها ، السفر كله ساعة مثلاً أو ساعتين فأوقف الدرجة الأولى ، هذا مهاجر ، اركب طائرة ولا مانع ، وحقق أعمالك ، لكن لا داعي أن تدفع الضعف من أجل أشياء بسيطة جداً ، والناس في أمسّ الحاجة لهذا المبلغ .

    لو أردت أن أسرد عليكم أنواع من الهجرة لا تعد ولا تحصى ، لمجرد أن تنتقل من موقع إلى موقع ، من حرفة إلى حرفة ، من علاقة إلى علاقة ، من نمط إلى نمط ، من سلوك إلى سلوك ، من مكان إلى مكان .

    أحد الإخوة الكرام حج بيت الله الحرام ، لشدة ما امتن الله عليه بحالة مسعدة عاهد الله ألا يغادر بلده إلا إلى الحرمين الشريفين ، هذا أيضاً مهاجر ، (( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )) .

    أردت بهذا الدرس أيها الإخوة أن يكون حول مفهومات الهجرة ، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة .

    لماذا اختار سيدنا عمر رضي الله عنه التأريخ الهجري ليبدأ من هجرة النبي ؟ الهجرة حركة ، لذلك أعيد عليكم هذه الآية :

    ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ .

    الضعف نوعان : ضعف قمع ، وضعف خضوع للشهوة .

    ﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ ، هل هناك وعيد أشد من هذا الوعيد ؟ .

    كنت في مؤتمر في لوس أنجلوس ، وعقب إلقاء المحاضرة قالت لي امرأة محجبة هذه الكلمة ، قالت لي : أنا فلانة أخت فلان ، فلان صديقي الحميم في الشام ، قلت لها : أهلاً وسهلاً فبكت فوراً ، خير إن شاء الله ، قالت لي : ابني ملحد ، وابنتي راقصة ، هذا ثمن الإقامة هناك .

    ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ ، لذلك الوعيد ، ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ .

    أيها الإخوة الكرام ، قضية الهجرة تدخل في حياتنا اليومية ، في بعض الحرف التي لا ترضي الله ، في بعض البيوت في أمكان لا ترضي الله ، حولك طبقة من المجتمع المخملي ، نساءهم كاسيات عاريات ، مع الاستمرار بهذه المنطقة يأتيك ضغط من بناتك عليك كي يقلدن ما يرين بأعينهن ، فيجب أن تغادر إلى مكان محافظ .

    الهجرة حركة أيها الإخوة ، الهجرة موقف ، لكن أخطر شيء بالموضوع :
    ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ .

    أسوق لهذه الآية هذا المثل :

    أنت مهما كنت متعمقاً بالدين ، وهمما عظمت هذا الشرع العظيم ، ومهما أثنيت على هذا القرآن العظيم ، ومهما اعتززت بهذا الدين القويم ، إن لم تطبقه فلا قيمة لك عند الله أبداً ، تماماً كما لو أن إنساناً يعاني من مرض جلدي ، وعلاجه الوحيد التعرض لأشعة الشمس ، وهو قابع في غرفة مظلمة قميئة ، لا ترى ضوء الشمس ، وهو فصيح اللسان يتحدث عن الشمس ، وعن قيمتها ، وعن أشعتها ، وعن نصاعتها ، وعن تألقها في كبد السماء ، وعن أنها شمس عظيمة ، كل هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر ، ما لم يتعرض لأشعة الشمس .

    لذلك القرآن الكريم بآية واحدة لخصت القرآن كله ، أين الآية ؟

    الآن تلخيص القرآن :

    ( سورة الكهف ) .

    إن أردت لقاء الله عز وجل بالمعنى الواسع ، إن أردت أن تتصل به ، إن أردت أن يتجلى على قلبك ، إن أردت أن تكون محظياً عنده ، إن أردت أن تكون في مقعد صدق عنده ، إن أردت السلامة والنجاة :

    ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ .

    هناك جانب عقدي ، وجانب سلوكي ، العقدي : ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ والجانب السلوكي : ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ .

    إذاً : الإسلام حركة ، ونحن في عيد الهجرة ، ونحن في مفهوم الهجرة ، أوسع مفهوم الحركة ، يليه أن تدع ما نهى الله عنه ، يليه أن تعبد الله في زمن الفتن ، (( العبادة في الهرج كهجرة إليّ )) ، والهجرة بين مكة والمدينة أغلقت لقول النبي عليه الصلاة والسلام : (( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ )) ، بينما الهجرة من أي مدينتين تشبهان مكة والمدينة قائمة إلى يوم القيامة ، والمستضعف ينبغي أن يهاجر ، أي الذي مُنع من أداء شعائره الدينية ، أو ضعفت نفسه أمام الشهوات المستعرة في تلك البلاد ، والعقاب جهنم ، ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ      مَصِيرًا .

    الوعيد مخيف ، لأنك حينما لا تستطيع تحقيق علة وجودك ببقائك في هذا البلد أو في بلد لا تستطيع أن تؤدي به شعائر الله ، ولا أن تقيم أمره ، أو أن تضعف أمام شهواتك هذا بلد يلغي آخرتك ، والإنسان كما ترون وكما تسمعون في قبضة الله ، بثانية واحدة انتهى أحد زعماء إسرائيل ، ثانية واحدة ، خثرة بالدماغ ، والناس جميعاً يدعون له بطول البقاء ثانية ، هذا الذي يؤثر الدنيا على الآخرة ، إنسان غبي أحمق ، ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ .

    وفي درس قادم إن شاء الله نتابع أحداث الهجرة ، وأسبابها ، وبعض الوقائع التي كانت بها.

    والحمد لله رب العالمين

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    تعليقات الزوار ()