بتـــــاريخ : 10/8/2008 6:02:33 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1140 0


    الهجرة إلى الحبشة

    الناقل : heba | العمر :42 | الكاتب الأصلى : محمد راتب النابلسى | المصدر : www.quran-radio.com

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات  القربات .

    أيها الإخوة ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى الهجرة إلى الحبشة ، وقبل الحديث عن الهجرة لا بد من توضيح ، دققوا في هذه الآيات ، قال تعالى :

    ( سورة النساء ) .

    هل تصدقون أن المستضعف في الأرض إذا لم يهاجر وقع في وعيد رب العالمين ، كيف ؟ أنت ذهبت إلى بلد من أجل هدف واحد ، أن تنال دكتوراه ، فإذا منعتك الجامعة من أن تنتسب إليها ، هل يمكن أن تبقى في هذا البلد ؟ أنت جئتها من أجل هدف واحد ، هو أن تنال شهادة عليا ، فإذا منعت من أن تنتسب إلى الجامعة لا معنى لبقائك في البلد ، لا بد من أن تتحول إلى بلد آخر ، هذا مثل ، لو كبرنا المثل :

    أنت في الدنيا من أجل أن تعبد الله ، الدليل :

    ( سورة الذاريات ) .

    فإذا حيل بينك وبين أن تعبد الله في بلد أي بلد ، أي بلد على الإطلاق إذا حيل بينك وبين أن تعبد الله ، ومهمتك في الدنيا أن تعبد الله لا بد من أن تغادر هذا البلد ، قبل أن تغادر إن حاولت أن تصلح ، وأفلحت لا تغادر ، إن استطعت أن تهيئ جواً تعبد الله فيه فلا تغادر ، إن أقنعت الناس أن يغيروا فلا تغادر ، أما إذا استحال عليك أن تعبد الله ، وعلة وجودك في الدنيا أن تعبد الله فلا بد من أن تغادر ، الآن نفهم الآية الكريمة : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ ، ما معنى مستضعفين ؟ إما أنك ضعيف من حيث القدرة ، فمنعت أن تعبد الله ، منعت من أن تحجب نساءك ، منعت من أن تحجب بناتك ، منعت أن تؤدي شعائر دينك ، منعت أن تقيم فرائض الله عز وجل ، أنت هنا ضعيف ، ولم تستطع أن تصلح ، ولا أن تغير ، إذاً ينبغي تغادر .

    المعنى الثاني : بلد فيه حرية ، لكن نفسك ضعفت أمام مغريات الحياة ، ضعفت أمام الشهوات ، لم تستطع أن تقيم أمر الله لا قمعاً بل ضعفاً ، هذا ضعف من نوع آخر .

    فلذلك حينما تكون في بلد ويحال بينك وبين عبادة الله يجب أن تبحث عن بلد تستطيع أن تعبد الله فيه ، وأن تحقق سر وجودك وغاية وجودك ، والعلة التي جيء بك إلى الدنيا من أجلها ، وهي العبادة .

    أيها الإخوة ، كان عليه الصلاة والسلام ضعيفاً ، ويعاني ما يعاني ، ولكن عمه كان يحميه ، بينما آحاد المسلمين كانوا معرضين للأذى والتنكيل ، والتضييق ، والضرب ، الإيلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام كما وصفه الله عليه الصلاة والسلام :

    ( سورة الأحزاب الآية : 21 ) .

    ( سورة التوبة ) .

    فرحمة النبي صلى الله عليه وسلم دعت أصحابه المضطهدين ، الذين ينكل بهم ، الذين يُضربون ، الذين تصادر أموالهم ، رحمة النبي صلى الله عليه وسلم دعت إلى أن يدعو أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة ، ظناً أن فيها ملكاً عادلاً .

    بالمناسبة ، ما حكم السفر في الإسلام ؟ أعلى أنواع السفر من دون استثناء :

    السفر الأول :  لنشر الــــدعوة .

    السفر الثاني : أن تسافر فراراً بدينك .

    السفر الثالث : أن تسافر طلباً للـعلم .

    السفر الرابع : أن تسافر طلباً للرزق .

    والآن هناك سفر اسمه السفر السياحي ، هذا حكمه حكم المسافر ، فإذا أقام الصلوات الخمس ، وغض بصره ، ولم يرتكب معصية في هذا السفر فهو مباح ليس غير ، أما إذا كان السفر مطية إلى ارتكاب المعاصي والآثام فهذا لا يجوز .

    إذاً الجهاد أولاً ، أو نشر الدين ثانياً ، أو فرار بالدين ثالثاً ، أو طلب العلم رابعاً ، أو طلب الرزق خامساً .

    والآن هناك سفر عده بعض العلماء سفراً مباحاً ، إن لم يكن فيه معصية ترافق هذا السفر .

    وكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، والذين هاجروا هم أحد عشر رجلاً ، وأربع نسوة ، خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبية ، منهم الراكب ، ومنهم الماشي ، وهذا الإسلام الذي تنعمون به اليوم ، هذه المساجد ، هذه الخطب ، هذه الدروس ، هذا الأمن الذي يشعر به المسلمون من دفع ثمنه ؟ أصحاب النبي عليهم رضوان الله ، دفعوا ثمنه باهظاً ، إنسان يسافر من مكة إلى الحبشة مشياً ، الحياة شاقة جداً ، والحر لا يحتمل ، ووفق الله تعالى حين وصلوا إلى الساحل سفينتين للتجار حملوا هؤلاء الصحابة إلى أرض الحبشة جميعاً بنصف دينار ، وقد ثبت من طرق صحيحة ما ورد عن أم المؤمنين أم سامة رضي الله عنها ، وكانت ضمن من هاجر إلى الحبشة ، في الهجرة الأولى ، حيث قالت : لما ضاقت علينا مكة ، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفتنوا ، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدفع عنهم هذا الأذى ، كان عليه الصلاة والسلام ضعيفاً ، وحكمة أنه ضعيف ذكرتها مرتين من أجل تثمين من يؤمن به ، ليس عنده شيء يعطيه ، ولا قوة تحمي أتباعه ، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً ، فالإيمان به إيمان خالص ، لكن لو أن قوياً من أقوياء الأرض ادعى أنه جاءته النبوة ، ودعا الناس إلى الإيمان به ، والله لتجدن الملايين المملينة تؤمن به خوفاً منه ، لا قيمة لهذا الإيمان ، أراد الله عز وجل أن يكون إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم  إيماناً حقيقياً لا رغبة ولا رهبة ، لا طمعاً ولا خوفاً .

    وكان عليه الصلاة والسلام في منعة من قومه وعمه ، لا يصل إليه شيء ، مما ينال أصحابه ، كان عليه الصلاة والسلام في منعة من قومه بني هاشم ، ومن عمه أبي طالب  ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده ، فالحقوا ببلاده   ، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ، فخرجنا ـ كما تقول أم سلمة ـ فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا فيها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا ، ولم نخشَ من هذا الملك ظلماً .

    وتروى الروايات أن سيدنا عثمان بن عفان كان أول من خرج مهاجراً ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنات النبي كأي بنات لأصحاب رسول الله . :

    مرة طلبت منه السيدة فاطمة خادمة ، قال : والله يا فاطمة ، لا أعطيك خادمة ، وفي المسلمين فقراء وجياع ، معنى ذلك أنه كان أباً لأصحابه ، وكان واحداً منهم ، وكان لا يقبل أن يتميز عنهم بشيء .

    مرةً كانوا في سفر ، وأراد أحدهم يعالج شاةً ليأكلها أصحابه ، فقال واحد منهم : علي ذبحها ، وقال الثاني : علي سلخها ، وقال الثالث : علي طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعلي جمع الحطب ، فقالوا : نكفيك ذلك يا رسول الله ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه ، هذا من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، الله عز وجل يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .

    إذاً كان عثمان بن عفان أول من خرج مهاجراً ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أورد الإمام البخاري حديثاً بسند موصول إلى أنس ، قال : أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما ، يعني خبر وصولهما سالمين إلى الحبشة  ، فقدمت امرأة ، فقالت له : لقد رأيتهما ، وقد حمل عثمان امرأته على دابة ، فقال عليه الصلاة والسلام : صحبهما الله ، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط .

    أحياناً حينما تهاجر فراراً بدينك هذا وسام شرف يكتب لك ، إذا كنت ضعيفاً ضعفاً يمنعك أن تقيم شعائر الله ، أو ضعفاً نفسياً يجعلك لا تقوى على تحمل المغريات .

    لكن الآن عندنا شيء آخر ، إنسان يذهب إلى بلاد الغرب ليدرس ، تروق له الحياة ، حياة جميلة جداً ، بلاد جميلة ، حاجات الإنسان مؤمنة ، الدخل فلكي ، الأمور كلها في خدمة الإنسان ، ينسى وطنه ، وينسى بلده ، وينسى أمته ، وينسى أن لحم كتفه من خير وطنه ، فهو يسعى لكسب أكبر قدر من المال ، هذا الإنسان لو اتخذ قراراً بطولياً أن يعود إلى بلده المسلم ، وبلده المسلم ليس بلداً متطوراً ، بل هو بلد نامٍ ، ليقدم علمه لهؤلاء المسلمين الذين هم أبناء جلدته ، هذا الإنسان أنا أرى أن عودته إلى بلده ، وتحمله بعض متاعب بلده في سبيل أن يقدم خدمات جُلا لأمته الإسلامية هذا يعد عند الله مهاجراً .

    ومعناً آخر للهجرة ، أن عبادة في الهرج ، في زمن الفتن ، وزمن الفسق والفجور  ، وفي زمن أن يغدو الدين ضعيفاً ، وزمن أن الذي يعبد الله كالقابض على الجمر ، وزمن النساء الكاسيات العاريات ، وزمن يؤتمن الخائن ، ويخوَّن الأمين ، وزمن يضام الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر ، وزمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ، ولا يستطيع أن يقول كلمة ، إن تكلم قتلوه ، وإن سكت استباحوه ، وزمن فيه موت كقعاص الغنم ، لا يدري القاتل لمَ يقتل ، ولا المقتول فيم قتل ، في هذا الزمن الصعب عبادة في الهرج كجرة إلي .

    من يعبد الله في آخر الزمان حيث الفتن والاضطرابات ، والضلالات والشهوات  ، وكل شيء على خلاف ما هو عليه ، في زمن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً   ، هذه أيضاً هجرة إلى الله خالصة ، لو وسعنا الهجرة أيضاً قال عليه الصلاة والسلام : ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )) .

    [ رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو ] .

    أيها الإخوة ، بعد فتح مكة أغلق باب الهجرة ، (( لا هجرة بعد فتح مكة )) .

    [ رواه البخاري عن مجاشع بن مسعود ] .

    ولكن أي مدينتين في آخر الزمان يشبهان مكة والمدينة يمكن أن تهاجر من بلد يشبه مكة إلى بلد يشبه المدينة ، الصحابة الكرام الذين هاجروا على رأسهم عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ومصعب بن عمير ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وعثمان بن مضعون ، وغيرهم ، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة ، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة ، وليلى بنت أبي حثمة ، امرأة عامر بن أبي ربيعة ، وقد عرفت هذه الهجرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة .

    أرأيتم أيها الإخوة إلى العنصر النسائي ؟ وكيف أن الصحابيات الجليلات كن يشاركن أزواجهن السراء والضراء ، والإقامة والسفر ، والحلة والترحال ؟

    أيها الإخوة ، وللصديق قصة ، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يلتحق بالمهاجرين إلى الحبشة ، في هذه الهجرة الأولى ، بعد أن اشتد أذى قريش عليه ، وهو سيد كبير في قومه ، لكن الباطل أرعن ، الباطل لا يعرف أقدار الناس ، الباطل لا يميز الصالح من الطالح ، فبعد أن اشتد أذى المشركين على سيدنا الصديق سلك طريقاً آخر ، تشير الأخبار أنه سار في طريق اليمن ، حتى إذا ما بلغ برك الغماد ، وهو موضع على خمس ليال من مكة  لقيه ابن الدغنة ، وهو سيد قبائل القارة حلفاء بني زهرة القرشية ، دققوا الآن ، قال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي ، فأنا أريد أن أسيح في الأرض ، وأن أعبد ربي ـ اشكروا الله عز وجل على أنكم تستطيعون أن تعبدوا ربكم في بلدكم ، وأن تدخلوا إلى بيوت الله دون أن تُساءلوا ، وأن تصلوا ، وأن تحضروا مجالس العلم ، وأن تحجبوا نساءكم هذه نعم لا يعرفها إلا من فقدها ـ فقال الصديق رضي الله عنه : أخرجني قومي ، فأنا أريد أن أسيح في الأرض ، وأعبد ربي ، فقال ابن الدغنة : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :  ((لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل ))  .

    [ورد في الأثر

    إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج ، فإنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، وكان الصديق رضي الله عنه أشبه الصحابة برسول الله ، وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر ، ولوزن إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجح ، لذلك أجاره ، معنى أجاره أي جعله في ذمته ، هذه عادة مطبقة في الحياة الجاهلية ، أن إنساناً شريفاً وجيهاً إذا أجار إنساناً لا يستطيع أحد أن ينال منه .

    أيها الإخوة ، الحق أبلج ، أنا أذكر ، لي صديق لا أزكيه ، ولكن أحسبه صالحاً وورعاً ، وكان موظف بمكان ، أمانته ظاهرة ، استقامته ظاهرة ، ورعه ظاهر ، أدبه ظاهر ، التزامه ظاهر سمته حسن ، سافر مرة مع من هو أعلى منه في الدائرة ، وكان بعيداً عن الدين بعد الأرض عن السماء ، ليس عنده شيء محرم ، فلما دعوا إلى طعام هذا الذي هو رئيسه في العمل منع أن يأتي إلى الطعام أي مشروب ، فلما انتهى الطعام ، سأل صديقه رئيسه ، قال له : هل انتبهت أننا لم نضع على الطاولة مشروباً ؟ قال : له نعم ، قال له : هذا من أجلك ، لأن دينك أصلي ، حتى الفاسق ، حتى المبتعد عن الدين إذا رأى مؤمناًَ ، صادقاً ، مخلصاً ، ورعاً ، أميناً  عفيفاً ، له مكانة عنده .

    فهذا الرجل أجار أبا بكر رضي الله عنه ، فوافقت قريش على ذلك ، واشترطت عليه أن تكون عبادته في داره ، وألا يستعلم بها ، التاريخ يعيد نفسه ، اشترطوا على من أجار الصديق أن يصلي في بيته ، وأن يتعبد ربه في بيته ، وبعد مدة أخذ أبو بكر يجتهد بالقراءة في فناء داره ، وكان رجلاً بكاءً لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن ، فيجتمع إليه أبناء ونساء المشركين يعجبون بقراءته ، وينظرون إليه ، ويستمعون القرآن مما أفزع قريشاً ، ودفعها إلى مطالبة ابن الدغنة أن يكفه عن ذلك ، فخيره ابن الدغنة بين الإسرار بعبادته ، أو أن يرد عليه جواره ، فرد أبو بكر عليه جواره ، وقال إني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله ، وهكذا بقي أبو بكر بمكة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيراً بالله سبحانه وتعالى ، يحتمل أذى المشركين بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن له بالهجرة .

     دققوا في هذا النص : "  ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ، وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكدوه أهل السماء والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً " .

    أيها الإخوة ، وبعد هجرة الحبشة الأولى لفترة قليلة حدث أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام ، فقرأ سورة النجم ، وسجد في موضع السجود ، فسجد معه كل من كان يسمعه من المسلمين ومن غير المسلمين ، ماذا تستنبطون ؟ استنباط ، المؤمن له وهج  المؤمن منوّر ، المؤمن عليه سكينة ، المؤمن عليه وقار ، حتى الذي لا يعرفه يهابه ، حتى الذي لا يعرفه يسعد بقربه .

    من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه من رآه بديهة هابه ، ومن عامله  أحبه .

    إذاً صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت الله الحرام ، وقرأ سورة النجم ، وسجد  سجد معه كل الناس من غير المسلمين ، وشاع في مكة أن قريشاً قد أسلمت ، وبلغ المسلمين الذين هم في أرض الحبشة أن مكة أسلمت فرجع ناس منهم ، منهم عثمان بن مظعون إلى مكة ، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً ، فرجعوا ، وسار معهم جماعة إلى الحبشة ، وهي الهجرة الثانية ، وقد ذكرت إحدى الروايات الصحيحة أنهم كانوا اثنين وثمانين رجلاً ، سوى نسائهم وأبنائهم ، وقيل : إن عدد النسوة في الهجرة الثانية كن ثماني عشرة امرأة .

    أيها الإخوة ، هذه الهجرة الأولى والثانية ، قريش آلمها جداً أن يذهب المسلمون ، ويتخلصوا من تعذيب قريش ، ومن التنكيل بهم ، ومن التضييق عليهم ، ومن إيذائهم ، وعاشوا في بلاد الحبشة في ظل ملك الحبشة النجاشي آمنين مطمئنين ، فكادوا لهم .

    أيها الإخوة ، نية الكافر شر من عمله ، كل الذي يفعله يتمنى أن يفعل أكبر منه ، نية المؤمن خير من عمله ، ونية الكافر شر من عمله ، هربوا بدينهم ، وعاشوا غرباء في الحبشة ، أرادوا أن يأتوا بهم قهراً ، لذلك بادرت قريش بعد الهجرة الثانية ، وبعد إخفاقها ، في منع المسلمين من الهجرة ، ونتيجة تخوفها من انتشار الدعوة الإسلامية أرسلت وفداً مؤلفاً من عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة ، وكان عمرو ابن العاص داهية العرب ، يروى أن معاوية بن أبي سفيان سأله مرةً : يا عمر ، ما بلغ من دهاءك ؟ أعرفك داهية ، ما بلغ من دهائك ؟ قال : والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه ، فقال معاوية : يا عمر ، لست بداهية ، أما أنا فوالله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه ، أيهما أشد دهاءً ؟ الذي يدخل مخطئاً ثم يخرج ، الأشد دهاءً هو الذي لا يدخل أصلاً .

    هذا الوفد معه هدايا ثمينة ، إلى النجاشي ، وإلى بطاركته بهدف أن يعيد لهم هؤلاء المهاجرين ، لينكلوا بهم ، ويعيدوهم إلى مكة ، وحاول الوفد إقناع البطاركة عن طريق الهدايا  ، الإنسان أحياناً يقنع بالشيء ، لا لأنه قانع به ، ولكن لأن المبلغ كبير ، المبلغ أقنعه ، فهؤلاء عرفوا ضعف الإنسان ، فتوسلوا إلى أن يجعلوا من البطاركة قوة ضاغطة على النجاشي كي يعيد إليهم هؤلاء ، فأغروهم بهدايا ثمينة .

    شيء آخر ، صوّر هؤلاء المسلمون على أنهم غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دين النجاشي ، وأنهم جاؤوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وبيتوا الأمر مع البطاركة على أن يشيروا على النجاشي بأي يسلمهم إليهم ، ولا يكلمهم ـ يا الله ـ آية قرآنية طبعاً وردت على لسان سيدنا سليمان :

    ( سورة النمل ) .

    النجاشي رأى أن يتحرى الأمر بنفسه ، فدعا المسلمين ، وطلب منهم توضيح الحقيقة ، فانبرى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتكلم نيابة عن إخوانه المهاجرين كما سبق ، وأسلفنا ، قائلاً : " أيها الملك ، كنا قوماً على الشرك نعبد الأوثان ، ونأكل الميتة ، ونسيء الحوار ، ونستحل المحارم بعضنا من بعض ، في سفك الدماء وغيرها ، ولا نحل شيئاً ، ولا نحرمه ، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا ، نعرف وفاءه ، وصدقه ، وأمانته ، فدعانا إلى الله لنعبده ، ونوحده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء " .

    [أحمد عن أم سلمة

    والله كلام رائع ، فالنجاشي طلب من جعفر أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه أوائل سورة مريم ، فبكى النجاشي ، وبكى معه أساقفته ، وقال : إن هذا الكلام ـ كلمة رائعة ـ إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى ، انطلقوا راشدين آمنين في بلدي ، وأقسم بألا أسلمكم لأحد ، اطمأنوا .

    إخوانا الكرام ، أتمنى عليكم جميعاً إذا كنت في موضع القيادة ، ولو قيادة بيت ، جاءتك ابنتك تشكو زوجها ، تقبل كلامها على علاته ، هذا الصهر اسأله ، اطلبه على الهاتف ، ما الذي أزعجك من ابنتي ؟ لمَ لم تكن منصفاً ؟ لمَ تأخذ كلام ابنتك على أنه منزل ، ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ، نحن نتوهم أن القاضي الذي في قصر العدل ، لا ، الأب قاض بين أولاده ، الأب قاض بين بناته ، الأب قاض بين أصهاره ، الأب قاض بين إخوته ، معظم الناس مكلفون أن يحكم بين متخاصمين ، ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ ، لكن هذه المحاولة أخفقت ، لذلك في اليوم التالي جاء عمرو بن العاص ـ كان مخيفا ـ وقال للملك : إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يعني أنتم تعتبرونه ابن الله ، هم يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، فاستدعاهم النجاشي ، فسألهم ، فقال جعفر : نقول فيه : هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ، وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، فقال النجاشي : ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا شيئاً ، قال : هذه حقيقة عيسى بن مريم ، هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ، وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، واستقر رأي النجاشي على منح المسلمين الآمان ، فأقاموا في خير دار مع خير جار  ، أما القسيسين والرهبان الذين سمعوا قول جعفر ، واستمعوا إليه ، وهو يرتل القرآن فقد ذرفوا الدموع مما عرفوا من الحق ، فأنزل الله تعالى قوله الكريم :

    ( سورة المائدة ) .

    أيها الإخوة ، مكث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحبشة ما شاء لهم ، ولقد توفي عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، تكريماً لها هي في المهجر ، ومات زوجها ، وليس لها أحد ، فتكريماً لها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ، وتزوجها ، وهي بالحبشة ، من الذي زوجه إياها ؟ النجاشي ، ومهرها 4000 ، ثم جهزها من عنده ، ولم يرسل إليها النبي بشيء ، وقد بعثها النجاشي مع شرحبيل بن حسنة .

    إخوانا الكرام ، مرة جاء وفد النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، من كرم أخلاق النبي أبى إلا أن يخدمهم بنفسه ، وفد النجاشي الذي زار المدينة خدمهم النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه ، وكان وفاؤه مضرب المثل .

    أيها الإخوة ، وردت العديد من الدلائل التي تفيد إسلام النجاشي ، فقد ورد في الأخبار أنه أسلم ، ولذلك خرج عليه قومه ، أسلم فخرج عليه قومه ، ولكنه حرص قبل محاربتهم أن يؤمن للمسلمين سفناً ليغادروا عليها إذا ما تعرض للهزيمة ، وأنه كتب كتاباً يشهد بإسلامه ، وقد أورد الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى بنفسه النجاشي ، في اليوم الذي ما فيه في العام التاسع للهجرة ، وأنه صلى بالمسلمين عليه صلاة الغائب .

    والحمد لله رب العالمين

    كلمات مفتاحية  :
    فقه السيرة النبوية

    تعليقات الزوار ()