بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وننتقل اليوم إلى كتاب الوحي ، ولا بد من موضوعين :
الأول : أمنية النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ، موضوعان تمهيديان لموضع كتابة الوحي .
الموضوع الأول : ما الحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ، وقد يتبادر إلى الذهن أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، فلو أن النبي كان يقرأ ويكتب ، وهو معلم البشرية فكيف نجمع بين أن الأمية نقص في شخصية الإنسان ، وبين أن الأمية من صفة النبي عليه الصلاة والسلام ؟
الكلام الجامع المانع المختصر المفيد أن أمية النبي وسام شرف له ، وأميتنا وصمة عار بحقنا ، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبقى وعاء النبي طاهراً من كل ثقافة أرضية ، لأن الله تولى بذاته العلية تعليمه .
( سورة النجم ) .
فلأن الله تولى تعليمه ، ولأن هذا النبي مشرع ، وقد أُمر الناس باتباعه ، إذاً هو معصوم ، لذلك أميته أن وعاءه ليس فيه إلا وحي السماء ، من هو قال الله عز وجل :
( سورة النجم ) .
لأن الله تولى تعليمه ، إذاً لو أنه على ثقافة أرضية ، وبدأ يدعو إلى الله لكان السؤال المتكرر كل يوم : يا رسول الله ، هذا الذي تقوله من وحي السماء أم من ثقافتك ؟ قال تعالى :
وما لم نعتقد اعتقاداً جازماً بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي إقراره لا نكون على عقيدة سليمة ، ولأن الله عصمه أمرنا أن نأخذ عنه ، قال تعالى :
( سورة الحشر الآية : 2 ) .
فلأن الله أمرنا أن نأخذ عنه كل شيء إذاً عصمه ، وكيف عصمه ؟ جعل كل وعائه المعرفي ممتلئاً من وحي السماء ، هذه حقيقة أولى ، أما نحن فقال عنا النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الكرم بالتكرم ، وإنما الحلم بالتحلم )) .
(ورد في الأثر)
لا أسمح أن يقول إنسان : أنا أتعلم من الله مباشرة ، أما الآية التي يذكرها كل من يدعي هذه الدعوة فهي :
( سورة البقرة ) .
ليس هذا هو معناها ، لو أن المعنى كما يتوهم القائل لكانت الصيغة على الشكل التالي ، واتقوا الله يعلمكم الله ، جواب الطلب ، واتقوا الله يعلمكم الله ، لكن الآية لها معنى آخر : ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، لمَ لا تتقونه ؟ لأنه يعلمكم دائماً ، علمكم بالكون ، وعلمكم بالوحي وعلمكم بالأنبياء ، وعلمكم بالرسل ، وعلمكم بالدعاة ، وعلمكم بأفعاله ، وعلمكم بالتربية النفسية ، هو يعلمكم دائماً لماذا لا تتقون الله ؟ ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ، لأن الله يعلمكم ، أما أن تفهم أنه يكتفي أن تتقي الله فيأتيك العلم اللدوني ، هذا مجال كبير للشطط والشطح هو أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم .
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام قال : (( إنما )) ، النبي أفصح العرب ، فإذا قال : (( إنما )) ، إنما أداة قصر ، يعني ليس هناك من سبيل إلى العلم إلا بالتعلم ، بالنسبة لنا ، إذاً لو أن الواحد منا كان أمياً ، تعد أميته تعد وصمة عار بحقه ، أما النبي كان أميناًَ وأميته وسام شرف ، لأن وعاءه المعرفي مطهر مكن أية ثقافة أرضية ، تولى الله تعليمه .
( سورة العنكبوت ) .
لكن ما دام الموضوع قد تشعب ، في الدين أصول وفروع ، الأصول أن تعرف الله والفروع ، أن تعرف منهجه ، فأنت بآياته التكوينية والكونية والقرآنية تعرفه ، وأنت في الأحكام الفقهية تعبده ، بالكون تعرفه وبالشرع تعبده .
أيها الإخوة ، ننتقل إلى موضوع آخر ، وهو أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين ، قال تعالى :
( سورة يوسف ) .
( سورة طه الآية : 113 ) .
( سورة الزمر الآية : 28 ) .
( سورة فصلت الآية : 3 ) .
( سورة الزخرف ) .
وآخر آية :
( سورة الرعد الآية : 37 ) .
فالله سبحانه تعالى شرف هذه الأمة بأن جعل وحيه يتنزل باللغة العربية ، وقد يسأل سائل : لماذا كانت العربية مشرفة بوحي السماء ؟ الحقيقة أن الذي يدرس فقه اللغة يعلم علم اليقين أن الطرف الآخر الذي لا يحابي هذه الأمة إطلاقاً يعترف أن اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية ، لكنها تضعف بضعف قومها ، وتقوى بقوة قومها ، ما معنى اللغة العربية من أقوى اللغات الإنسانية ؟ لها خصائص ، من هذه الخصائص الإعراب .
إن الذي قتل زيداً هو عمرٌ ، إذا قلت : قتل عمرٌ زيداً ، ما دام رفعت عمر إذاً هو الفاعل ، تتميز اللغة العربية بالإعراب ، والإعراب في اختزال للمعاني ، الضمة تعني أن هذا هو الفاعل ، والفتحة تعني أن هذا المفعول به ، فمن أولى خصائص العربية الإعراب ، فلذلك الذي يقرأ العربية يفهم فيقرأ ، في بعض اللغات الأخرى يقرأ فيفهم ، أما نحن فينبغي أن تفهم حتى تستطيع أن تقرأ صحيحاً ، هذا يحتاج إلى بديهة ، وإلى أن تلقي نظرة إلى كلمة ، أو كلمتين قادمتين ، كي تعرف أن هذا الفعل مبني للمجهول ، أو للمعلوم ، وأن هذا هو الفاعل ، لذلك تعد هذه اللغة من أرقى اللغات الإنسانية لأن فيها الإعراب .
إخواننا الكرام ، هناك ظاهرة الاشتقاق ، اللغة العربية كلماتها كالأسر ، أسرة ، الجد هو المصدر ، والأولاد الفعل الماضي والمضارع والأمر ، والمجرد والمزيد ، والزيادات لها معان دقيقة ، وزن فاعل غير فعل ، وزن تفاعل غير فعل ، وزن استفعل غير فعل ، فصيغة استفعل لها معنى ، طلب استغفر ، استرحم ، استرشد ، وفاعل فيها المشاركة قاوم ، وناضل ، وشارك واستكتب طلب الكتابة ، فالأفعال لها أوزان ، وأوزانها مجردة ومزيدة ، وعندنا أحد أبناء الفعل الماضي ، والفعل المضارع ، والفعل الأمر ، واسم المكان ، واسم الزمان ، واسم الآلة ، والصفة المشبهة باسم الفاعل ، واسم التفضيل ، وعندنا صيغ كثيرة جداً ، ثم صيغ مبالغة اسم الفاعل ، فاعول ، فعيل ، كثير ، مفعال ، مفضال ، عندنا اسم فاعل واسم مفعول ، عندنا اسم تفضيل ، واسم آلة ، واسم زمان ، اسم مكان ، وصيغة مشابهة اسم الفاعل ، هذه كلها صيغ ، فعندنا اللغة أسر أسر .
الدليل : نحن عندنا في لغتنا مكتب ، يعني طاولة ، وكتب ، كتاب ، باللغة الأخرى المكتب ( تبل ) ، وكتب ( رايت ) ، والكتاب ( بوك ) ، عندنا أسرة واحدة ، إذاً قضية الاشتقاق أي كلمة إن أدخلناها إلى لغتنا يشتق منها الفعل الماضي والمضارع والأمر ، والمجرد ، والمزيد ، والمشتقات اسم الفاعل واسم المفعول .
فاللغة العربية مجموعة أسر ، من خصائص العربية التي جعلها الله لغة لقرآنه اتساعها في التعبير .
ضربت مثلاً مرة : هناك نظر ، واستشرق ، يعني نظر مع التمطي ، واستشف ، نظر مع اللمس ، و حدج ، نظر مع المحبة ، وفي الحديث الشريف : (( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم )) .
(ورد في الأثر)
هناك نظر مع الاستمتاع ، نظرت إلى منظر جميل ، تقول : رنا ، حدج ، استشف استشرف ، رأى بقلبه ، رأيت العلم نافعاً ، رأيت الأمانة غنى ، هناك لاح ، السماء ملبدة بالغيوم ، وفيها فجوات ، فلاحت طائرة ، يعني ظهرت ، ثم اختفت ، وأنت تمشي في الطريق رأيت باباً مفتوحاً ، التفت إليه ، فإذا امرأة فغضضت البصر ، أي لمح ، لاح شيء ، ولمح شيء .
الآن حدق ؛ اتسعت حدقت العين ، حملق ؛ ظهر حملاق العين ، باطن الجفن أحمر ، شخص نظر مع الخوف ، سمع انفجارًا ، وما أكثر الانفجارات الآن ، فخاف ، نقول : شخص ، نظر إلإنسان تاجر مخدرات بازدراء ، نظر شزراً ، وشخص ، ولاح ، ولمح ، وحدق ، وحملق ورنا ، وحدج ، واستشرف ، واستشف ، ورأى ، العربية واسعة جداً في التعبير ، وكلما اتسعت اللغة في التعبير جاءت العبارة لطيفة ، قال تعالى :
( سورة طه الآية : 18 ) .
ما معنى أهش ؟ أضرب ؟ لا ، أشير ؟ لا ، هناك لمس ، لكن ما فيها ضرب ، معنى دقيق جداً ، قال تعالى :
( سورة طه الآية ) .
إذاً اللغة العربية متسعة بالتعبير .
شيء آخر ، الحروف فيها تناسب بعض المعاني ، الحرف وحده فيه معنى ، فكل كلمة فيها غين فيها اختفاء ، غيبة ، غاب ، غريب ، غيبوبة ، كل شيء فيه اختفاء فيه غين ، وكل شيء فيه تكرار في راء ، مر ، جر ، كر ، خر ، وكل كلمة فيها سين فيها شيء نفسي ، حس ، أنس ، سر ، سؤال ، سرور ، وكل كلمة فيها قاف في اصطدام طرق ، لصق ، حتى إن هناك شاهدًا واضحًا جداً ، أن الإنسان حين يغرق يعني أن شيئًا يختفي ، الغين ، يتتابع سقوطه الراء ، يرتطم بالقاع قاف ، غرق .
سيدنا عمر يقول : " تعلموا العربية فإنها من الدين " .
من هذه اللغة خصيصة أخرى ، أنها قابلة للاختزال ، لو وقف أربعة صحفيين ليأخذوا حديث مسؤول كبير باللغة العربية وحدها يمكن أن تكتب كلامه ، أما بأي لغة أخرى تحتاج إلى لغة أخرى اسمها لغة الاختزال ، لن تستطيع بلغة أخرى أن تكتب ما يقال ، إلا العربية بإمكانك أن تكتب ما يقال ، عدد الحروف قليل ، والمعاني كثيرة ، والدليل اكتب باللغة الإنكليزية ، محمد عشرة حروف ، عدهم بالعربي أربعة حروف محمد ( م ح م د ) ، بالإنكليزي Mohammedan ، لذلك هذه اللغة فيها اختزال ، لذلك أعيد الكلمة مرة ثانية لسيدنا عمر : " تعلموا العربية فإنها من الدين " .
المرأة لها جمال ، أما الرجل فجماله فصاحته ، فلا تعجب أن يدخل وفد على خليفة كبير كسيدنا عمر بن عبد العزيز يتقدمهم غلام ، يغضب الخليفة ، يقول : " أيها الغلام ، اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً ، فيقول هذا الغلام : أصلح الله الأمير ، المرء بأصغريه ، قلبه ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً ، وقلباً حافظاً ، فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكانت في الأمة أحق منك بهذا المجلس " .
غلام آخر دخل على عبد الملك بن مروان ، وكان من كبار خلفاء بني أمية ، فوبخ حاجبه ، وقال له : ما شاء أحد أن يدخل علينا إلا دخل ؟! حتى الصبية ؟! فابتسم هذا الغلام الصغير ، وقال : أصلح الله الأمير ، إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك ، ولكنه شرفني ، أصابتنا سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة دقت العظم ، ومعكم فضول أموال ، فإن كانت لنا فعلامَ تحبسوها عنا ؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا ، وإن كانت لله فنحن عباده ، فقال : والله ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة عذراً .
سيدنا عمر يمشي في طُرق المدينة ، أطفال عدة يلعبون ، فلما رأوه هابوا ، وفروا ، واحد منهم بقي واقفاً ، لفت نظره ، قال : يا غلام ، لمَ لم تهرب مع من هرب ؟ قال : أيها الأمير ، لست ظالماً فأخشى ظلمك ، ولست مذنباً فأخشى عقابك ، والطريق يسعني ويسعك .
يعني ما الذي يمنع أن نعلم أبناءنا اللغة الفصحة ، أن نعلمهم المطالعة ، أن نعلمهم الكتابة ، أن نعلمهم إلقاء الكلمات ، لأن جمال الرجل فصاحته .
فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ، لكن ورد أن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف ، يعني على سبع لهجات ، ولكل قبيلة لهجة ، وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الرجال بلهجاتهم ، سأله مرة واحد : هل من أمبرٍ أمصيام من أمسفر ؟ يعني هل من البر الصيام في السفر ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام ليس من أمبرٍ أمصيامٌ في أمسفر ، أجابه بلهجته ، فتيسير على العرب الذين استقبلوا هذا الدين العظيم نزل هذا القرآن على سبعة أحرف ، أي على سبعة لهجات .
لذلك مثلاً قريش تسهل ، وتميم تحقق ما معنى ذلك ؟ الهمزة إما أن تحقق ، وإما أن تسهل ، إن قلت : ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ ، أنت تقرأ على لهجة قريش ، أما إذا قرأت الآية : ﴿ ولم يكن له كفؤًا أحد ﴾ فعلى لهجة تميم ، إذا قلت : ملايكة لهجة قرشية ، إذا قلت : ملائكة لهجة تميمية ، فتميم تحقق ، وقريش تسهل ، إذا قلت : تأريخ تميمي ، إذا قلت : تاريخ قرشي ، فكل همزة إما أن تحقق ، وإما أن تسهل ، بل إن كتابة الهمزة لها قاعدة تنتظمها جميعاً ، الهمزة تكتب على الحرف لو سهلت قرأ ذلك الحرف ، تكتب الهمزة في بئر على نبرة ، لو سهلتها تقول : بير ، تكتب مؤمن على واو لو سهلتها تقول : مومن ، تكتب تأريخ على ألف لو سهلتها تقول تاريخ .
إذاً القرآن الكريم فضلاً عن أنه نزل عربياً نزل بلهجات العرب ، وهذا تسهيلاً للذين أمروا أن يتلقوه بالإيمان والتعظيم ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( أقرأني جبريل القرآن على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف )) .
[ متفق عليه ] .
لكن كتعليق ، الآن اللغة موحدة ، أنا لا أرى حاجة كبيرة جداً إلى أن تقرأ كل القراءات ، لأنه الآن نحن جميعاً نقول : إبراهيم ، لا داعي لأن تقول : إبراهام ، هي قراءة ، اهدنا الصراط المستقيم ، هناك قراءة : اهدنا الزراط المستقيم ، فلآن بعد ما توحدت اللغة فليس هناك من ضرورة أن تتحف الآخرين بكلمات غير مألوفة ، مع أنها قراءات .
والحقيقة أن الذين يحسنون الكتابة كانوا قلة في مكة ، وقلة في المدينة ، والحقيقة أن الأمة التي اختارها الله لهذه الرسالة العظيمة أمة عاشت في الصحراء ، وثقافتها محدودة جداً ، وهناك حِكم قد لا نكشفها الآن ، في هذه الأماكن الممتدة ، وفي هذه الحياة البسيطة ، ليس هناك نفاق ، وليس هناك تعقيد ، وليس هناك كذب ، في بالصحراء حياة رائعة جداً ، النبي أقرها ، المروءة ، والشهامة ، والشجاعة ، والفصاحة ، صفاء الذهن ، وهناك حكم كثيرة أن الحياة ليست معقدة ، تصور لو في هذا العصر جاء نبي ، ماذا تقرأ في الأخبار ؟ تصور الأخبار التي سوف تغطي ظهور نبي في هذا العصر ، يتصلوا بعالم نفس يقول : هذا معه عقدة نفسية ، يتصلون بعالم اجتماع ، يقول : هذا يحب أن يسيطر على مجموعة كبيرة ، عنده شذوذ في علاقاته الاجتماعية .
صدقوني أيها الإخوة ، أحد كبار علماء النفس يتهم الأنبياء بالشذوذ ، قال : لأنهم يحبون أن يجلسوا مع الرجال ، مثلاً ، لحكمة بالغة أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في مكان ، وفي زمان بسيط ، لو أنه جاء في هذا الزمان لرأيت العجب العجاب من التكذيب والسخرية والاستهزاء ، فلذلك لحكمة بالغةٍ بالغة كانت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام في بلاد بسيطة ، وفي علاقات اجتماعية بسيطة .
اشتهر أيها الإخوة من كتاب الوحي زيد بن ثابت ، مع أنه أسلم بعد الهجرة ، واقتصرت الكتابة بذلك على ما نزل في المدينة من كتاب الوحي زيد بن ثابت ، ولم يكتب من السور المكية شيئاً ، وأول من كتب آيات التنزيه من مكة المكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش رجل اسمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، ممن كتب في الجملة الخلفاء الأربعة ، والزبير بن العوام ، وخالد ، وأبان ابنا سعيد بن العاص ابن أمية ، وحنظلة ابن الربيع الأسدي ، ومعيقل ابن أبي فاطمة ، وعبد الله ابن الأرقم الزهري ، وشرحبيل ابن حسنة وعبد الله ابن رواحة ، وغيرهم ، وكان أُبي ابن كعب هو أول من كتب له بالمدينة ، هؤلاء كتاب الوحي ، كتاب قليلون لكن هذا الكتاب كُتب .
هناك موضوع ثالث لا بد من الإشارة إليه ، وهو أن الكتب السماوية السابقة الله عز وجل أمر بحفظها بأمر تكليفي ، ولا بد من التفريق بين الأمر التكليفي ، والأمر التكويني الأمر التكليفي لك أن تأمر ، أو ألا تأتمر ، كما تقرأ لوحة : ممنوع المرور ، والطريق سالك لك أن تسلك هذا الطريق مع أنه ممنوع ، لكن تخالف ، وتدفع الثمن ، ولك أن تأتمر ، لكن الأمر التكويني فعل الله ، والأمر التكليفي أمره ، فالكتب السماوية السابقة أُمر الأنبياء بحفظها تكليفاً ، والأنبياء حفظوها ، والدليل :
( سورة المائدة الآية : 44 ) .
حفظوها تكليفاً ، لكن أتباعهم ما حفظوها ، لذلك أضيف على الكتب السماوية السابقة ما ليس منها ، فيها إضافة ، وتبديل ، وتحوير ، وتزوير ، ذلك لأن المعجزة منفكة عن الكتاب ، لا علاقة بين الكتاب والمعجزة ، سيدنا عيسى أحيا الميت ، والإنجيل كتاب الله ، سيدنا موسى جعل البحر طريقاً يبساً ، وكتابه التوراة ، لكن القرآن الكريم له استثناء خاص ، ذلك أنه كتاب كل البشر .
( سورة الأنبياء ) .
( سورة البقرة الآية : 119 ) .
كتاب لكل البشر ، وهو آخر الكتب ، وسيبقى إلى يوم القيامة ، حتى إن السيد المسيح يتلو القرآن الكريم حينما يعود إلى الحياة .
( سورة البينة ) .
فالقرآن الكريم لأنه كتاب لكل البشر ، ولآخر الدوران ، ولأنه كتاب ينبغي أن تكون معجزته فيه ، المعجزة في القرآن ، معجزة النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن ، فإذا فقد الكتاب معجزته فقد قيمته ، لذلك تولى الله بذاته حفظ كتابه ، فقال :
( سورة الحجر ) .
فأول حقيقة ، وهذه حقيقة إيمانية ، أنت حينما آمنت بهذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله ، وحينما آمنت بأن هذا القرآن كلامه من خلال إعجازه ، وحينما آمنت بأن هذا الذي جاء به نبيه من خلال كتابه أخبرك القرآن أن الله تولى حفظه ، وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة الأدلة التفصيلة على أن هذا الكتاب حُفظ ، أن تعتقد أنه محفوظ ، وأن الذي تقرأه الآن هو الكتاب نفسه الذي جاء نبينا عليه الصلاة والسلام ، هذه قضية إيمانية تؤكدها الآيات القرآنية ، لذلك قال تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ .
أيها الإخوة ، هذا القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين ، والذي نزل على قلب سيد المرسلين ، وهو آخر الكتب ، نزل على آخر الأنبياء والمرسلين ، هذا القرآن الموضوع الأول الذي عالجه هو وحي السماء ، الموضوع الأول الذي عالجه هو التوحيد ، لذلك يمكن أن تقول : إن كل الكتب السماوية جاءت بالتوحيد ، والدليل :
( سورة الأنبياء ) .
والتوحيد ألا ترى مع الله أحدا ، التوحيد أن ترى أنه لا معطي ، ولا مانع إلا الله ، ولا خافض ، ولا رافع إلا الله ، ولا معز ، ولا مذل إلا الله ، والتوحيد أن تعتقد أن الله لم ولن يسلمك إلى غيره .
( سورة هود الآية : 123 ) .
والموضوع الأول والحقيقة هو التوحيد ، وبعد التوحيد جاء التشريع ، ومعظم القرآن المكي يؤكد معنى التوحيد ، ومعنى الربوبية ، ويؤكد اليوم الآخر ، ثم جاءت آيات التشريع في المدينة المنورة تتحدث عن المعاملات التي إن صحت صحت العبادات .
وإن شاء الله أيها الإخوة نتابع هذا الموضوع في درس قادم .
والحمد لله رب العالمين