سورة الحديد
التسبيح لله، ودلائل عظمته وقدرته
الأمر بتوحيد الله والطاعة
حال المنافقين يوم القيامة
الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل، وجزاء المتصدقين والمؤمنين
تحقير حال الدنيا، والحث على عمل الآخرة
تعلق المصائب بالقضاء والقدر، وحال البخلاء
بعث الله الرسل لإقامة شرعه حكماً بين الناس
وحدة الشرائع في أصولها
بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية، التي تعنى بالتشريع والتربية والتوجيه، وتبني المجتمع الإِسلامي على أساس العقيدة الصافية، والخلق الكريم، والتشريع الحكيم.
* وقد تناولت السورة الكريمة "سورة الحديد" ثلاثة مواضيع رئيسية وهي:
أولاً: أن الكون كله لله جل وعلا، هو خالقه ومبدعه، والمتصرف فيه بما يشاء.
ثانياً: وجوب التضحية بالنفس والنفيس لإِعزاز دين الله، ورفع منار الإِسلام.
ثالثاً: تصوير حقيقة الدنيا بما فيها من بهرج ومتاعٍ خادع حتى لا يغتر بها الإِنسان.
* ابتدأت السور الكريمة بالحديث عن عظمة الخالق جلَّ وعلا الذي سبَّح له كل ما في الكون من شجر وحجر، ومدر، وإِنسانٍ، وحيوان، وجماد، فالكل ناطق بعظمته شاهد بوحدانيته.
* ثم ذكرت صفات الله الحسنى، وأسماءه العليا، فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والظاهر بآثار مخلوقاته، والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد، وهو الخالق للإِنسان والمدبر للأكوان.
* ثم تلتها الآيات وهي تدعو المسلمين إِلى البذل والسخاء والإِنفاق في سبيل الله بما يحقق عزة الإِسلام ورفعة شأنه، فلا بدَّ للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا والمثوبة في الآخرة.
* وتحدثت السورة عن أهل الإِيمان، وأهل النفاق، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، والمنافقون يتخبطون في الظلمات، كما كانوا في الدنيا يعيشون كالبهائم في ظلمات الجهل والغي والضلال.
* وتحدثت السورة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وصوّرتهما أدقَّ تصوير، فالدنيا دار الفناء، فهي زائلة فانية، كمثل الزرع الخصيب الذي ينبت بقوة بنزول الغيث، ثم يصفر ويذبل حتى يصير هشيماً وحطاماً تذروه الرياح، بينما الآخرة دار الخلود والبقاء، التي لا نصب فيها ولا تعب، ولا همَّ ولا شقاء.
* وختمت السورة الكريمة بالغاية من بعثة الرسل الكرام، والأمر بتقوى الله عز وجل، والاقتداء بهدي رسله وأنبيائه.
التسميَــة:
سميت السورة "سورة الحديد" لذكر الحديد فيها، وهو قوة الإِنسان في السلم والحرب، وعدته في البنيان والعمران، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة، وتشاد العمائر، وتصنع الدروع والسيوف والرماح، وتكون الدبابات والغواصات والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من منافع.
التسبيح لله، ودلائل عظمته وقدرته
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(6)}.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسانٍ، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عز وجل عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي قولهم، والحقُّ أن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السماوات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور {سَبَّحَ لِلَّهِ} بلفظ الماضي، وفي بعضها {يسبح لله} بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إِلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقتٍ دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ} أي هو جل وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور {وهوَ على كل شيءٍ قدير} أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ {قدير} مبالغة في القادر لأن "فعيل" من صيغ المبالغة {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقولُ إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث (أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف "الباطن" بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده، باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاً وأبداً {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} تحقيق لحكمته، وكمال علمه {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله {إليه يصعد الكلِمُ الطيب} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمال العباد، مطلع على كل صغيرة وكبيرة {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم {يولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهم في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.
الأمر بتوحيد الله والطاعة
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7)وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(8)هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(9)وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(10)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ(11)يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)}.
سبب النزول:
نزول الآية (7):
{آمِنُوا بِاللَّهِ}: نزلت في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك.
نزول الآية (10):
{ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ..}: ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال ابن جزي: يعني أن الأموال التي بأيديكم إِنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجنة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية {فَالَّذِينَ آمَنُوا} وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق {آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} وكرر الإِسناد {لَهُمْ} وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} أي والحالُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي وقد أخذ الله ميثاقكم - وهو العهد المؤكد - بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إِلى متابعة الرسول {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم .. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإِيمان فقال {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية {وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاً قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي لا يستوي في الفضل منَ أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإِنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في "أبي بكر" لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح، وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إِنفاقه مضاعفاً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجنة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال "أبو الدحداح الأنصاري" يا رسول الله: إِنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي - أي بستاني - وله فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها .. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل {بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويقال لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
حال المنافقين يوم القيامة
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(14)فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(15)}.
ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إِن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إِلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وارءهم، وإِنما هو إِقناطٌ لهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إِليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في أمر الدين {وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ } أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي حتى جاءكم الموتُ {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإِنسان قال تعالى {فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا ولا يَغرنكم بالله الغرور، إِنَّ الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً} {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكافرين الجاحدين بالله وآياته وفي الحديث (إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟! فيقول : نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسرُ من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم،أن لا تشرك بي فأبيتَ إِلا الشرك) {مَأْوَاكُمْ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي هي عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.
الدعوة إلى الرجوع لله عز وجل، وجزاء المتصدقين والمؤمنين
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16)اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ(18)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (16):
{أَلَمْ يَأْنِ ..}: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد العزيز بن أي رواد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي وما نزل من آيات القرآن المبين؟ {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل {فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حيث قست لما طال عليهم الزمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعاليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث . قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال أبو حيّان: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إِجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ} أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل {الْمُصَّدِّقِينَ} المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب {أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث إن الصيغة تشعر بالاختصاص {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} والصحبة تدل على الملازمة ..
تحقير حال الدنيا، والحث على عمل الآخرة
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}
ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب {وَلَهْوٌ} أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله {وَزِينَةٌ} أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنكُمْ} أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:
أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بنوا فوق المقابر بالصــخور
أبوا إلا مباهـاةً وفــخراً على الفقراء حتى في القبــور
{وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشئ عنه {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذروه الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنه يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إِن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المسارعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال {سَابِقُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ {سَابِقُوا} كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إِلى سبب مغفرة وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السماوات السبع مع الأرض مجتمعة قال السدي: إِن الله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو عطاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عباده من غير إِيجاب {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل.
تعلق المصائب بالقضاء والقدر، وحال البخلاء
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22)لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(23)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(24)}
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} أي ما يحدث في الأرض من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي من الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد {إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي إلاَّ وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال ابن جزي: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، وفي الحديث (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء) {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عز وجل وإِن كان عسيراً على العباد .. ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إِعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا ونعيمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: "ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً" ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين "من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب" وقال عمر رضي الله عنه: "ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير {وبشر الصابرين * الذين إِذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا للهِ وإِنَّا إِليه راجعون * أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس .. ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي ومن يعرض عن الإِنفاق {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وفيه وعيدٌ وتهديد.
بعث الله الرسل لإقامة شرعه حكماً بين الناس
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(25)}
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ، وقال ابن زيد: هو ما يُوزن به ويُتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغير ذلك {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعة إِلا والحديدُ آلة فيها، قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إِيجاده بالإِنزال كما قال {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد، قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب، وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام (بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنما شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض.
وحدة الشرائع في أصولها
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(27)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(28) لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)}
سبب النزول:
نزول الآية (28):
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الآية [القصص: 54] فَخَر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
نزول الآية (29):
{لِّئَلا يَعْلَمَ..}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة وهي "التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن" على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاةٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} أي ثم أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأنه كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين، قال ابن جزي: هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم {رحماء بينهم} {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى {ابْتَدَعُوهَا}أي أحدثوها من عند أنفسهم {إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع ولا معنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتهَا} أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي، قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عز وجل، وفي الحديث (لكل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله) {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثوابهم مضاعفاً {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى {إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي يعطكم ضعفين من رحمته {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي إِنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله {لِّئَلا} زائدة والمعنى ليعلم، قال المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أي والله واسع الفضل والإِحسان.