سورة الجاثية
مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله
جزاء المكذبين بآيات الله
التذكير بنعم الله على عباده
نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع
هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً
شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر
أحوال المطيعين والعاصين
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الجاثية مكية، وقد تناولت العقيدة الإِسلامية في إطارها الواسع "الإِيمان بالله تعالى ووحدانيته، الإِيمان بالقرآن ونبوة محمد عليه السلام، الإِيمان بالآخرة والبعث والجزاء" ويكاد يكون المحور الذي تدور حوله السورة الكريمة هو إِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين.
* تبتدئ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن ومصدره، وهو اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه، الذي أنزل كتابه المجيد رحمةً بعباده، ليكون نبراساً مضيئاً ينير للبشرية طريق السعادة والخير.
* ثم ذكرت الآيات الكونية المنبثة في هذا العالم الفسيح، ففي السموات البديعة ءاياتٌ، وفي الأرض الفسيحة ءاياتٌ، وفي خلق البشر وسائر الأنعام والمخلوقات ءاياتٌ، وفي تعاقب الليل والنهار، وتسخير الرياح والأمطار ءاياتٌ، وكلها شواهد ناطقة بعظمة الله وجلاله، وقدرته ووحدانيته، ثم تحدثت عن المجرمين المكذبين بالقرآن، الذين يسمعون ءاياته المنيرة، فلا يزدادون إلا استكباراً وطغياناً، وأنذرتهم بالعذاب الأليم في دركات الجحيم.
* وتحدثت السورة عن نعم الله الجليلة على عباده ليشكروه، ويتفكروا في آلائه التي أسبغها عليهم، ويعلموا أنَّ الله وحده هو مصدر هذه النعم، الظاهرة والباطنة، وأنه لا خالق ولا رازق إلا الله.
* وتحدثت عن إكرام الله لبني إسرائيل بأنواع التكريم، ومقابلتهم ذلك الفضل والإِحسان بالجحود والعصيان، وذكرت موقف الطغاة المجرمين من دعوة الرسل الكرام، وبيَّنت أنه لا يتساوى في عدل الله وحكمته أن يجعل المجرمين كالمحسنين، ولا أن يجعل الأشرار كالأبرار، ثم بيَّنت سبب ضلال المشركين، وهو إجرامهم واتخاذهم الهوى إلهاً ومعبوداً حتى طمست بصيرتهم فلم يهتدوا إلى الحق أبداً.
* وختمت السورة بذكر الجزاء العادل يوم الدين، حيث تنقسم الإِنسانية إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
التسميَــة:
سميت "سورة الجاثية" للأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب، حيث تجثوا الخلائق من الفزع على الركب في انتظار الحساب، ويغشى الناس من الأهوال ما لا يخطر على البال {وترى كل أُمةٍ جاثيةً، كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجزون ما كنتم تعملون} وحقاً إنه ليوم رهيب يشيب له الولدان
مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله
{حم(1) تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم(2) إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين(3)وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون(4)واختلاف الليل والنهار وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها وتصريفِ الرياحِ ءاياتٌ لقوم يعقلون(5) تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون(6)}.
{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله، العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال {إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين} أي إنَّ في خلق السماواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة، والأحوال الغريبة، والأمور البديعة، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته {وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون} أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض، ءاياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين {واختلاف الليل والنهار} أي وفي تعاقب الليل والنهار، دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وذاك بضيائه، بنظام محكم دقيق {وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ} أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم، قال ابن كثير: وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأن به يحصل الرزق {فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها} أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات {وتصريفِ الرياحِ} أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً، باردة وحارة {آياتٌ لقوم يعقلون} أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة، قال الصاوي: ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث ءايات، ختم الأولى بـ {للمؤمنين}، والثانية بـ {يوقنون} والثالثة بـ {يعقلون} ووجه التغاير بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السماوات والأرض، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إِيماناً فأيقن، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه {تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ} أي هذه ءايات الله وحججه وبراهينه، الدالة على وحدانيته وقدرته، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس {فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون}؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله، ولم يؤمنوا بحججه وبراهينه، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه.
جزاء المكذبين بآيات الله
{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم(7)يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذابٍ أليمٍ(8)وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ(8) من ورائهم جهنم ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ ولهم عذابٌ عظيم(10)هذا هُدىً والذين كفروا بآياتِ ربهم لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم(11)}.
سبب النزول:
نزول الآية (8):
{يسمع ءايات الله}: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.
{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم} أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام، قال الرازي: وهذا وعيدٌ عظيم، والأفَّاك الكذَّاب، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام {يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه} أي يسمع ءايات القرآن تُقرأ عليه، وهي في غاية الوضوح والبيان {ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها} أي ثم يدوم على حاله من الكفر، ويتمادى في غيّه وضلاله، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها {فبشِّرهُ بعذابٍ أليم} أي فبشرّه يا محمد بعذاب شديد مؤلم، وسمَّاه "بشارة" تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السارُّ، قال في التسهيل: وإِنما عطفه بـ "ثم" لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه ءايات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع، قال المفسرون: نزلت في "النضر بن الحارث" كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة {وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً} أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد، سخر واستهزأ بها {أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ} أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة {من ورائهم جهنم} أي أمامهم جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق {ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً} أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا من المال والولد {ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ} أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله {ولهم عذابٌ عظيم} أي ولهم عذاب دائم مؤلم، قال أبو السعود: وتوسيط النفي {ولا ما اتخذوا} مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد، مبنيٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم بهم {هذا هُدىً} أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به واتَّبعه {والذين كفروا بآياتِ ربهم} أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به، وتفظيع حالهم {لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم} أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤلمٌ موجعٌ، قال الزمخشري: والرجزُ أشدُّ العذاب، والمراد بـ {آياتِ ربهم} القرآن.
التذكير بنعم الله على عباده
{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر لتجري الفُلك فيه بأمره ولِتبْتغُوا من فضْلهِ ولعلكم تشكرون(12)وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون(13)قلْ لِّلَّذين آمنوا يغْفروا لِلَّذين لا يرجون أيامَ الله ليجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون(14)من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أَساءَ فعليها ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون(15)}.
سبب النزول:
نزول الآية (14):
{قل للذين آمنوا يغفروا}: ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد الله بن أُبيّ وجماعتهما، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المُصْطَلِق على بئر يقال لها: المُرَيْسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على قفّ - فم - البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، فبلغ عمر رضي الله عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قل للذين آمنوا يغفروا..}.
ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمهالجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر} أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعِظمه {لتجري الفُلك فيه بأمره} أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإِرادته، دون أن تغوص في أعماقه، قال الإِمام الفخر: خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن، وخلق الخشبة على وجهٍ تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله {ولِتبْتغُوا من فضْلهِ} أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، وصيد الأسماك وغيرها {ولعلكم تشكرون} أي ولأجل أن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل، قال القرطبي: ذكر تعالى كمال قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه، وإِحسانٌ منه وإِنعام {وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه} أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون، من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونباتٍ وأشجار، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه، من عنده وحده جلّ وعلا {إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون} أي إِنَّ فيما ذُكر لعِبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق، ومحاسن الأفعال فقال {قلْ للذين آمنوا يغْفروا للَّذين لا يرْجونَ أيَّام الله} أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحشة، قال مقاتل: شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية، والمرادُ من قوله {لا يرجون أيامَ الله} أي لا يخافون بأسِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله، قال ابن كثير: أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك تأليفاً لهم، ثم لما أصرُّوا على العناد، شرع الله للمؤمنين والجهاد {ليجزيّ قوماً بما كانوا يكسبون} وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام، والتنكيرُ للتحقير {من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أساءَ فعليها} أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه، ومن ارتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله {ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون} أي ثم مرجعكم يوم القيامة إلى الله وحده، فيجازي كلاً بعمله، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته.
نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع
{ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنبوَّة ورزقناهم من الطيِّباتِ وفضَّلناهم على العالمين(16)وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ بغْياً بينهم إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(17)ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها ولا تتَّبعْ أَهواء الذين لا يعلمون(18)إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ واللهُ وليُّ المتَّقين(19)هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون(20)}.
ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال {ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنُبوَّة} أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة، وفصل الحكومات بين الناس، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين {ورزقناهم من الطيبات} أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب، والأقوات والثمار {وفضَّلناهم على العالمين} أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم، قال الصاوي: والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا تحزن يا محمد على كفر قومك، فإِننا آتينا بني إسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر، فكذلك قومك {وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر} أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه، قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها {فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ} أي فما اختلفوا في ذلك الأمر، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه {بغْياً بينهم} أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة، قال الإِمام الفخر: والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، فلذلك علموا وعاندوا {إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية {ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها} أي ثم جعلناك يا محمد على طريقةٍ واضحة، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيّم {ولا تتَّبعْ أهواء الذين لا يعلمون} أي لا تتَّبع ضلالات المشركين، قال البيضاوي: لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش حيث قالوا : ارجع إلى دين ءابائك {إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً} أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم {وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ} أي وإِن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة {واللهُ وليُّ المتقين} أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة {هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون} أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن.
هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْترحوا السَّيئاتِ أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محيَاهُم ومماتهم ساءَ ما يحكمون(21)وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون(22)أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ وأضلَّه اللهُ على علمٍ وختم على سمْعهِ وقلبِه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله أفلا تذكَّرون(23)}.
سبب النزول:
نزول الآية (21):
{أم حسب الذين..}: قال الكلب : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عُتْبة وشَيْبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيَّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
نزول الآية (23):
{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}: أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الآية، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
نزول بقية الآية (23):
{وختم على سمعه وقلبه..} قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له: مَهْ، وما دلَّك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميِّه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكَمُل رشده نسميِّه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتَّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، والّلات والعُزَّى إن اتبعته أبداً، فنزلت: {وختم على سمعه وقلبه}.
{أَمْ حسِبَ الذينَ اجْترحوا السَّيئاتِ} الاستفهام للإِنكار والمعنى هل يظنُّ الكفار الفجار الذين اكتسبوا المعاصي والآثام {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي أن نجعلهم كالمؤمنين الأبرار {سواءً محياهم ومماتهم} أي نساوي بينهم في المحيا والممات؟ لا يمكن أن نساوي بين المؤمنين والكفار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإِن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية، وشتان بين الفريقين كقوله {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}؟ قال مجاهد: المؤمنُ يموت مؤمناً ويُبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويُبعث كافراً {ساء ما يحكمون} أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين، قال ابن كثير: ساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار، فكما لا يُجتنى من الشوكِ العنبُ، كذلك لا ينال الفُجَّار منازل الأبرار {وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ} أي وخلق الله السماواتِ والأرض بالعدل والأمر الحقِّ ليدل بهما على قدرته ووحدانيته {ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون} أي ولكي يُجزى كل إِنسان بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، دون أن يُنقص في ثواب المؤمن أو يُزاد في عذاب الكافر، قال شيخ زاده: لمّا خلق تعالى السماواتِ الأرض لإِجل إِظهار الحق، وكان خلقهما من جملة حكمته وعدله، لزم من ذلك أن ينتقم من الظالم لأجل المظلوم، فثبت بذلك حشر الخلائق للحساب {أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ} أي أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله وعبد هواه!! قال أبو حيّان: أي هو مطواعٌ لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، قال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه {وأضلَّه اللهُ على علمٍ} أي وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحاً وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يُعرض عن الحقِّ والهُدى عناداً كقوله تعالى {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلواً}{وختم على سمْعهِ وقلبِه} أي وطبع على سمعه وقلبه بحيث لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكرفي الآيات والنُّذر {وجعل على بصره غشاوةً} أي وجعل على بصره غطاء حتى لا يبصر الرشد، ولا يرى حجة يستضيء بها {فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله}؟ أي فمن الذي يستطيع أن يهديه بعد أن أضله الله؟لا أحد يقدر على ذلك {أفلا تذكَّرون} أي أفلا تعتبرون أيها الناس وتتعظون؟ قال الصاوي: وصف تعالى الكفار بأربعة أوصاف: الأول: عبادة الهوى، الثاني: ضلالهم على علم، الثالث: الطبع على أسماعهم وقلوبهم، الرابع: جعل الغشاوة على أبصارهم، وكلَّ وصفٍ منها مقتضٍ للضلالة، فلا يمكن إِيصال الهدى إليهم بوجهٍ من الوجوه.
شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر
{وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا وما يُهْلكنا إلا الدَّهر وما لهم بذلك من علمٍ إنْ هُم إِلاَّ يظُنُّون(24)وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ مَّا كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(25)قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون(26)وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون(27)وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون(28) هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون (29)}.
سبب النزول:
نزول الآية (24):
{وقالوا: ما هي إلا حياتنا ..}: أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله: {وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}.
ثم حكى تعالى عن المشركين شبهتهم في إنكار القيامة، وفي إِنكار الإِله القادر العليم، فقال {وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا} أي وقال المشركون: لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، ولا آخرة، ولا بعث، ولا نشور، قال ابن كثير: هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، ومرادهم أن ليس إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معادٌ ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه {وما يُهْلكنا إلا الدَّهر} أي وما يهلكنا إلا مرورُ الزمان، وتعاقبُ الأيام، قال الرازي: يريدون أن الموجب للحياة والموت تأثيراتُ الطبائع وحركاتُ الأفلاك، ولا حاجة إلى إثبات الخالق المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإِله وبين إِنكار البعث والقيامة، قال تعالى رداً عليهم {وما لهم بذلك من علمٍ} أي وليس لهم مستندٌ من عقل أو نقل، ولذلك أنكروا وجود الله من غير حجةٍ ولا بينة {إنْ هُم إِلاَّ يظنون} أي ما هم إلا قوم يتوهمون ويتخيلون، يتكلمون بالظن من غير يقين {وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت ءاياتُ القرآن على المشركين، واضحات الدلالة على البعث والنشور {ما كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أي ما كان متمسكهم في دفع الحق الصريح إلا أن يقولوا: أحيْوا لنا ءاباءنا الأولين، إِن كان ما تقولونه حقاً، سُمِّيَ قولهم الباطل حجةً على سبيل التهكم {قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم} أي قل لهم يا محمد: اللهُ الذي خلقكم ابتداءً حين كنتم نُطفاً هو الذي يميتكم عند انقضاء آجالكم، لا كما زعمتم أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر {ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه} أي ثم بعد الموت يبعثكم للحساب والجزاء كما أحياكم في الدنيا، فإِنَّ من قدر على البدء قدر على الإِعادة، والحكمةُ اقتضت الجمع للجزاء في يوم القيامة، الذي لا شك فيه ولا ارتياب {ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون} أي ولكنَّ أكثر الناس لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر، لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والجزاء .. ثم بيَّن إمكان الحشر والنشر وذكر تفاصيل أحوال يوم القيامة فقال {وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض} أي هو جل وعلا المالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية {ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون} أي ويوم القيامة يخسر الكافرون الجاحدون بآيات الله {وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً} أي وترى أيها المخاطب كل أمةٍ من الأمم جالسةً على الركب من شدة الهول والفزع، كما يجثوا الخصوم بين يدي الحاكم بهيئة الخائف الذليل، قال ابن كثير: وهذا إذا جيء بجهنم فإِنها تزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا جثا على ركبتيه {كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها} أي كلُّ أمةٍ من تلك الأمم تُدعى إلى صحائف أعمالها {اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون} أي يقال لهم: في هذا اليوم الرهيب تنالون جزاء أعمالكم من خيرٍ أو شر {هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ} أي هذا كتابُ أعمالكم يشهد عليكم بالحق من غير زيادةٍ ولا نقصان، قال في التسهيل: فإِن قيل: كيف أضاف الكتاب تارةً إِليهم وتارةً إِلى الله تعالى؟ فالجواب أنه أضافه إِليهم لأن أعمالهم ثابتةٌ فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه {إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون} أي كنَّا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم، وإِثباتها عليكم، قال المفسرون: تنسخ هنا بمعنى تكتب، وحقيقة النسخ هو النقل من أصلٍ إلى آخر، وقال ابن عباس: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكة الموكلون بديوان الأعمال ما كتبه الحفظة، بما قد أُبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، وبما كتبه الله في القِدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس يقول: ألستم عرباً، هل يكون الاستنساخ إلا من أصل.
أحوال المطيعين والعاصين
{فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته ذلك هو الفوزُ المُبِينُ(30)وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين(31)وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها قُلتم مَّا ندْري ما السَّاعةُ إن نَّظُنُّ إِلاَّ ظنَّاً وما نحنُ بمُستيْقنين(32)وبدا لهم سيئات ما عمِلوا وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون(33)وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاءَ يومِكم هذا ومأواكم النَّارُ وما لكم من نَّاصرين(34)ذلكم بأنكم اتَّخَذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً وغرتكم الحياةُ الدُّنيا فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون(35)فللَّهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)}.
ثم بيَّن تعالى أحوال كلٍ من المطيعين والعاصين فقال {فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته} أي فأما المؤمنون الصالحون المتقون لله في الحياة الدنيا، فيدخلهم الله في الجنة، سُميت الجنة رحمةً لأنها مكان تنزل رحمةِ الله {ذلك هو الفوزُ المبينُ}أي ذلك هو الفوز العظيم، البيّن الظاهر الذي لا فوز وراءه {وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم} أي وأمَّا الكافرون فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: أفلم تكن الرسل تتلو عليكم ءايات الله؟ {فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين} أي فتكبرتم عن الإِيمان بها، وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مغرقين في الإِجرام {وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ} أي وإِذا قيل لكم إن البعث كائن لا محالة {والساعةُ لا ريبَ فيها} أي والقيامة آتيةٌ لا شك في ذلك ولا ريب {قُلتم ما ندْري ما السَّاعةُ} أي قلتم لغاية عتوكم: أيُّ شيء هي؟ أحقٌّ أم باطل؟ قال البيضاوي: قالوا هذا استغراباً واستبعاداً وإِنكاراً لها {إن نظنُّ إِلاَّ ظناً} أي لا نصدِّق بها ولكن نسمع الناس يقولون: إِنَّ هناك آخرة فنتوهم بها توهماً {وما نحنُ بمُستيْقنين} أي ولسنا مصدِّقين بالآخرة يقيناً، وهذا تأكيد منهم لإِنكار القيامة {وبدا لهم سيئات ما عمِلوا} أي وظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم {وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا {وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاء يومِكم هذا} أي ويقال لهم: اليوم نترُككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد فلم تعملوا لآخرتكم {ومأواكم النارُ} أي ومستقركم في نار جهنم {وما لكم من ناصرين} أي وليس لكم من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله {ذلكم بأنكم اتخذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء، بسبب أنكم سخرتم من كلام الله واستهزأتم به {وغرتكم الحياةُ الدنيا} أي خدعتكم الدنيا بزخارفها وأباطليها، حتى ظننتم ألاَّ حياة سواها، وأَلاَّ بعث ولا نشور {فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون} أي فاليوم لا يُخْرجون من النار، ولا يُطلبُ منهم أن يرضوا ربَّهُم بالتوبة والطاعة لعدم نفعها يومئذٍ {فللهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض ربِّ العالمين} أي فلله الحمد خاصة لا يتسحق الحمد أحدٌ سواه لأنه الخالق والمالك لجميع المخلوقات والكائنات {وله الكبرياءُ في السماوات والأرض} أي وله العظمة والجلال، والبقاء والكمال في السماوات والأرض {وهو العزيز الحكيم} أي الغالب الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه وفعله وتدبيره.