سورة الإسراء
معجزة الإِسراء وتنزيل التوراة على موسى عليه السلام
فساد بني إسرائيل وعلوهم
من أهداف القرآن: الهداية للأحسن
آيات الله الكونية في هذا الوجود
التفريق بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
التوحيد وبر الوالدين وعدم التبذير من علامات الإيمان
محرمات يجب التنبه لها والابتعاد عنها
توبيخ للعرب على نسبة الولد والشريك لله تعالى
حماية الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين عند قراءة القرآن وهروبهم عند ذكر الله
إنكار المشركين البعث وتبيين قدرة الله في الإحياء
الآمر بمجادلة الآخرين بالحسنى
تفنيد آخر لشبهات المشركين
سجود الملائكة لآدم وقصته مع إبليس
التذكير ببعض نعم الله على الإنسان
تكريم بني آدم
كيفية دعاء الناس يوم الحشر
أوامر وتوجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم
عجز الثقلين عن الإتيان بمثل القرآن
محاولة المشركين تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم
التأكيد على بشرية الرسول وأن الرسل تبعث لهداية الخلائق
إيتاء سيدنا موسى عليه السلام تسع آيات وتنزيل القرآن
دعاء الله بالأسماء الحسنى
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الإِسراء من السور المكية التي تهتم بشؤون العقيدة، شأنها كشأن سائر السور المكية من العناية بأصول الدين "الوحدانية، والرسالة، والبعث" ولكنَّ العنصر البارز في هذه السورة الكريمة هو "شخصية الرسول" صلى الله عليه وسلم، وما أيده الله به من المعجزات الباهرة، والحجج القاطعة، الدالة على صدقه عليه الصلاة والسلام.
* تعرضت السورة الكريمة لمعجزة الإِسراء، التي كانت مظهراً من مظاهر التكريم الإِلهي، لخاتم الأنبياء والمرسلين، وآية باهرة تدل على قدرة الله جل وعلا في صنع العجائب والغرائب.
* وتحدثت عن بني إسرائيل، وما كتب الله عليهم من التشرد في الأرض مرتين، بسبب طغيانهم وفسادهم وعصيانهم لأوامر الله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ.. } الآيات.
* وتحدثت عن بعض الآيات الكونية، التي تدل على العظمة والوحدانية، وعن النظام الدقيق الذي يحكم الليل والنهار، ويسير وفق ناموس ثابت لا يتبدل { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ... } الآيات.
* وتعرضت السورة إلى بعض الآداب الاجتماعية، والأخلاق الفاضلة الكريمة، فحثت عليها، ودعت إلى التحلي بها ليكون هناك المجتمع المثالي الفاضل بدءاً من قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.. } الآيات.
* وتحدثت عن ضلالات المشركين حيث نسبوا إلى الله تعالى الصاحبة والولد، والعجيب في أمرهم أنهم يكرهون البنات، ثم ينسبونها إلى العلي الكبير، المنزه عن الشبيه والنظير {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا..} الآيات.
* وتحدثت عن البعث والنشور، والمعاد والجزاء، الذي كثر حوله الجدل، وأقامت الأدلة والبراهين على إمكانه، ثم تحدثت عن القرآن العظيم، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وذكرت تعنت المشركين في اقتراحاتهم، حيث طلبوا معجزة أخرى غير القرآن، أن يفجّر لهم الأنهار، ويجعل مكة حدائق وبساتين {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لنا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا..} الآيات.
* ثم ختمت السورة بتنزيه الله عن الشريك والولد، وعن صفات النقص {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} .
التسِـميـَــــة:
سميت السورة الكريمة "سورة الإِسراء" لتلك المعجزة الباهرة معجزة الإِسراء التي خص الله تعالى بها نبيه الكريم.
اللغــــَـــة:
{سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى عن كل سوء ونقصٍ وهو خاصٌ به سبحانه {أَسْرَى} الإِسراء: السيرُ ليلاً يقال: أسرى وسرى لغتان قال الشاعر:
سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم
{فَجَاسُوا} قال الزجاج: طافوا، والجَوْسُ: الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي: الجوسُ هو التردُّد والطلب {الْكَرَّةَ} الدَّولة والغَلَبة {تَتْبِيرًا} هلاكاً ودماراً {فَمَحَوْنَا} طمسنا قال علماء اللغة: المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره {طَائِرَهُ} عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال {مُتْرَفِيهَا} المُتْرفُ: المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش { يَصْلاهَا} يدخلها ويذوق حرَّها {مَدْحُورًا} مطروداً مبعداً من رحمة الله.
معجزة الإسراء وتنزيل التوراة على موسى عليه السلام
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً(2)ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(3)}.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله، اللهُ العليُّ الشأن، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم في جزءٍ من الليل.
{مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.
قال المفسرون: وإنما قال {لَيْلاً} بلفظ التنكير لتقليل مدة الإِسراء، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ {سُبْحَانَ} الدال على كمال القدرة، وبالغ الحكمة، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، وكان الإِسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً.
{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار.
{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} أي لنريَ محمداً صلى الله عليه وسلم آياتنا العجيبة العظيمة، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض، فقد رأى صلوات الله عليه السماواتِ العُلى والجنةَ والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى.
{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعالة، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً.
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان.
{أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} أي لا تتخذوا لكم رباً تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون: لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة.
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه.
{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله.
فساد بني إسرائيل وعلوهم
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُئوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7)عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8)}
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة.
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} أي ليحصلنَّ منكم الإِفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس: أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام.
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلم والعدوان وانتهاك محارم الله.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي أُولى المرتين من الإِفساد {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بُخْتنَصَّر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده، وذلك أول الفسادين.
{ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد.
{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلةَ والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد.
{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ} أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها، فهو الغني عن العباد، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية {لِيَسئوا وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإذلال والقهر {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي لعل الله يرحمكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و {عَسَى} من الله واجبة {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين.
من أهداف القرآن: الهداية للأحسن
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(10)وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً(11)}
ثم بيَّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل، ولما هو أعدل وأصوب {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ} أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك، قال ابن عباس: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحبُّ أن يستجاب له: اللهمَّ أهلكه اللهمَّ دمّره ونحوه {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} أي ومن طبيعة الإِنسان العجلة، يتعجل بالدعاء على نفسه ويسارع لكل ما يخطر بباله، دون النظر في عاقبته.
آيات الله الكونية في هذا الوجود
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا(12)وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً(15)وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17)}
ثم أشار تعالى إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، التي كلٌ منها برهانٌ نيرِّ على وحدانية الله فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أي علامتين عظيمتين على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {فَمَحَوْنا ءايَةَ الليلِ} أي طمسنا الليل فجعلناه مظلماً لتسكنوا فيه {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي جعلنا النهار مضيئاً مشرقاً بالنور ليحصل به الإِبصار {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} أي لتطلبوا في النهار أسباب معيشتكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي ولتعلموا عدد الأيام والشهور والأعوام، بتعاقب الليل والنهار، فالليل للراحة والسكون، والنهار للكسب والسعي {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي وكلَّ أمرٍ من أمور الدنيا والدين، بينَّاه أحسن تبيين، وليس شيء من أمر هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجُزاف، وإنما هو بتقديرٍ وتدبيرٍ حكيم {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي إن الإِنسان مرهون بعمله مجزي به، وعملُه ملازم له لزوم القلادة للعنُقُ لا ينفك عنه أبداً {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} أي نظهر له في الآخرة كتاب أعماله مفتوحاً، فيه حسناته وسيئاته فيرى عمله مكشوفاً لا يملك إخفاءه أو تجاهله {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي إقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت، لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي من اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلَّ فعقاب كفره وضلاله عليها {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي وما كنا معذبين أحداً من الخلق حتى نبعث لهم الرسل مذكرين ومنذرين فتقوم عليهم الحجة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي وإذا أردنا هلاك قوم من الأقوام أمرنا المتنعِّمين فيها والقادة والرؤساء بالطاعة على لسان رسلنا فعصوا أمرنا وخرجوا عن طاعتنا وفسقوا وفجروا {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي فوجب عليهم العذاب بالفسق والطغيان فأهلكناهم إهلاكاً مُريعاً قال ابن عباس: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} أي سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكم الله بالعذاب {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} أي وكثير من الأمم الطاغية المكذبين للرسل أهلكناهم من بعد نوح، كقوم عاد وثمود وفرعون. قال ابن كثير: والآية إنذار لكفار قريش والمعنى إنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي كفى يا محمد أن يكون ربك رقيباً على أعمال العباد، يدرك بواطنها وظواهرها ويجازي عليها.
التفريق بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً(21)}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط ولها يعمل ويسعى ليس له همٌّ إلا الدنيا، عجلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها، لا كلَّ ما يريد {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} أي ثم جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمه الله {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإيمان {فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص، والعمل الصالح، والإِيمان، كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول، مثاباً عليه {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أيْ ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير، وهذا شريف وذاك حقير {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار، لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
المنَاسَبَة: لما جعل تعالى الإيمان والعملَ الصالح أساساً للفوز بالسعادة الأبدية، وبيَّن حال المؤمن الذي أراد بعمله الدار الآخرة، ذكر هنا طائفةً من الأوامر والزواجر التي يقوم عليها بنيان المجتمع الصالح، ثم ذكر تعالى موقف المشركين المكذبين من هذا القرآن العظيم.
التوحيد وبر الوالدين وعدم التبذير من علامات الإيمان
{ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً(22)وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24)رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا(25)وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا(28)وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا(29)إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(30)}
{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي حكم تعالى وأمر بأن لا تعبدوا إلهاً غيره. وقال مجاهد: {وَقَضَى} يعني وصَّى بعبادته وتوحيده {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمر بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً قال المفسرون: قرن الله تعالى بعبادته برَّ الوالدين لبيان حقهما العظيم على الولد لأنهما السبب الظاهر لوجوده وعيشه، ولما كان إحسانهما إلى الولد قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسان الولد إليهما كذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أي قد أوصيناك بهما وبخاصة إذا كبرا أو كبر أحدهما، وإنما خصَّ حالة الكِبَر لأنهما حينئذٍ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى {عِنْدَكَ} أي في كنفك وكفالتك {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي لا تقل للوالدين أقل كلمة تظهر الضجر ككلمة أفٍّ ولا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولو بكلمة التأفف {وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي لا تزجرهما بإغلاظٍ فيما لا يعجبك منهما {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} أي قل لهما قولاً حسناً ليناً طيباً بأدبٍ ووقار وتعظيم {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألنْ جانبك وتواضعْ لهما بتذلّل وخضوع من فرط رحمتك وعطفك عليهما {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} أي ادع لهما بالرحمة وقل في دعائك يا رب ارحم والديَّ برحمتك الواسعة كما أحسنا إليَّ في تربيتهما حالة الصغر {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بما في ضمائركم من إرادة البر أو العقوق {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} أي إن تكونوا قاصدين للبِرّ والصلاح دون العقوق والفساد فإنه جلَّ وعلا يتجاوز عن سيئاتكم ويغفر للأوابين وهم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين قال الرازي: والمقصود من هذه الآية أن الأولى لما دلَّت على وجوب تعظيم الوالدين ثم إن الولد قد يظهر منه ما يخلُّ بتعظيمهما فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلَّة البشرية كانت في محل الغفران، وبمناسبة الإحسان إلى الوالدين يأمر تعالى بالإحسان إلى الأقارب والضعفاء والمساكين {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي أعط كلَّ من له قرابة بك حقَّه من البر والإحسان {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} أي وأعط المسكين المحتاج والغريبَ المنقطع في سفره حقَّه أيضاً {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} أي لا تنفق مالكَ في غير طاعة الله فتكون مبذّراً، والتبذير الإنفاق في غير حق قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كلَّه في الحق لم يكن مبذّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذّراً وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} هذا تعليل للنهي وهو غاية في الذم والتقبيح أي إن المبذرين كانوا أمثال الشياطين وأشباههم في الإفساد، لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر والمعصية فَهُمْ أمثالهم {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} أي مبالغاً في كفران نعمة الله لا يؤدي حقَّ النعمة كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، والمطلوب أن ينفقوا في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا} أي إن أعرضتَ عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدْهم وعداً جميلاً ) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ( تمثيلٌ للبخل أي لا تكنْ بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً فمثلك عندئذ كمثل من حبست يده عن الإنفاق وشدَّت إلى عنقه {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} تمثيل للتبذير أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء، والغرض من الآية لا تكن بخيلاً ولا مسرفاً {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} أي فتصير مذموماً من الخَلْق والخالق، منقطعاً من المال كمن انقطع في سفره بانقطاع مطيته {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيِّق على من يشاء، وهو القابض، الباسط المتصرف في خلقه، بما يشاء حسب الحكمة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي إنه عالم بمصالح العباد، والتفاوتُ في الأرزاق ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح فهو تعالى يعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم.
محرمات يجب التنبه لها والابتعاد عنها
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31)وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً(32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا(33)وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً(34)وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(35)وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً(36) وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً(37)كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38)ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا(39)}
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي لا تُقدموا على قتل أولادكم مخافة الفقر ) نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي رزقُهم علينا لا عليكم فنحن نرزقهم ونرزقكم فلا تخافوا الفقر بسببهم {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أي قتلُهم ذنبٌ عظيم وجرمٌ خطير قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يئدون البنات مخافة الفقر أو العار فنهاهم الله عن ذلك وضمن أرزاقهم {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أي لا تدنوا من الزنى وهو أبلغ من "لا تزنوا" لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنى كاللَّمس، والقُبلة، والنظرة، والغمز وغير ذلك مما يجرُّ إلى الزنى فالنهي عن القرب أبلغ من النهي عن الفعل {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إي إن الزنى كان فعلة قبيحة متناهية في القبح {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي ساء طريقاً موصلاً إلى جهنم {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا تقتلوا نفساً حرَّم الله قتلها بغير حقٍ شرعي موجب للقتل كالمرتد، والقاتل عمداً، والزاني المحصن {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} أي ومن قُتل ظلماً بغير حقٍ يوجب قتله فقد جعلنا لوارثه سلطةً على القاتل بالقصاص منه، أو أخذ الدية، أو العفو {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} أي فلا يتجاوز الحدَّ المشروع بأن يقتل غير القاتل أو يُمثّل به أو يقتل اثنين بواحد كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فحسبُه أن الله قد نصره على خصمه فليكن عادلاً في قصاصه {وَلا تَقْرَبُوامَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أحسن وهي حفظه واستثماره {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي حتى يبلغ اليتيم سن الرشد ويحسن التصرف في ماله {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} أي وفّوا بالعهود سواءً كانت مع الله أو مع الناس لأنكم تُسألون عنها يوم القيامة {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} أي أتموا الكيل إذا كلتم لغيركم من غير تطفيفٍ ولا بَخْس {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ بلا احتيالٍ ولا خديعة {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خيرٌ في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتَّبعْ ما لا تعلم ولا يَعْنيك بل تثبَّتْ من كل خبر، قال قتادة: لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} أي إن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن حواسه: عن سمعه، وبصره، وقلبه وعما اكتسبته جوارحه {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} أي لا تمش في الأرض مختالاً مشية المعجب المتكبر {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} هذا تعليل للنهي عن التكبر والمعنى أنك أيها الإِنسان ضئيل هزيل لا يليق بك التكبر ؟ كيف تتكبر على الأرض ولن تجعل فيها خرقاً أو شقاً ؟ وكيف تتطاول وتتعظَّمْ على الجبال ولن تبلغها طولاً ؟ فأنت أحقر وأضعف من كل واحدٍ من الجماديْن فكيف تتكبر وتتعالى وتختال وأنت أضعف من الأرض والجبال؟ وفي هذا تهكم وتقريع للمتكبرين {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} أي كل ذلك المذكور الذي نهى الله عنه كان عمله قبيحاً ومحرماً عند الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} أي ذلك الذي تقدم من الآداب والقصص والأحكام بعضُ الذي أوحاه إليك ربك يا محمد من المواعظ البليغة، والحِكَم الفريدة {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} أي لا تشرك مع الله غيره من وثنٍ أو بشر فتلقى في جهنم ملوماً تلوم نفسك ويلومك اللهُ والخلق مطروداً مبعداً من كل خير قال الصاوي: ختم به الأحكام كما ابتدأها إشارةً إلى أن التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاها، وهو رأس الأشياء وأساسُها، والأعمالُ بدونه باطلةٌ لا تفيد شيئاً.
توبيخ للعرب على نسبة الولد والشريك لله تعالى
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا(40)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا(41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43)تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(44)}
{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} خطابٌ على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى أفَخَصَّكُمْ ربكم وأخلصكم بالذكور واختار لنفسه - على زعمكم - البنات؟ كيف يجعل لكم الأعلى من النسل ويختار لنفسه الأدنى! {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} أي إنكم لتقولون قولاً عظيماً في شناعته وبشاعته حيث تنسبون إليه البنات وتجعلون لله ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} أي ولقد بينّا للناس في هذا القرآن العظيم الأمثال والمواعظ، والوعد والوعيد، ليذكروا بما فيه من الحجج النيِّرة والبراهين الساطعة، فينْزجروا عما هم فيه من الشرك والضلال {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا} أي وما يزيدهم هذا البيان والتذكير إلا تباعداً عن الحق، وغفلةً عن النظر والاعتبار {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} أي لو فرضنا أن مع الله آلهة أخرى كما يزعم هؤلاء المشركون إذاً لطلبوا طريقاً إلى مغالبة ذي العزة والجلال ليسلبوا ملكه كما يفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي تنزَّه تعالى وتقدَّس عما يقول أولئك الظالمون، وتعالى ربنا عما نسبوه إليه من الزور والبهتان تعالياً كبيراً، فإن مثل هذه الفِرية مما يتنزّه عنه مقامه الأسمى قال الشهاب: وذكر العلُوِّ بعد عنوانه بـ {ذِي الْعَرْشِ} في أعلى مراتب البلاغة لأنّه المناسب للعظمة والجلال {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي تسبح له الكائنات، وتنزهه وتقدسه الأرض والسموات، ومن فيهن من المخلوقات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء في هذا الوجود إلا ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جلَّ وعلا، السماواتُ تسبّح الله في زرقتها، والحقولُ في خضرتها، والبساتينُ في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياهُ في خريرها، والطيورُ في تغريدها، والشمسُ في شروقها وغروبها، والسحبُ في إمطارها، والكل شاهد بالوحدانية للّه.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدُ
{وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي ولكنْ لا تفهمون تسبيح هذه الأشياء لأنها ليست بلغاتكم {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي إنه تعالى حليم بالعباد لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، غفورٌ لمن تاب وأناب، ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيزٍ مقتدر.
حماية الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين عند قراءة القرآن وهروبهم عند ذكر الله
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا(45)وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا(46)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا(47)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً(48)}
{وَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} أي وإِذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالآخرة جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفياً يحجب عنهم فهم القرآن وإِدراك أسراره وحِكمه {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي وجعلنا على قلوب هؤلاء الكفار أغطيةً لئلا يفهموا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي صمماً يمنعهم من استماعه {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} أي وإِذا وحَّدت الله وأنت تتلو القرآن فرَّ المشركون من ذلك هرباً من استماع التوحيد {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالغاية التي يستمعون من أجلها للقرآن وهي الاستهزاء والسخرية قال المفسرون: كان المشركون يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم مظهرين الاستماع وفي الواقع قاصدين الاستهزاء فنزلت الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمشركين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي حين يستمعون إلى قراءتك يا محمد ثم يتناجون ويتحدثون بينهم سراً {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا} أي حين يقول أولئك الفجرة ما تتبعون إلا رجلاً سُحِر فجُنَّ فاختلط كلامه {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} أي انظر يا محمد وتعجَّبْ كيف يقولون تارة عنك إنك ساحر، وتارة إنك شاعر، وتارة إنك مجنون ! وقد ضلوا بهذا البهتان والزور {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي لا يجدون طريقاً إلى الهدى والحق المبين.
المنَـــاسَــبَة:
لما ذكر الله تعالى موقف المشركين من القرآن العظيم، وذكر تعاميهم عن فهم آياته البينات، أردفه بذكر شبهاتهم في إنكار البعث والنشور وكرَّ عليها بالإِبطال والتنفيذ، ثم ذكر قصة آدم وإبليس للعظة والاعتبار، وأعقبها بذكر نعمه العظيمة على العباد ثم بالوعيد والتهديد إن أصرَّوا على الكفر والجحود.
سَبَبُ النّزول:
أ- عن ابن عباس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئتَ أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئتَ نعطيهم الذي سألوا فإن كفروا وأُهلكوا، فقال: لا بل أستأني بهم فنزلت {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ}.
ب- لما ذكر تعالى شجرة الزقوم في القرآن قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً يخوّفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تُحرق الشجر؟ ومحمد يزعم أن النار تُنْبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم. هو التمر والزُّبد، يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به فقال: تزقّموا من هذا الذي يخوّفكم به محمد فأنزل الله تعالى {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} .
إنكار المشركين البعث وتبيين قدرة الله في الإحياء
{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49)قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50)أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا(51)يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً(52)}
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} استفهام وإنكار أي قال المشركون المكذبون بالبعث أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذراتٍ مفتتة كالتراب {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي هل سنُبعث ونُخْلق خلقاً جديداً بعد أن نبلى ونفنى ؟ {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} أي قل لهم يا محمد لو كنتم حجارةً أو حديداً لقدر الله على بعثكم وإحيائكم فضلاً عن أن تكونوا عظاماً ورفاتاً فإن الله لا يعجزه شيء، فالحجارة والحديد أبعد عن الحياة وهي أصلب الأشياء ولو كانت أجسامكم منها لأعادها الله فكيف لا يقدر على إعادتكم إذا كنتم عظاماً ورفاتاً؟ {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي أو كونوا خلقاً آخر أوغل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يصعب في نفوسكم تصوُّرُ الحياة فيه فسيبعثكم الله قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} ؟ أي من الذي يردنا إلى الحياة بعد فنائنا {قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل لهم يعيدكم القادر العظيم الذي خلقكم وأنشأكم من العدم أول مرة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} ؟ أي يحركون رؤوسهم متعجبين مستهزئين ويقولون استنكاراً واستبعاداً متى يكون البعث والإِعادة؟ {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا( أي لعله يكون قريباً فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً} أي سيكون بعثكم يوم الحشر الأكبر يوم يدعوكم الرب جل وعلا للاجتماع في المحشر فتجيبون لأمره، وتظنون لهوْل ما ترون أنكم ما أقمتم في الدنيا إلا زمناً قليلاً.
الأمر بمجادلة الآخرين بالحسنى
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(53)رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(55)}
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي قل لعبادي المؤمنين يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلمة الطيبة ويختاروا من الكلام ألطفه وأحسنه وينطقوا دائماً بالحسنى {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي إن الشيطان يُفسد ويُهيج بين الناس الشرَّ ويُشعل نار الفتنة بالكلمة الخشنة يفُلت بها اللسان {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} أي ظاهر العداوة للإِنسان من قديم الزمان يتلمس سقَطَات لسانه ليُحْدث العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه {ربكُمْ أَعْلمُ بكم إنْ يَشَأْ يرحَمْكُم أو إنْ يَشَأْ يعذبْكم} أي ربكم أيها الناس أعلم بدخائل نفوسكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإِيمان، وإن يشأ يعذبكم بالإِماتة على الكفر والعصيان {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي وما جعلناك يا محمد حفيظاً على أعمال الكفار كفيلاً عنهم لتقسرهم على الإِيمان إنما أرسلناك نذيراً فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إنتقالٌ من الخصوص إلى العموم أي ربك جلَّ وعلا أعلمُ بعباده بأحوالهم ومقاديرهم فيخص بالنبوة من شاء من خلقه، وهو أعلم بالسعداء والأشقياء، والآية ردٌّ على المشركين حيث استبعدوا النبوة على رسول الله وقالوا: كيف يكون يتيم أبي طالب نبياً؟ وكيف يكون هؤلاء الفقراء الضعفاء أصحابه دون الأكابر والرؤساء؟ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} أي فضلنا بعض الأنبياء على بعض حسب علمنا وحكمتنا وخصصناهم بمزايا فريدة، فاصطفينا إبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالتكليم، وسليمان بالمُلْك العظيم، ومحمداً بالإِسراء والمعراج وجعلناه سيّد الأولين والآخرين، وكلُّ ذلك فعل الحكيم العليم الذي لا يصدر شيءٌ إلا عن حكمته {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} أي وأنزلنا الزبور على داود المشتمل على الحكمةِ وفصلِ الخطاب.
تفنيد آخر لشبهات المشركين
{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(57)وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58)وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا(59)وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا(60)}
{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه تعالى، قال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيراً فقد كانوا يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} أي فلا يستطيعون رفع البلاء عنكم ولا تحويله إلى غيركم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم من دون الله هم أنفسهم يبتغون القرب إلى الله، ويتوسلون إليه بالطاعة والعبادة، فكيف تعبدونهم معه؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أي يرجون بعبادتهم رحمته تعالى ويخافون عقابه ويتسابقون إلى رضاه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} أي عذابه تعالى شديد ينبغي أن يُحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} أي ما من قريةٍ من القرى الكافرة التي عصتْ أمر الله وكذَّبتْ رسله إلا وسيهلكها الله إما بالاستئصال الكلي أو بالعذاب الشديد لأهلها {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي كان ذلك حكماً مسطراً في اللوح المحفوظ لا يتغيَّر {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} قال المفسرون: اقترح المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزاتٍ عظيمة منها أن يقلب لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال، فأخبره تعالى أنه أجابهم إلى ما طلبوا ثم لمَّا لم يؤمنوا استحقوا عذاب الاستئصال، وقد اقتضت حكمته تعالى إمهالهم لأنه علم أنَّ منهم من يؤمن أو من أولادهم فلهذا السبب ما أجابهم إلى ما طلبوا، أو المعنى ما منعنا من إرسال المعجزات والخوارق التي اقترحها قومك إلاّ تكذيبُ مَنْ سبقهم من الأمم حيث اقترحوا ثم كذبوا فأهلكهم الله ودمَّرهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} أي وأعطينا قوم صالح الناقة آيةً بينة ومعجزةً ساطعة واضحة فكفروا بها وجحدوا بعد أن سألوها فأهلكهم الله {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} أي وما نرسل بالآيات الكونية كالزلازل والرعد والخسوف والكسوف إلا تخويفاً للعباد من المعاصي، قال قتادة: إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويرجعون {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أي واذكر يا محمد حين أخبرناك أن الله أحاط بالناس علماً في الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم وقد علم أنهم لن يؤمنوا ولو جئتهم بما طلبوا من الآيات والمعجزات {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عياناً ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء إلا امتحاناً وابتلاءً لأهل مكة حيث كذبوا وكفروا وارتد بعض الناس لما أخبرهم بها، قال البخاري عن ابن عباس: هي رؤيا عينٍ أُريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسريَ به وليست برؤيا منام {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم إلا فتنةً أيضاً للناس، قال ابن كثير: لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم كذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكماً: هاتوا لنا تمراً وزُبْداً وجعل يأكل من هذا بهذا، ويقول: تزقّموا فلا نعلم الزقوم غير هذا {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا} أي ونخوّف هؤلاء المشركين بأنواع العذاب والآيات الزاجرة فما يزيدهم تخويفنا إلا تمادياً وغياً واستمراراً على الكفر والضلال، فماذا تنفع معهم الخوارق؟ ما زادتهم خارقة الإِسراء والمعراج، ولا خارقة التخويف بشجرة الزقوم إلا استهزاءً وإمعاناً في الضلال.
سجود الملائكة لآدم وقصته مع إبليس
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا(64)إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً(65)}
ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان سببه إغواء الشيطان ولهذا ذكر قصته عقب ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} أي أذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى افتخاراً على آدم واحتقاراً له {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} استفهامُ إنكاري أي أأسجد أنا العظيم الكبير لهذا الضعيف الحقير الذي خلقته من الطين؟ كيف يصح للعالي أن يسجد للداني؟ { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي قال إبليس اللعين جراءةً على الربّ وكفراً به: أتُرى هذا المخلوق الذي فضَّلته عليَّ وجعلتَه أكرَم مني عندك؟ {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً} أي لئن أنظرتني وأبقيتني حياً إلى يوم القيامة لأستأصلنَّ ذريته بالإِغواء والإِضلال، قال الطبري: أقسم عدوُّ الله فقال لربه: لئن أخرتَ إهلاكي إلى يوم القيامة لأستأصلنَّهم ولأستميلنَّهم وأضلنَّهم إلا قليلاً منهم {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} أي قال الرب جلَّ وعلا: إذهب فقد أنظرتُك وابذل جهدك فيهم فمن أطاعك من ذرية آدم فإن جزاءك وجزاءهم نارُ جهنم جزاء كاملاً وافراً لا ينقص لكم منه شيء، قال القرطبي: والأمر في {اذْهَبْ} أمرُ إهانة والمعنى اجهد جهدك فقد أنظرناك {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخفف واستجهل وحرِّكْ من أردتَ أن تستفزَّه فتخدعه بدعائك إلى الفساد، قال ابن عباس: صوتُه كلُّ داعٍ يدعو إلى معصية الله تعالى، وقال مجاهد: صوته الغناء والمزامير واللهو {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي صِحْ عليهم بأعوانك وجنودك من كل راكبٍ وراجل، قال الطبري: المعنى اجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يصيح عليهم بالدعاء إلى طاعتك، والصرفِ عن طاعتي، قال ابن عباس: خيلُه ورَجِله كلُّ راكبٍ وماشٍ في معصية الله تعالى، وقال الزمخشري: الكلام واردٌ مورد التمثيل، مُثِّلَتْ حالُه في تسلطه على من يُغويه بفارسٍ مغوار أوقع على قومٍ فصوَّت بهم صوتاً يستفزهم عن أماكنهم، ويُقلقهم عن مراكزهم، وأجلبَ عليهم بجنده من خيَّالةٍ ورجَّالة حتى استأصلهم {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ} أي اجعل لنفسك شركة في أموالهم وأولادهم، أما الأموال فبكسبها من الحرام وإنفاقها في المعاصي، وأما الأولاد فبتحسين اختلاط الرجال بالنساء حتى يكثر الفجور ويكثر أولاد الزنى {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي عدْهم بالوعود المغرية الخادعة والأماني الكاذبة، كالوعد بشفاعة الأصنام، والوعد بالغِنى من المال الحرام، والوعد بالعفو والمغفرة وسَعَة رحمة الله، والوعد باللذة والسرور في ارتكاب الموبقات كقول الشاعر:
خذوا بنصيبٍ من سرورٍ ولذةٍ فكلٌ وإن طال المدى يتصرَّم
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إنَّ عبادي المخلصين ليس لك عليهم تسلطٌ بالإِغواء لأنهم في حفظي وأماني {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي كفى بالله تعالى عاصماً وحافظاً لهم من كيدك وشرك.
التذكير ببعض نعم الله على الإنسان
{رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(66)وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا(67)أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا(68)أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا(69)}
ثم ذكَّر تعالى العباد بإحسانه ونعمه عليهم وبآثار قدرته ووحدانيته فقال {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي ربكم أيها الناس هو الذي يُسيّر لكم السفن في البحر لتطلبوا من رزقه في أسفاركم وتجاراتكم {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي هو تعالى رحيم بالعباد ولهذا سهَّل لهم أسباب ذلك {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ( أي وإذا أصابتكم الشدة والكرب في البحر وخشيتم من الغَرَق ذهب عن خاطركم من كنتم تعبدونه من الآلهة ولم تجدوا غير الله مغيثاً يغيثكم، فالإِنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والوثن، والمَلك والفَلَك وإنما يتضرع إلى الله تعالى {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي فلما نجاكم من الغرق وأخرجكم إلى البَرِّ أعرضتم عن الإِيمان والإِخلاص {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} أي ومن طبيعة الإِنسان جحود نعم الرحمن، ثم خوَّفهم تعالى بقدرته العظيمة فقال: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} أي أفأمنتم أيها الناس حين نجوتم من الغرق في البحر أن يخسف الله بكم الأرض فيخفيكم في باطنها؟ إنكم في قبضة الله في كل لحظة فكيف تأمنون بطش الله وانتقامه بزلزالٍ أو رجفةٍ أو بركان؟ {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي يمطركم بحجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} أي لا تجدوا من يقوم بأموركم ويحفظكم من عذابه تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} أي يعيدكم في البحر مرةً أخرى {فَيرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} أي يرسل عليكم وأنتم في البحر ريحاً شديدة مدمِّرة، لا تَمرُّ بشيءٍ إلا كسرته ودمَّرته {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} أي يغرقكم بسبب كفركم {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي لا تجدوا من يأخذ لكم بالثأر منا أو يطالبنا بتبعة إغراقكم.
المنَــاسَبَة:
لما ذكر تعالى ما امتنَّ به على الناس من تسيير السفن في البحر، ومن تنجيتهم من الغرق، تمّم ذكر المنَّة بما أنعم به على النوع الإنِساني من تكرمتهم، ورزقهم، وتفضيلهم على سائر المخلوقات، ثم ذكر أحوال الناس ودرجاتهم في الآخرة، ثم حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء المشركين.
تكريم بني آدم
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70) }.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات بالعقل، والعلم، والنطق، وتسخير جميع ما في الكون لهم {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي وحملناهم على ظهور الدواب والسفن {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي من لذيذ المطاعم والمشارب، قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعلنا رزق الحيوان التبن والعظام وغيرها {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك.
كيفية دعاء الناس يوم الحشر
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(71)وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً(72)}.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي اذكر يوم الحشر حين ننادي كل إنسان بكتاب عمله ليسلَّم له وينال جزاءه، والإِمام الكتاب الذي سجل فيه عمل الإِنسان ويقوّيه {وكلِّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبين} قال ابن عباس: الإِمام ما عُمل وأُملي فكتب عليه، فمن بُعث متقياً لله جُعل كتابُه بيمينه فقرأه واستبشر {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فمن أُعطي كتاب عمله بيمينه وهم السعداء أولو البصائر والنُّهى المتقون لله {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} أي يقرؤون حسناتهم بفرح واستبشار لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا يُنقصون من أجور أعمالهم شيئاً ولو كان بمقدار الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يهتدي إلى الحق ولا إلى الخير {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأشدُّ ضلالاً عن طريق السعادة والنجاة قال قتادة: من كان في هذه الدنيا أعمى عمَّا عايَنَ من نعم الله وخلقه وعجائبه، فهو فيما يغيب عنه من أمر الآخرة أشد عمى وأضلُّ طريقاً.
محاولة المشركين فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكة
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(73)وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً(74)إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلاً(76)سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً(77)} .
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي وإن كان الحال والشأن أن المشركين قاربوا أن يصرفوك عن الذي أوحيناه إليك يا محمد من بعض الأوامر والنواهي {لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي لتأتي بغير ما أوحاه الله إليك وتخالف تعاليمه {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك صاحباً وصديقاً، قال المفسرون: حاول المشركون محاولات كثيرة ليثنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المضي في دعوته منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء، فعصمه الله من شرهم وأخبر أنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} أي لولا أن ثبتناك على الحق بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} أي كدت تميل إليهم وتسايرهم على ما طلبوا {إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي لو ركَنْتَ إليهم لضاعفنا لك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لأن الذنب من العظيم جرمٌ كبيرٌ يستحق مضاعفة العذاب، والغرضُ من الآية بيانُ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلَّى عن عصمتِه لمالَ إليهم بعض الشيء و {لَوْلا} حرف امتناع لوجود أي امتنع الركون إليهم لعصمته تعالى وتثبيته له، فليس في الآية ما يُنقص من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي بيان لفضل الله العظيم على نبيه الكريم {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} أي لا تجد من ينصرك منا أو يدفع عنك عذابنا {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} أي وإن كاد المشركون بمكرهم وإزعاجهم أن يخرجوك يا محمد من أرض مكة {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلاً} أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك إلا زمناً يسيراً وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من أوطانهم، قال قتادة: همَّ أهلُ مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكنَّ الله تعالى منعهم من إخراجه حتى أمره بالخروج {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} أي هذه عادة الله مع رسله في إهلاك كل أمةٍ أَخرجتْ رسولهَا من بين أظهرهم {وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي لن تجد لها تبديلاً أو تغييراً.
أوامر وتوجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم
{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78)وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا(80)وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا(82)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا(83)قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً(84)وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً(85)}
{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي حافظ يا محمد على الصلاة في أوقاتها من وقت زوال الشمس عند الظهيرة إلى وقت ظلمة الليل {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي وأقم صلاة الفجر، وإنما عبَّر عنها بقرآن الفجر لأنه تطلب إطالة القراءة فيها {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} أي تشهده ملائكة الليل والنهار كما في الحديث {يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر ...} الحديث، قال المفسرون: في الآية الكريمة إشارة إلى الصلوات المفروضة، فدلوكُ الشمس زوالهُا وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقُ الليل ظلمتُه وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر، فالآية رمزٌ إلى الصلوات الخمس {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي وقم من الليل بعد النوم متهجداً بالقرآن فضيلةً وتطوعاً لك {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} أي لعلَّ ربك يا محمد يقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وهو مقام "الشفاعة العظمى"، قال المفسرون: {عَسَى} في كلام الله للتحقيق لأنه وعد كريم وهو لا يتخلف، ولهذا قال ابن عباس: عسى من الله واجبة أي تفيد القطع {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي قل يا رب أدخلني قبري مُدْخل صدق أي إدخالاً حسناً {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي أخرجني من قبري عند البعث إخراجاً حسناً هذا قول ابن عباس، وقال الحسن والضحاك: المراد دخوله المدينة المنورة، وخروجه من مكة المكرمة وذلك حين أخرجه المشركون بعد أن تآمروا على قتله صلوات الله وسلامه عليه {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيراً} أي اجعل لي من عندك قوةً ومَنَعة تنصرني بها على أعدائك وتُعزُّ بها دينك، وقد استجاب الله دعاءه فنصره على الأعداء، وأعلا دينه على سائر الأديان {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي سطع نور الحق وضياؤه وهو الإِسلام، وزهق الباطل وأنصاره وهو الكفر وعبادةُ الأصنام، فلا شرك ولا وثنية بعد إشراق نور الإِيمان {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أي إن الباطل لا بقاء له ولا ثبوت لأنه يضمحل ويتلاشى، وإن كانت له صولةٌ وجولة فسرعان ما تزول كشعلة الهشيم ترتفع عالياً ثم تخبو سريعاً، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} فما بقي منها صنمٌ إلا خرَّ لوجهه ثم أمر بها فكسرت {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وننزّل من آيات القرآن العظيم ما يشفي القلوب من أمراض الجهل والضلالة، ويُذهب صدأ النفس من الهوى والدَّنس، والشُّح والحسد، وما هو رحمة للمؤمنين بما فيه من الإِيمان والحكمة والخير المبين {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} أي ولا يزيد هذا القرآن الكافرين به عند سماعه إلا هلاكاً ودماراً لأنهم لا يصدقون به فيزدادون كفراً وضلالاً {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي وإذا أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من صحةٍ، وأمنٍ، وغنىً أعرض عن طاعة الله وعبادته، وابتعد عن ربه غروراً وكِبْراً {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} أي وإذا أصابته الشدائد والمصائب أصبح يائساً قانطاً من رحمة الله، والآية تمثيلٌ لطغيان الإِنسان فإن أصابته النعمة بطر وتكبَّر، وإن أصابته الشدة أيس وقنط كقوله {إن الإِنسان خُلق هَلُوعاً، إذا مسَّه الشرُ جزوعاً، وإذا مسَّه الخير منوعاً} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي كل واحدٍ يعمل على نهجه وطريقته في الهدى والضلال، فإن كانت نفس الإنسان مشرقةً صافية صدرت عنه أفعال كريمة فاضلة، وإن كانت نفسه فاجرةً كافرة صدرت عنه أفعال سيئةٌ شريرة {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} أي ربكم أعلم بمن اهتدى إلى طريق الصواب وبمن ضلَّ عنه وسيجزي كل عاملٍ بعمله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي يسألك يا محمد الكفار عن الروح ما هي؟ وما حقيقتها؟ فقل لهم إنها من الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا ربُّ البرية {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} أي وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا شيئاً قليلاً لأن علمكم قليل بالنظر إلى علم الله.
عجز الثقلين عن الإتيان بمثل القرآن
{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً(86)إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا(87)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(89)}
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لو أردنا لمحونا هذا القرآن الذي هو مِنَّةُ الرحمن من صدرك يا محمد فإن ذلك في قدرتنا {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده، وردّه إليك بعد ذهابه {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي لكنْ رحمةً من ربك تركناه محفوظاً في صدرك وصدر أصحابك {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} أي فضل الله عليك عظيم حيث أنزل عليك القرآن، وأعطاك المقام المحمود، وجعلك خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والمقصود بالآية الامتنان على الرسول بالقرآن والتحذير له عن التفريط فيه، والخطاب له عليه السلام والمراد أمته {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي لو اتفق واجتمع أرباب الفصاحة والبيان من الإِنس والجان وأرادوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن لما أطاقوا ذلك ولو تعاونوا وتساعدوا على ذلك جميعاً فإن هذا أمر لا يستطاع وليس بمقدور أحد {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي بيَّنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحقَّ بالآياتِ والعِبَر، والترغيب والترهيب {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي ومع البراهين القائمة والحجج الواضحة أبى أكثر الناس إلا جحوداً للحق وتكذيباً لله ورسوله.
المنَـــاسَبَة:
لما ذكر تعالى القرآن وما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على صدق النبي الأمي، وتحداهم فظهر عجزهم بوضوح إعجازه، ذكر هنا نماذج عن تعنت الكفار وضلالهم باقتراح خوارق مادية غير القرآن العظيم، ثم ذكر قصة موسى وتكذيب فرعون له مع كثرة الخوارق والمعجزات التي ظهرت على يديه تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين، ثم ختم السورة الكريمة بدلائل القدرة والوحدانية.
سَبَبُ النّزول :
أ- عن ابن عباس أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة فقالوا : ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه إنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فجاءهم سريعاً - وكان حريصاً على رُشدهم - فقالوا يا محمد : إنّا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه ما أدخلتَ على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبتَ الدين، وسفَّهتَ الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إنما جئت بهذا لتطلب مالاً جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشَّرَف فينا سوَّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّاً - أي تابعاً من الجنّ - بذلنا أموالنا في طلب الطِبِّ حتى نبرئك منه أو نُعذّر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني رسولاً، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، فقالوا يا محمد إن كنت غير قابلٍ منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أشدَّ عيشاً منا، فسل ربك يُسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا حتى نسألهم أحقٌّ ما تقول؟ وسلْه أن يجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عنا فأنزل الله {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا..} الآية.
محاولة المشركين تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً(93)}.
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} لما تبيّن إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات والخوارق، والمعنى قال المشركون: لن نصدِّقك يا محمد حتى تشقّق لنا من أرض مكة عيناً غزيرة لا ينقطع منها الماء {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي يكون لك بستانٌ فيه أنواع النخيل والأعناب {فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} أي تجعل الأنهار تتفجّر فيها وتسير وسطها بقوة وغزارة {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} هذا هو الاقتراح الثالث أي تجعل السماء تتساقط علينا قِطَعاً قِطَعاً كما كنتَ تخوّفنا وتزعم أن الله سيعذبنا إن لم نؤمن بك قال المفسرون: أشاروا إلى قوله تعالى: {إنْ نَشَأْ نخسفْ بهم الأرضَ أَوْ نُسْقِطَ عليهم كِسَفًا من السَّمَاء} {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} أي تُحضر لنا اللهَ وملائكته مقابلةً وعياناً فنراهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أي يكون لك قصرٌ مشيَّد عظيم من ذهبٍ لا من حجر أو طين {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} هذا هو الاقتراح السادس والأخير، وكلُّها تدل على سفهٍ وجهلٍ كبير، بسنة الله في خلقه وبحكمته وجلاله أي أو تصعد يا محمد إلى السماء بِسُلَّم ولن نصدّقك لمجرد صعودك حتى تعود ومعك كتاب من الله تعالى منشور أنك عبده ورسولُه نقرؤه بأنفسنا {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً} أي قل لهم يا محمد تعجباً من فرط كفرهم وعنادهم: سبحانَ الله هل أنا إله حتى تطلبوا مني أمثال هذه الخوارق؟ ما أنا إلا رسولٌ من البشر بعثني الله إليكم فلم هذا الجحود والعناد؟!
التأكيد على بشرية الرسول وأن الرسل تبعث لهداية الخلائق
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً(94)قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً(95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96)وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا(99)قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا(100)}
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمْ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً} ؟ أي إن السبب الذي منع المشركين من الإِيمان بعد وضوح المعجزات هو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق من البشر، فلماذا يكون بشراً ولا يكون ملكاً؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي قل لهم يا محمد: لو كان أهل الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشي الناس ساكنين في الأرض مستقرين فيها {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} أي لنزلنا عليهم رسولاً من الملائكة ولكنَّ أهل الأرض بشرٌ فالرسول إليهم بشرٌ من جنسِهم، إذْ جرت حكمة الله أن يرسل إلى كل قومٍ رسولاً من جنسهم ليمكنهم الفهم عنه ومخاطبته، وهذا تسفيهٌ وتجهيل لمنطق المشركين {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى اللهُ شاهداً على صدقي {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي هو تعالى العالم بأحوال العباد وسيجازيهم عليها {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} أي من يهده الله إلى الحق فهو السعيد الرشيد {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} أي ومن يضلله الله عن الحق بسبب سوء اختياره فلن تجد لهم أنصاراً يعصمونهم من عذاب الله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ} أي يُسحبون يوم القيامة على وجوههم تجرُّهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم كما يُفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} أي يُحشرون حال كونهم عمياً وبكماً وصماً يعني فاقدي الحواس لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ثم يردُّ الله إليهم أسماعهم وأبصارهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم، عن أنس قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الناسُ على وجوههم ؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي مستقرهم ومقامهم في جهنم كلما سكن لهبها وخمدت نارها زدناهم ناراً ملتهبة ووهجاً وجمراً {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله وتكذيبهم بالبعث والنشور وقولهم أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة سنُخلق ونبعث مرة ثانية؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله العظيم الجليل الذي خلق هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه قادرٌ على إعادة جسد الإِنسان بعد فنائه؟ فإِن القادر على الإِحياء قادر على الإِعادة بطريق الأحرى، قال أبو حيّان: نبَّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا} وهو استفهام إِنكارٍ وتوبيخ على استبعادهم الإِعادة، واحتجاجٌ عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعضُ ما تحويه البشرُ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادته {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} أي جعل لهؤلاء المشركين موعداً محدَّداً لموتهم وبعثِهم، لا شك ولا ريب في مجيئه {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا} أي أبى هؤلاء الكافرون الظالمون - مع وضوح الحق وسطوعه - إلا جحوداً وتمادياً في الكفر والضلال {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين المكابرين، المقترحين للخوارق والمعجزات: لو كنتم تملكون خزائن رزق الله ونِعَمه التي أفاضها على العباد {إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} أي إذاً لبخلتم به وامتنعتم عن الإِنفاق خوفاً من نفادها {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} أي وكان الإِنسان شحيحاً مبالغاً في البخل، قال ابن عباس:{قَتُورًا} أي بخيلاً منوعاً، وقال الزمخشري: ولقد بلغ هذا الوصف بالشُّحّ الغاية التي لا يبلغها الوهم، ثم ذكر تعالى أن كثرة الخوارق لا تُنشئ الإِيمان في القلوب الجاحدة، وها هو ذا موسى قد أُوتي تسع آيات بينات ثم كذَّب بها فرعون وملأه فحلَّ بهم الهلاك جميعاً.
إيتاء سيدنا موسى عليه السلام تسع آيات وتنزيل القرآن
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا(101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا(102)فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا(103)وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا(104)وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(105)وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً(106)قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا(107)وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً(108)وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(109)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ( أي والله لقد أعطينا موسى تسع آياتٍ واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي "العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنين" خمسٌ منها في سورة الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} والباقي متفرقات {فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ} أي فاسألْ يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون فإنهم يعلمونها مما لديهم في التوراة، قال الرازي: وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} أي إني لأظنك يا موسى قد سُحرت فتخبَّط عقلُك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} أي قال له موسى توبيخاً وتبكيتاً: لقد تيقَّنت يا فرعون أن هذه الآيات التسع ما أنزلها إلا رب السماواتِ والأرض شاهدة على صدقي، تبصِّرُ الناس بقدرة الله وعظمته ولكنك مكابرٌ معاند {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أي وإني لأعتقدك يا فرعون هالكاً خاسراً {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه من أرض مصر {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} أي فأغرقنا فرعون وجنده أجمعين في البحر {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ} أي وقلنا لبني إسرائيل من بعد إغراق فرعون وجنده اسكنوا أرض مصر {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر مختلطين فيكم المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، ثم نفصل بينكم ونميّز السعداء من الأشقياء، ثم عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره فقال {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي وأنزلنا هذا القرآن متلبساً بالحقِّ، لا يعتريه شك أو ريب، فيه الحكم والمواعظ والأمثال التي اشتمل عليها القرآن وهكذا أُنزل من عند الله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة لمن أطاع، ومنذراً بالنار لمن عصى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي وقرآناً نزّلناه مفرقاً منجماً لتقرأه على الناس على تُؤدةٍ ومهل، ليكون حفظه أسهل، والوقوف على دقائقه أيسر {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} أي نزّلناه شيئاً بعد شيء على حسب الأحوال والمصالح {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} خطاب للمشركين الذين اقترحوا المعجزات على وجه التهديد والوعيد أي آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالاً، وتكذيبكم له لا يورثه نقصاً {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} أي العلماء الذين قرأوا الكتب السالفة من صالحي أهل الكتاب إذا سمعوا القرآن تأثروا فخّروا ساجدين للهِ رب العالمين، والجملة تعليل لما تقدم والمعنى: إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو خير منكم وأعلم {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي يقولون تنزَّه الله عن إخلاف وعده إنه كان وعده كائناً لا محالة {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أي ويخرُّون لناحية الأذقان ساجدين على وجوههم باكين عند استماع القرآن ويزيدهم تواضعاً لله، قال الرازي: والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهو خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن.
دعاء الله بالأسماء الحسنى
{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا(110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111) .
{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ} أي نادوا ربكم الجليل بإسم {اللَّهَ} أو بإسم {الرَّحْمَانَ} {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( أي بأي هذين الاسمين ناديتموه فهو حسن لأن أسماءه جميعها حسنى وهذان منها، قال المفسرون: سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو {يا الله، يا رحمن} فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحدٍ وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أنهما لمسمَّى واحد {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تجهر يا محمد بقراءتك في الصلاة فيسمعك المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ولا تُسرَّ بقراءتك بحيث لا تسمع من خلفك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي اقصد طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله فنزلت {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي الحمد لله الذي تنزَّه عن الولد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} أي ليس له شريك في ألوهيته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} أي ليس بذليل فيحتاج إلى الوليّ والنصير {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي عظِّمْ ربك عظمةً تامة واذكره بصفات العز والجلال، والعظمة والكمال، ختمت السورة كما بدأت بحمد الله وتقرير وحدانيته بلا ولد ولا شريك، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.