سورة التوبة
نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
فريضة قتال مشركي العرب
مشروعية الأمان
الحكمة من البراءة من عهود المشركين
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود
اختبار المسلمين واتخاذ البطانة
عمارة المساجد
فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله
ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد
نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة
تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام
الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم
افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسبتهم الولد له سبحانه
طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس
عدد الشهور عند الله، وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء
التحريض على الجهاد وعذاب تاركيه، ومعجزة الغار
الأمر بالخروج للجهاد في سبيل الله
تخلف المنافقين عن غزوة تبوك ومسألة الإذن لهم في ذلك
الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر
اختلاق المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم بالحسنة
إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة
انتهاز المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان الكاذبة
مصارف الزكاة
إيذاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم
أحوال المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم القرآن
صفات المنافقين وجزاؤهم الأخروي
صفات المؤمنين وجزاؤهم الأخروي
أسباب جهاد الكفار والمنافقين
كذب المنافقين وخلفهم العهد والوعد
إعابة المنافقين على المؤمنين المنفقين
فرح المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك
منع المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من الاغترار بهم
قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ
استئذان زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين عليه
معاتبة المنافقين بالتخلف عن الجهاد
عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة
أحوال الأعراب سكان البادية
منزلة السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما حولها
قَبول التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها
الانتظار الصعب
المقارنة بين أهل النفاق وأهل التقوى
حال المؤمنين الصادقين في جهادهم
وجوب قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم
قَبول توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على صدقهم
النهي عن التخلف عن الجهاد وتبيين حسن جزاء المجاهدين
توزيع المسؤوليات بين المسلمين لنشر الدين
الدعوة إلى إظهار الغلظة مع الكفار
مدى تأثير التنزيل على المؤمنين والمنافقين
امتنان الله على المؤمنين بصفات رسوله الكريم
بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت براءة، وروى الحافظ ابن كثير: أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق أميراً على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله ما فيها من الأحكام نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية بـ "غزوة تبوك" وكانت في حرٍّ شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة، فكانت ابتلاء لإِيمان المؤمنين، وامتحاناً لصدقهم وإِخلاصهم لدين الله، وتمييزاً بينهم وبين المنافقين، ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان - إلى جانب الأحكام الأخرى - هما:
أولاً: بيان القانون الإِسلامي في معاملة المشركين، وأهل الكتاب.
ثانياً: إِظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم.
* أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حداً، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وإِباحة التعامل معهم، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضاً، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين، وخانت طوائف اليهود "بنو النضير" و "بنو قريظة" و "بنو قينقاع" ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإِلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوحٍ وبصيرة، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم. وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..} الآيات.
* ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..} الآية، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ ومكر، وحقدٍ على الإِسلام والمسلمين.
* وعرضت السورة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار خطرهم الدائم على الإِسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم ستراً إِلا هتكته، ولا دخيلة إِلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإِيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين، وقد استغرق الحديث عنهم معظم السورة بدءاً عن قوله تعالى {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ..} إِلى قوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إِلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} ولهذا سماها بعض الصحابة "الفاضحة" لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم، ومنهم، حتى خفنا ألا تدع منهم أحداً، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إِنكم تسمونها سورة التوبة، وإِنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً من المنافقين إِلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها قال ابن عباس: سألت علي بن أبي طلب لِم لمْ يُكتب في براءة {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ}؟ قال: لأن {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ} أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة، إِنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
* وبالجملة فإِن هذه السورة الكريمة قد تناولت "الطابور الخامس" المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم "المنافقون" الذين هم أشد خطراً من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تُبق منهم دياراً، فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإِسلام، أن يتخذوا بيوت الله أوكاراً للتخريب والتدمير، وإِلقاء الفتنة بين صفوف المسلمين، في مسجدهم الذي عرف باسم "مسجد الضرار" وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ..} الآيات ولم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرّقوه) فهدموه وكفى الله الإِسلام والمسلمين شرهم، وكيدهم، وخبثهم، وفضحهم إلى يوم الدين.
التَــســـميَــة:
تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إِلى أربعة عشر اسماً، قال العلامة الزمخشري: لهذه السورة عدة أسماء: (براءة، والتوبة، والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب) قال:لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أيتبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم.
نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3)إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)}.
سبب النزول:
روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسِروا يوم بدر، وفيهم "العباس بن عبد المطلب" فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ...} الآية.
{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إن الله ورسوله يتبرّآن من عهود المشركين، قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بإِلقاء عهودهم إِليهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسولُهُ.
{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إِباحة وفي ضمنه تهديد {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد .
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} أي يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك، قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أي إِعلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً.
{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم، قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم.
{إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم، قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي لم ينقضوا من شروط الميثاق شيئاً {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم، قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى، قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتم صلى الله عليه وسلم إِليهم عهدهم.
فريضة قتال مشركي العرب
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد، قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم، قال أبو حيّان: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أي كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب.
مشروعية الأمان
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ(6)}
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره، قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر وأقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا.
الحكمة من البراءة من عهود المشركين
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ(8)اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ(10)}
بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} استفهام بمعنى الإِنكار والاستبعاد أي كيف يكون لهم عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لكن من عاهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد، قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن اسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد، قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان، قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي وتمتنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه، قال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله.
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي.
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(11)وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ(12)}
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي رؤساء وصناديد الكفر {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق بـ "قاتلوا" أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.
التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود
{أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(13)قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15)}
{أَلا تُقَاتلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم؟ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} أي عزموا على تهجير الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إِن تركتم أمره {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه، قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إِلا ربه ولا يبالي بمن سواه.
ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فقتالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم، قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم، قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة، قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة.
اختبار المسلمين واتخاذ البطانة
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16)}
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} أم منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: أن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها.
عمارة المساجد
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار جهنم أبداً .
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاتَى الزَّكَاةَ} أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة، قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة، قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من تُرجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة.
فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22)}
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال أبو حيّان: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
ثم قال تعالى {الَّذِينَ ءامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربٍّ عظيم {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(23)قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله، قال ابن مسعود: "إِذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين ءامنوا فأَرْعِها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه" والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم {إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك.
{قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء ، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي جماعتكم التي تستنصرون بهم {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي وأموالكم التي اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي تخافون عدم نفاقها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي وأحب إِليكم من الجهاد لنصرة دين الله {فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد.
نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة
{لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(27)}
ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أنـا النـبي لا كــذب أنـا ابـــن عـبد المطـلب
ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء: كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه.
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم، قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إِليها {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني الملائكة {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة.
تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي قذر لخبث باطنهم، قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث (وألاَّ يحج بعد هذا العام مشرك) وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم .
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه، قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية {إِنْ شَاءَ} أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.
الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}
ولما ذكر حكم المشركينذكر حكم أهل الكتاب فقال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عُزَير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام.
افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسْبتهم الولد له سبحانه
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30)اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}
ذكر الله تعالى طرفاً من قبائحهم فقال {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد، قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله .
{وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان، قال ابن جزي: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله {تشابهت قلوبهم} {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً، قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلّونه؟ فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي اتخذه النصارى رباً معبوداً {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} لا معبود بحق سواه {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً .
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي ولو كره الكافرون ذلك {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره فإنه ظاهر لا محالة.
طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ(35)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود "الأحبار" وعلماء النصارى "الرهبان" {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام، قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى .
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات {وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير، قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت زكاته فليس بكنز {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم، قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسلمين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها، قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكوى عبد بكنزٍ فيمس دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته فإِذا جاءه أعرض بجانبه، فإِذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب ألم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار).
عدد الشهور عند الله، وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36)إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37)}
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي منها أربعة شهور محرمة هي: "ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب" وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعاتويحرم القتال فيها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك الشرع المستقيم {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلكم المشركون جميعاً {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجعلون هذا مكان هذا والعكس {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله، قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة.
التحريض على الجهاد وعذاب تاركيه، ومعجزة الغار
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38)إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)إلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه؟ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له.
ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي إِن رفضتم الخروج إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة، وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خيراً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسول الله وأطوع {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل .
{إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي إنْ لمْ تنصُروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} والمعنى: إِن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجؤوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطر إِلى الهجرة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين هو وأبو بكر الصديق {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه قال "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وأقدام المشركين فوق رؤوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي قواه بجنود من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} أي وكلمة التوحيد "لا إِله إِلا الله" هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة.
الأمر بالخروج للجهاد في سبيل الله
{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(41)}
{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيباً وشباناً، مُشاةً وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي جاهدوا بالأموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك، قال أبو حيّان: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله.
تخلف المنافقين عن غزوة تبوك ومسألة الإذن لهم في ذلك
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(42)عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(44)إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(45)}
ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباً سهل المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد {لاتَّبَعُوكَ} أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا .
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} تلطف في عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخروج معك بمجرد الاعتذار {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق، قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي لا يستأذنك يا محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر {أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.
الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ(46)لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47)لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(48)}
سبب النزول:
لما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج إِلى تبوك قال "للجد بن قيس" - وكان منافقاً - يا أبا وهب: هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال يا رسول الله: لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإِني أخشى إِن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذَنْ لي في القعود.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} أي ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك للجهاد أو كانت لهم نية في الغزو لاستعدوا له بالسلاح والزاد، فتركهم الاستعداد دليل على إِرادتهم التخلف {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي ولكن كره الله خروجهم معك {فَثَبَّطَهُمْ} أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي اجلسوا مع المخالفين من النساء والصبيان وأهل الأعذار، وهو ذم لهم لإِيثارهم القعود على الخروج للجهاد، والآية تسلية له صلى الله عليه وسلم على عدم خروج المنافقين معه إِذ لا فائدة فيه ولا مصلحة بل فيه الأذى والمضرة ولهذا قال :
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً} أي لو خرجوا معكم ما زادوكم إِلا شراً وفساداً {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي يطلبون لكم الفتنة بإِلقاء العداوة بينكم {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي وفيكم ضعفاء القلوب يصغون إِلى قولهم ويطيعونهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي عالم بالمنافقين علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي طلبوا لك الشر بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك كما فعل ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} أي دبروا لك المكايد والحيل وأداروا الآراء في إِبطال دينك {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} {وَهُمْ كَارِهُونَ} أي والحال أنهم كارهون لذلك لنفاقهم.
اختلاق المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم بالحسنة
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49)إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ(50)قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52)}
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب الأمر بالخروج، قال ابن عباس: نزلت في "الجد بن قيس" حين دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في الجهاد ولا تفتني بالنساء {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي ألا إِنهم قد سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم، قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي لا مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد .
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء {وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم فرحون مسرورون.
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله {هُوَ مَوْلانَا} أي ناصرنا وحافظنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله، ولا يعتمدوا على أحد سواه {قُلْ هَل تربَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!! {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم، وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد.
إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة
{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ(53)وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ(54)فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(55)}
{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} أي قل لهم أنفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال فلن يتقبل الله منكم، قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله.
ثم أكد هذا المعنى بقوله {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} أي وما منع من قبول النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون {وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإكراه لأنهم يعدونها مغرماً، قال أبو حيّان: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية .
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا، قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكذبون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم.
انتهاز المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان الكاذبة
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56)لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57)وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58)وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(59)}
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أي حصناً يلجأون إِليه {أَوْ مَغَارَاتٍ} أي سراديب يختفون فيها {أَوْ مُدَّخَلاً} أي مكاناً يدخلون فيه ولو ضيقاً {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لأقبلوا إليه يسرعون إسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إِلى أنَّ المنافقين لو قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم .
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك {وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم سخطوا عليك وعابوك، قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له: "ذو الخويصرة" فقال: اعدل يا محمد فإِنك لم تعدل فقال صلى الله عليه وسلم: (ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟)، الحديث .
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك القسمة وإِن قلَّت، قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله وإِحسانه لراغبون، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لكان خيراً لهم، قال الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل: لو جئتنا .. ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً.
مصارف الزكاة
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)}
ثم ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش، والمسكين لا شيء له قال يونس: سألت أعرابياً: أفقيراً أنت فقال: لا بل مسكين وقيل: المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} أي الجباة الذين يجمعون الصدقات {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} هم قوم من أشراف العرب أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه لأحب الناس إِلي {وَفِي الرِّقَابِ} أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من الرق {وَالْغَارِمِينَ} أي المديونين الذين أثقلهم الدين {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من السلاح والعتاد {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} أي الغريب الذي انقطع في سفره {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي فرضها الله جل وعلا وحددها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة قال ابن جزي: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في الصدقات.
إيذاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61)}
سبب النزول:
كان جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال "الجلاس بن سويد": نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ..}.
قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ..} الآية.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدِّق الله فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ ءامَنُوا مِنْكُمْ} أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب إِيمانهم {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في الآخرة.
أحوال المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم القرآن
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(63)يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ(65)لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)}
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه السلام {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله ورسوله .
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام للتوبيخ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} أي فقد حق دخوله جهنم وخلوده فيها {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الذل العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رؤوس الأشهاد.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق {قُلِ اسْتَهْزِءُوا} أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله {إعملوا ما شئتم} {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله، ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا .
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوه من الباطل والكذب في حقك وفي حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس، قال الطبري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إِلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ.
ثم كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إِظهاركم الإِيمان {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم وإِخلاصهم {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} أي نعذب فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام.
صفات المنافقين وجزاؤهم الأخروي
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(68)كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(69)أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(70)}
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان، كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال الزمخشري: وأريد بقوله {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم فيما أخبر القرءان عن حلفهم {ويحلفون بالله إِنهم لمنكم} ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل الله {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا طاعته فتركهم من رحمته وفضله وجعلهم كالمنسيين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل النفاق.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} أي وعد الله المنافقين والمجاهرين بالكفر بإِصلائهم نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي هي كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها {وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع .
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منكم أجساماً وأشد بطشاً {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا} أي وكانوا أوفر أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه، قال الطبري: المعنى سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حل بهم {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً فلا ثواب لها إِلا النار {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي وأولئك هم الكاملون في الخسران .
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم من العقوبة؟ {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان وقوم هود "عاد" الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح "ثمود" الذين أهلكوا بالصيحة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} الذين أهلكوا بسلب النعمة {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذِبين من أهل الإِجرام؟
صفات المؤمنين وجزاؤهم الأخروي
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)}
ولما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم إخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي الله، وينهونهم عن كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الكامل {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء وجه الله {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض عليهم جلائل نعمته {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي غالب لا يُغلب من أطاعه ويذل من عصاه {حَكِيمٌ} أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في النعمة والنقمة.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها أبداً لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ومنازل يطيب فيها العيش في جنات الخلد والإقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة: "يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة بعده.
أسباب جهاد الكفار والمنافقين
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(74)}
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مسكنهم ومثواهم جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس المكان الذي يصار إليه جهنم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} أي يحلف المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب، قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أُبيّ، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل "سمن كلبك يأكلك" فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية .
{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} وقيل هي قول ابن سلول "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قال ابن كثير: هم نفر من المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك وكانوا بضعة عشر رجلاً {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته، ويُمْنِ سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب .. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ} أي فإِن يتوبوا عن النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي يعذبهم عذاباً شديداً {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم وينجيهم يوم الحساب.
كذب المنافقين وخلفهم العهد والوعد
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76)فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(77)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(78)}
سبب النزول:
روي أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزل يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فأخبروه بخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ..} الآية فهلك في خلافة عثمان ..
عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت فقيل لي {استغفر لهم} الآية ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلي عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله {ولا تصلّ على أحدٍ منهم مات أبداً ..} الآية.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه {لَئِنْ ءاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح .
{فَلَمَّاءاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان .
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم، ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ {وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟.
إعابة المنافقين على المؤمنين المنفقين
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)}
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزؤون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءً، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم .
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة.
فرح المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(81)فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)}
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي فرح المنافقون الذي تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له حين سار وأقاموا {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق .
{وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإنما قال {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على قوله "وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو" إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعالى رداً عليهم.
{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جنهم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم "كالمستجير من الرمضاء بالنار".
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على ما اجترحوا من فنون المعاصي.
منع المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من الاغترار بهم
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ(83)وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ(84)وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(85)}
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان.
لفت النظر إلى الإعجاز بقوله معيَ، مع العلم أنهم أمروا بالقتال في آية أخرى، إشارة إلى أن القتال سيكون بعد وقاة النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيارة والدعاء {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان.
{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب.
استئذان زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين عليه
{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ(86)رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(87)لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(88)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(89)وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(90)لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(91)وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ(92)}
{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن {أَنْ ءامِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} أي بأن آمنوا بالله بصدق ويقين، وجاهدوا مع الرسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين {اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً .
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ} أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفائزون بالمطلوب.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الظفر العظيم. الذي لا فوز وراءه.
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار وتخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم "أسد" و "غطفان" استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد {حَرَجٌ} أي إِثم في القعود {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل، قال ابن جزي: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار .
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن { أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند الرسول ما يحملهم عليه.
معاتبة المنافقين بالتخلف عن الجهاد
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(93)}
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنوك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(94)سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(95)يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(96)}
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي قد أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل .
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون {إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق، قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم، قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة.
أحوال الأعراب سكان البادية
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(97)وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98)وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(99)}
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع، قال أبو حيّان: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم ونشأتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا مُربّي، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في صنعه .
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم.
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي دعاء الرسول واستغفاره له {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} {أَلاَ} أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة.
منزلة السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما حولها
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(101)وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(102)}
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم، قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مقيمين فيها من غير انتهاء {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، قال أبو حيّان: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال {ألا إِنها قُرْبةٌ لهم} وهنا قال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} وهناك ختم {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهنا ختم {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي لجوا في النفاق واستمروا عليه، قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار .
{وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءاخَرَ سَيِّئًا} أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي لعل الله يتوب عليهم، قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب.
قَبول التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(104)وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوزار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، قال ابن عباس: {سَكَنٌ لَهُمْ} رحمة لهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لقولهم عليم بنياتهم.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي يتقبلها ممن أخلص النية {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله {غافر الذنب قابل التوب}.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر.
الانتظار الصعب
{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(106)}
{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم، قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد.
المقارنة بين أهل النفاق وأهل التقوى
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107)لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108)أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109)لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110)}
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" {وَكُفْرًا} أي نصرة للكفر الذي يخفونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد.
ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم ابتدئ في بنائه {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة.
ثم أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي فسقط به البناء في نار جهنم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ .
{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا ان تتصدع قلوبهم فيموتوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
حال المؤمنين الصادقين في جهادهم
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(112)}
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} أي اشترى أموال المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء، قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائعُ فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عليه الصلاة والسلام {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم .
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً {فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة "التوراة، والإِنجيل، والقرآن" {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا، قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي ابشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه .
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} كلام مستأنف، قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإنِ لم يجاهدوا كقوله {وكلاً وعد الله الحسنى} والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء {السَّائِحُونَ} أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} أي المصلون {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام، قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وجوب قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءامنوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ(114)وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(115)إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(116)}
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءامنوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين {وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} أي ولو كان المشركون أقرباء لهم {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب.
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله {سأستغفر لك ربي} وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم ان أباه مصرّ على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله {لئن لم تنته لأرجمنك} فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك، قال أبو حيان: ولما كان استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره .
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي بعد أن وفقهم للإِيمان {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال.
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه {يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي بيده وحده حياتهم وموتهم {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه، قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإِن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه.
قَبول توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على صدقهم
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)}
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم،وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقال أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي لطيف رحيم بالمؤمنين .
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم "كعب، وهلال، ومرارة" {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي ضاقت عليهم مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول عليه السلام دعا لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب عليهم {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً.
النهي عن التخلف عن الجهاد وتبيين حسن جزاء المجاهدين
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120)وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121)}
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم ان يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب، قال الزمخشري: أُمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش {وَلا نَصَبٌ} أي ولا تعب {وَلا مَخْمَصَةٌ } أي ولا مجاعة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طريق الجهاد {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} أي يغضب الكفار وطؤها {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً} أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} قال ابن عباس: تمرة فما فوقها {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} أي أثبت لهم أجر ذلك {لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم، قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء.
توزيع المسؤوليات بين المسلمين لنشر الدين
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122)}
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس انه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي فإِذا لم يمكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال ليعلِّموا بدل لِيُنذِرُوا و يفقهون بدل {يحذرون} لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
الدعوة إلى إظهار الغلظة مع الكفار
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123)}
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون.
مدى تأثير التنزيل على المؤمنين والمنافقين
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(127)}
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي من سور القرآن {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ ءامنوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي فأما المؤمنون فزادتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً.
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ماتوا على الكفر.
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْيَذَّكَّرُونَ} أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون.
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا} أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون.
امتنان الله على المؤمنين بصفات رسوله الكريم
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌٌ(128)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)}
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} أي لقد جاءكم أيها القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على هدايتكم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌٌ} أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم، قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء، الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.