" لو كنت والدك لرميتك من الطابق الخمسين "، هكذا قال الطبيب لذلك الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، وكنت واقفًا أنا وزوجتي خارج غرفة الطبيب بانتظار رؤيته.
ترى ما الذي دفع ذلك الطبيب لأن يهدد الطفل ذلك التهديد المخيف؟
إن حجم العقاب الذي يتكلم عنه يوحي بإن الجرم كبر جدًا حتى أنه لا يتغتفر، ما الذي جعل ذلك الطبيب الرحيم يكون قاسيًا في لحظة كان الولد ذي العشر سنوات مصاب بضيق الصدر ولا يكاد يتنفس.
إن الجواب على هذين السؤالين يتطلب معرفة أحداث الزيارة من أولها.
وإليكم الحوار الذي تم بين الأم والطبيب أمام أبنهما المريض:
الأم : دكتور، إن أبني يعاني من ضيق في الصدر وعدم القدرة على التنفس، وهذه هي المرة الثانية التي آتي بها معه إلى المستشفى منذ يوم أمس.
الطبيب: منذ متى يعاني من هذه المشكلة؟
الأم: منذ يومين.
الطبيب: هل تناول أي أدوية؟
الأم: نعم يا دكتور، ولكن المشكلة أنه يأتي من الخارج بعد لعبه وهو مبلل، ويفتح المكيف ويقف أمامه لكي يتبرد، وكم قلت له أن لا يفعل ذلك ولكنه يكررها مرارًا.
الطبيب للولد: أين تسكن؟ في أي طابق؟
الولد: لا نحن نسكن في بيت وليس في عمارة.
الطبيب: " لو كنت والدك لرميتك من الطابق الخمسين "
هذا هو الحوار، وهذا هو الجرم الذي قام به ذلك الطفل لكي
يستحق - في نظر طبيبنا المثقف - رمي الطفل من الطابق الخمسين.
ماذا نتوقع أن تكون ردة فعل الطفل حين سماعه هذه الكلمات؟ جزمًا لم يدر في خلده أن يقول: " يا ليتك كنت والدي!! " أو " يا للوالد الحنون "
إن من المهم أن نعلم أن هذه العبارات تنحت في عقول أبائنا خاصة وهم في هذا السن الصغير، إنها تكون خبراتهم ومعتقداتهم، تعطيهم المفاهيم والقيم التي يعيشون وفقها. فقد لا يكون كلام ذلك الطبيب معقولا لدى الطفل، ولكنه يكفي أن يبني في عقله صورة لتلك المهنة – الطبيب - أنها مهنة القساوة والمجرمين بيد أنها في الحقيقة تحمل الرحمة والرأفة بالناس.
وبحكم أن لكل إنسان ظروفه الخاصة، فإن هذا الطفل لا يعلم كيف هي علاقته بوالده، أهي جيدة أم سيئة؟
فما الذي بثته تلك الكلمات في نفس الطفل من نظرة للأباء؟
هل أكدت له أن كل الآباء قساة ولا يرحمون؟
أم أنه ظن أن أباه الرحيم ممكن أن يتحول إلى وحش مجرم؟.
لذلك أود أن أقول إن أصحاب هذه المهن التي تعتمد في أساسها على التعامل مع البشر لا بد و أن يتقنوا مهارات وفنون التعامل مع الناس وكيفية إرشادهم وإن كنت أعلم أن مناهجهم الدراسية تحتوي على ذلك في فترة الجامعة، إلا أنني أظن أن هذه المعاني المهمة تغيب مع الانغماس في الوظيفة والانشغال بالأمراض والأدوية، ولذلك فإنهم بحاجة إلى تأهيل دائم ومستمر، وتطوير و تجديد في مجال التعامل مع الناس، كما هو الحال مع أي وظيفة أخرى تتعامل مباشرة مع البشر.
ولا شك بأن الطبيب يمثل عاملا مهمًا في حياة الطفل، حيث أن الأطفال أكثر المترددين على العيادات، وهم الذين يعتبرون أن كلام الطبيب شيء مقدس وصحيح دائمًا،ومن ثم فإن الأطباء الذين يتعاملون مع الأطفال وجب أن يتملكوا أعلا المهارات في التعامل معهم، وذلك لعظم تأثيرهم في حياتهم وشخصياتهم.
أما من جهة الوالدين فإنهم كما يحرصون على انتقاء الطبيب الماهر مهنيًا لعلاج أبنائهم، فلا بد أن يحرصوا أن يكون ذلك الطبيب ماهرًا في التعامل مع أبنائهم.
فالممارسات الخاطئة تربويًا من الطبيب تؤثر حتى في تعامل الطفل مع والديه، فالطبيب الذي يسخر مثلا من الوالدين أمام أب نائهم قد يضعف من احترام الابن لهما، فيحرصان على أن أن يكون الطبيب قادرا على إقامة علاقة مهنية جيدة مع الطفل، وكسب قلبه، وإكسابه المهارات اللازمه للتعامل مع المرض، مع مراعاة عدم الوقوع في إساءات تربوية أو نفسية للطفل، فإن صادف الوالدان موقفًا غير تربوي لطبيب فينبهان الطبيب على ذلك الخطأ الذي وقع فيه ويحاولان تصحيحه بالطريقة المناسبة التي تدعم تربية أبنائنا، وتجعل من المستشفى والعيادة شريكًا في بناءٍ سليم لشخصيات وسلوكيات أبنائنا