أخذتني بلا رجعة أجواء المدينة الصاخبة..المدينة التي تصهر الغريب عنها في بوتقات مستترة لتصنع منه رجلها الأصيل «دورجين».تصير «مبلي» بقصائد الملحون، بعد أن تذوقت حلاوتها وأوغلت في معانيها القصية وأسلوبها وحبكتها ومعجمها النابع من صميم التراث العربي..ترابط «الحراز» وعذرية «فاطمة»، لتركب مزلاج الكلمة عبر الطالعة الصغرى تستنجد، من غير إرادتك، «آمولاي ادريس». تتحاشى باحتراس واحترام أن تصطدم بالأجساد الممشوقة كأنها قضبان الخيزران في «جنان السبيل» المنفلت من قبضة بوجلود..كانت مشحونة بطاقة على الجاذبية، ما أودعها الله في سواها..وإن حدث أن اصطدمت من غير قصد بأحد فإنك تسمع بلكنة «مئيدبة»:الله يسامح أخاي.فلا تملك معها سوى أن تواصل سيرك وإن تأذيت من الصدمة.تلج «الحرم الإدريسي» وتدخل عبر الباب الرئيسي لتستقبلك أشكال هندسية ونقوش تمضي في اتجاه القبر وتقف قبالته للترحم عليه وبعد لحظات تودعه.
إنه الحصار، طر أو انزل. تحاصرك تراتيل القرآن جماعة في القرويين، والوظيفة في ضريح سيدي احمد التيجاني، وعيساوة والملحون والأندلسي وتحاصرك رائحة العطور والأثواب والجلد المصنع والذي في طور التصنيع والصفارين ووووو..تحاصرك المساواة. الكل يمشي راجلا.. لا مكان لوسائل النقل..
كلما حاولت الخروج تأسرني أيام وأماس مختلفة لكنها متجانسة.أجدني محاصرا بأيام لا تنسى. أصطدم حيثما التفت بمقلاة واسعة، مثل ميدان غزاه الجراد. كانت مكسوة ولا شك ما تزال بطبقات سوداء وبنية خلفها تراكم سنوات من الزيت المحترق والنشا المتحلل من البطاطس المشكلة على هيئة رغيفات تسمى المعقودة..هذا المخلوق الذي كنت أعقد عليه آمالا كبيرة لانتشالي من وعثاء الغلاء الفاحش في الكراء والمأكل والمشرب..لم تكن المنحة (المحنة كما كنا نسميها) بهزالها تكفي حتى المطبوعات والكتب.كانت هزيلة مثل شكل الملاعق في المطعم البلدي على شمالك على بعد خطوات في بطن العملاق بوجلود..
- أهلا مول الحريرة..كيف حالك أمول الحريرة؟؟
«مول الحريرة» إذا هو لقبي، وواحدة من الرتوشات التي وضعها باب بوجلود على بطاقة تعريفي..
كنت تشعر بإحراج بادئ الأمر خاصة عندما يتعلق الأمر بأحد زملائك الذين يأتون إلى المطعم أفواجا متضافرين من أجل زليفة حريرة ومعقودة وربع...
صار هذا اللقب جزءا من اسمي، وجزءا من الحصار الذي أنوء تحت وطأته حين تتضافر مع النداءات المتوالية تطلب الحريرة وتستحثني.علي أن ألبي كل الطلبات في زمن وجيز لكي أتحاشى اللوم من شمكار قادم من باب افتوح عبر الطالعة الكبرى أو قادم ابن زاكور أو من قصبة النوار علي أن أطور قواميس الاعتذار..
على الطاولة الإسمنتية المتصلة بالمغسل في الركن المحاذي لموضع المقلاة و طنجرة الحريرة العملاقة كنت أضع الأواني الفارغة إعدادا لها للتنظيف.وفي الغرفة الداخلية تمتد ثلاث موائد حديدية مرصوفة بالزليج وعلى امتدادها تستلقي ستة كراس متقابلة مثنى مثنى بشكل يتعذر معه المرور إلى الطرف الآخر من الكرسي.على اليمين مغسلة جافة وأسفل منها قارورة ماء ويدخل هذا طبعا في سياسة التقشف التي ينهجها صاحب المطعم.الباب بجانب المغسلة لا يفتح إلا إذا احتاج المعلم إلى البطاطس أو الزيت يبدو أنه كان مرحاضا استغني عن خدماته فصار مخزنا للبطاطس والزيت!!
يجلس أحد الزبناء يطلب الحريرة ثم الآخر يستعجلني وثالث كان جالسا سلوت عنه بمراقبة وفد سياحي يتأمل المعقودة أطلب من عمي لطفي الرجل الأشيب أن يهيء آنيتين أضعهما أمام الزبون فيحتج طالبا معقودة في ربع مدعيا أنه طلبها من قبل وأنا واثق من كونه لم يطلبها فأعتذر له رغم ذلك.قد يقدر اعتذاري. أضع الاحتمالين معا نصب عيني..وقد يقول قائل هذي المرة ستنسى رأسك..لا بأس أستعير من الكيال أذنيه للحظة فلو سمعت ما قال لكسرت الإناء على رأسه وكم يكفيك من الأواني في اليوم والليلة.وقتها ينادي آخر بملء فيه:هذي عامين وأنا انتظر..
لكنات مختلفة ونبرات أصوات تزدحم على بوابة أذني كأفواج من الوافدين على موسم مولاي إدريس..لكني أتحمل فهي الأصوات وآخر النبرات . فبعد أيام معدودة ستحمل الحافلة أمتعتك تحمل في يمناك الاعتراف بالنجاح «ليسونسيي». تعود إلى بلدتك الصغيرة عند قدم الجبل تحمل مشروع شوق منتظر إلى صخب المدينة وإضرابات الكلية واعتصاماتها وأسابيعها الثقافية وغير الثقافية إلى حلقياتها وإن كنت لا تملأ رأسك بشيء من ذلك إلا ما ارتبط بإرضاء فضولك إذ لم تكن تجد مسوغا للخلافات المبثوثة في أوساط الطلبة ما دام الهدف واحدا وإن كان مبهما في أغلب الأحيان..
بلدتك القاتلة الجديدة...وفي كل لحظة تجتاحك رغبة في العودة...
مول الحريرة...
-المهنة: طالب
-لا..المهنة: مول الحريرة...