بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:36:30 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1031 0


    مياه في أعماق المدينة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : راي برادبري | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مياه أعماق المدينة

    كان الوقت أصيلاً، والمطر يهطل، والقناديل ينعكس ضوءها على صفحات رمادية، وقد مضى على الأختين فترة طويلة وهما جالستان في غرفة الطعام. إحداهما جولييت، تطرز أغطية للموائد، بينما جلست الصغرى، حنة، بهدوء على مقعد النافذة وهي ترنو إلى الخارج، إلى الشارع المعتم والسماء الداكنة.
    احتفظت حنة بجبينها ملتصقاً على زجاج النافذة وشفتاها تتحركان. وبعد لحظة طويلة من التفكير قالت: (إني لم أفكر بذاك مطلقاً من قبل.)
    وسألت جولييت: (تفكرين بماذا؟)
    فقالت حنة: (لقد خطر لي الآن فقط أن هناك في الواقع مدينة تحت مدينة، مدينة ميتة، هنا تماماً. وتحت أرجلنا بالضبط).
    وراحت جولييت تدفع بإبرتها دخولاً وخروجاً في الثوب الأبيض وقالت: (ابتعدي عن النافذة. لقد فعلت الأمطار فعلها في نفسك).
    فقالت حنة: (كلا، أبداً. ألم تفكري في الصهاريج الأرضية من قبل؟ إنها منبثة في جميع أرجاء المدينة. وهناك واحد منها في جوف كل شارع. إن بوسعك السير في داخلها بدون أن تصدمي رأسك فياه. وهي تذهب في كل اتجاه وفي النهاية تنحدر إلى البحر.) قالت حنة هذا وهي مفتونة بالأمطار وهي تنهمر على الرصيف المبلط هناك في الخارج ثم تختفي في شبكة القضبان من كل زاوية عند تقاطع الخطوط من بعيد، وأردفت:
    ـ (ألا تودين العيش في صهريج؟)
    ـ (لا لن أود ذلك!)
    ـ (ولكن ألن يكون في هذا متعة ـ أعني، متعة خفية جداً؟ تعيشين في صهريج في باطن الأرض وتختلسين النظر إلى الناس من الشقوق وهم لا يرونك؟ مثلما كنت تلعبين الغماية وأنت صغيرة ولم يكن أحد يستطيع أن يجدك وأنت متوارية في وسطهم طيلة الوقت منزوية ومختبئة، دافئة ومهتاجة. لشد ما يعجبني ذلك! هكذا يجب أن يكون العيش في الصهريج).
    فرفعت جولييت ناظريها عن عملها ببطء وقالت: (أنت أختي وولدت ولادة طبيعية أليس كذلك يا حنة؟ أحياناً، عندما تتكلمين بهذا الأسلوب، أظن ن أمنا وجدتك تحت شجرة في يوم من الأيام وأتت بك إلى البيت وغرستك في أصيص وانبتتك حتى غدوت هكذا. وها أنت لا تتبدلين أبداً).
    ولكن حنة لم تجب. ولذا رجعت جولييت إلى إبرتها. ولم يكن هناك ثمة ألوان في الغرفة ولم تضف أي من الأختين لوناً لها. وبقيت حنة وقالت: (أظن أنك ستسمينها حلماً، أعني الساعة المنصرمة التي قضيتها هنا وأنا أفكر. نعم يا جولييت، لقد كانت حلماً).
    والآن غدا دور جولييت ألا تجيب.
    وهمست حنة: (أظن أن كل هذه المياه جعلتني أغفو لفترة ما. ثم أخذت أفكر في الأمطار ومن أين عساها تأتي وإلى أين تذهب وكيف تفيض في الشقوق الصغيرة من أطر البواليع، ثم رحت أفكر في أعماقها، وفجأة تراءى لي هناك رجل .. وامرأة. في ذلك الصهريج تحت الطريق).
    وسألت جولييت: (وماذا ترى يفعلان هناك؟)
    فقالت حنة: أمن الضروري أن يكون لديهما سبب لذلك؟)
    فقالت جولييت: (لا، ليس ذلك من الضروري إذا كانا معتوهين. كلا، ففي تلك الحالة تكون الأسباب غير ضرورية. إنهما في صهريجهما، وليبقيا فيه!)
    وقالت حنة بلهجة العارف ورأسها إلى جانب وعيناها تتحركان تحت جفنين شبه مغمضين: (ولكنهما ليسا في الصهريج وحسب. كلا، بل هما عاشقان أيضاً.)
    فقالت جولييت: (عجيب! وهل دفعهما العشق إلى التوغل إلى تلك الأعماق؟)
    فقالت حنة: (كلا، بل انقضت عليهما سنوات وسنوات وهما هناك.)
    وقالت جولييت محتجة: (بربك لا تقولي إنهما صرفا هذه السنين كلها هناك يعيشان سوية).
    وسألت حنة بدهشة: (وهل قلت إنهما على قيد الحياة؟ كلا، ليس الأمر كذلك. إنهما ميتان).
    وتدفقت الأمطار في كريات صغيرة صاخبة تنقر زجاج النافذة وتسيل عليه. فكانت القطرات تسقط وتنضم إلى أخواتها وتؤلف خيوطاً من الماء.
    وهتفت جولييت: (آه).
    قالت حنة: (نعم. ميتان. هو ميت وهي ميتة). وبدا كأنما هذا قد أشبع رغبتها. لقد كان اكتشافاً بديعاً، وكانت فخورة به. وتابعت: (يبدو على الرجل أنه كان رجلاً وحيداً لم يحظ بنعمة سفرة واحدة طيلة حياته).
    ـ (كيف تعرفين ذلك؟)
    ـ (إنه يشبه ذلك الصنف من الرجال الذين يشتاقون إلى السفر ولكنهم يحرمون منه. إنك تعرفين ذلك من عينيه).
    ـ (أتعرفين شكله إذن؟)
    ـ (نعم. مريض جداً، ووسيم جداً. تعرفين كيف يكون الرجل وسيماً بفعل المرض؟ المرض يبرز عظام الوجه).
    وسألت الأخت الكبرى: (وهو ميت؟).
    ـ (منذ خمس سنوات). وتكلمت حنة بنعومة وجفناها يرمشان صاعدين نازلين وكأنها على وشط قص حكاية طويلة تعرفها وترغب في سردها ببطء، ومن ثم بسرعة متزايدة إلى أن يجرفها تيار القصة وزخمها وهي واسعة العينين منفرجة الشفتين. ولكنها كانت الآن بطيئة سوى أن سردها كان مشوباً بحمى طفيفة: (منذ خمس سنوات خلتك ان هذا الرجل يسير مرة في الشارع وهو يعلم أنه سار في هذا الشارع ليالي كثيرة وسيظل يمشي فيه. وهكذا صادف مرة غطاء (مصرف) حديدياً كبيراً في طريقه في منتصف الشارع، وسمع دوي النهر يجري صاخباً تحت قدميه، تحت الغطاء المعدني، ويتدفق نحو البحر.) ومدت حنة يدها اليمنى وتابعت: (فانحنى ببطء ورفع غطاء الصهريج ونظر إلى المياه المندفعة والزبد يعلوها وفكر في شخص رغب في حبه ولكنه لم يستطع وصاله. ثم تأرجح بين القضبان الحديدية ونزل، ونزل، إلى أن تلاشى كلياً..).
    وسألت جولييت وهي منهمكة في عملها: (ولكن ماذا جرى في أمرها هي؟ وهل هي ميتة؟)
    ـ (لست متأكدة. إن موتها حديث. ماتت للتو الآن. ولكنها ميتة على كل حال. ميتة بجمال).
    وأعجبت حنة بالصورة التي كونتها في خيالها، وتابعت: (يبقى على الموت أن يجعل من المرأة امرأة جميلة حقاً. وعليه أن يأتي عليها غرقاً كي يجعلها أجمل النساء قاطبة، بالغرق يتلاشى منها الجمود ويطوف شعرها على الماء كنفحة من دخان).
    وأومأت برأسها منسرحة الخيال: (إن جميع المدارس وآداب السلوك وتعاليم العالم بأسره لا يسعها أن تجعل امرأة تتحرك بهذه السهولة الحالمة، لدنة، رقراقة، ناعمة). وحاولت حنة أن تظهر النعومة والرقرقة والرشاقة بيدها المنبسطة الخشنة.
    (انتظرها خمس سنوات، ولكنها لم تعرف مكانه حتى الآن. وها هما هناك، وسيبقيان هناك بعد اليوم .. وسيحييان في الفصل الماطر. ولكن في الفصول الجافة ـ التي قد تبقى شهوراً ـ سيحصلان على فترات طويلة من الراحة، وسيقبعان في فجوات خفية كتلك الأزهار اليابانية المائية، ملتصقين برشاقة، جافين هادئين).
    نهضت جولييت وأضاءت قنديلاً صغيراً آخر في الزاوية من غرفة الطعام، وقالت: (ليتك تكفين عن هذا الكلام!).
    وضحكت حنة وأجابت: (ولكن دعيني أخبرك كيف تبتدئ الحكاية، وكيف يرجعان إلى الحياة. إنها مؤلفة لدي، جاهزة).
    وانحنت إلى الأمام وطوقت ركبتيها وهي تحملق في الشارع والأمطار وأفواه الصهاريج، وتابعت: (ها هما هناك تحت، جافان هادئان. ومن فوق، في الأعالي، تتكهرب السماء..) ورمت بشعرها الباهت الذي وخطه الشيب بيد واحدة إلى الوراء. (العالم العلوي في البداية كله كريات، ثم يلتمع البرق ويقصف الرعد وينتهي الفصل الجاف، فتتدحرج القطرات الصغيرة في المجاري وتنساب، ثم تغدو سيلاً ضخماً ينصب في المصارف، آخذاً معه لفافات من الأوراق اللزجة وتذاكر المسارح والباصات).
    فهتفت جولييت: (والآن تعالي ابتعدي عن تلك النافذة).
    ورسمت حنة بيديها شكلاً مربعاً وقالت: (إني أعرف تماماً شكل الصهريج الكبير المربع في باطن الشارع المبلط. انه ضخم، وهو فارغ من جراء الأسابيع العجفاء إلا من نور الشمس، والصدى يتجاوب في أرجائه إذا ما تكلمت. والصوت الوحيد الذي تستطيعين سماعه وأنت واقفة هناك في أسفله هو صوت سيارة مارة من فوق، صوت بعيد آت من العلي. والصهريج بأكمله أشبه ما يكون بعظم جمل خاو ملقى في الصحراء).
    ورفعت يدها مشيرة. كأنما كانت هي نفسها في قعر الصهريج تنتظر. (قطرة صغيرة تنزّ ثم تسقط على أرضه. كأنما هنالك جريح ينزف دمه في العالم الخارجي من فوق. ثم يقصف الرعد! أم انه صوت سيارة شحن مارة؟).
    جعلت تسرع في الكلام، ولكنها احتفظت بجسمها مرتخياً على النافذة وراحت تنفث الكلمات: (ينز الصهريج إلى أسفل، ثم يظهر النزيز في جميع الفجوات الأخرى، ويغدو ليات صغيرة وحبات من الماء الملونة بعصارة التبغ، تتحرك وتندمج الآخرين، ثم تنقلب الحبات إلى عصب كبير يتدحرج على الأرض المنبسة الورقية. وتأتي جداول أخرى من كل فج، من الشمال والجنوب، ومن الشوارع البعيدة وينضم بعضها إلى بعض وتصبح لغة واحدة براقة تفح. وتتلوى المياه وتعج في تينك الفجوتين الصغيرتين الجافتين اللتين أخبرتك عنهما، وترتفع رويداً رويداً حول الرجل والمرأة القابعين هناك كزهرتين يابانيتين).
    وضمت يديها بتؤدة وشبكت أصابعها بعضها ببعض على شكل ضفيرة وتابعت: (وتنقعهما المياه وتخترقهما، فترتفع يد المرأة أولاً، في حركة صغيرة ويدها هي الجزء الوحيد الحي فيها. ثم ترتفع ذراعها ورجل واحدة. وشعرها..) ولمست شعرها الذي تهدل على كتفيها. (.. ينحل وينتشر كزهرة على المياه. وجفناها المغلقان أزرقان..).
    أخذت الظلمة تغزو الغرفة، وجولييت ما انفكت تخيط. لقد بقيت حنة تتكلم، فحكت كل ما رأته في عين خيالها. وحكت كيف علت المياه وأخذت المرأة معها، وكيف بسطتها المياه وألانتها، ثم أوقفتها بقامتها الكاملة في الصهريج. (والمياه مولعة بالمرأة ولذا فانها تتركها لسجيتها. وبعد زمن طويل من السكون تغدو المرأة على استعداد لتحيا ثانية، مهما كان نوع الحياة التي تشاء المياه أن تعطيها لها).
    وفي مكان آخر وقف الرجل أيضاً في المياه وحكت حنة عن ذلك وكيف حملته المياه ببطء، منجرفاً عائماً، وهي كذلك منجرفة عائمة، إلى ن التقى كل منهما بالآخر. (وتفتح المياه أعينهما، ويستطيعان الرؤية الآن ولكن ليس رؤية الواحد منهما للآخر. إنهما يحومان في دائرة ولكن لم يتلامسا بعد). وقامت حنة بحركة صغيرة برأسها، وعيناها مغمضتان. (وينظر الواحد منهما إلى الآخر، ويتوهجان بنوع من الفسفور. ويبتسمان .. وتتلامس الأيدي).
    وأخيراً تركت جولييت خياطتها بعد أن تصلبت أعضاؤها وحملقت في أختها عبر الغرفة الرمادية الساكنة إلا من صوت هطول الأمطار وهتفت: (حنة!).
    (ويجعلهما المدّ يتلامسان. إنه يأتي ويضمهما معاً. وهذا نوع من الحب بلغ الكمال، لا اثرة فيه ولا أنانية. جسمان فقط، حركتهما المياه فجعلت حبهما نقياً طاهراً، لا خبث فيه).
    وصاحت أختها: (ألا تستحيين من هذا القول؟)
    فأصرت حنة قائلة: (وهما لا يفكران، أليس كذلك؟ وهما في قرارة تلك الأعماق هادئان لا يباليان).
    وجعلت يدها اليمنى على يدها اليسرى ببطء ورفق ثم راحت تحبكهما في الهواء وهما ترتعشان. واخترق ضوء الربيع الباهت النافذة الغارقة بالأمطار وسقط خيال حركة مياه جارية على أصابعها جعلها تبدو كأنها غارقة في مياه شهباء عميقة تلتف حول بعضها البعض، ثم راحت تنهي حكاية حلمها الصغيرة:
    (الرجل طويل وهادئ. ويداه مفتوحتان .. والمرأة صغيرة وهادئة، ومسترخية). وألقت نظرة على أختها. (نهما ميتان، ولا مكان آخر لديهما للذهاب إليه، وما من أحد يدلهما. ولذا فهما هناك. إنهما خاليان من الهموم، في منتهى الكتمان، مختفيان تحت الأرض في مياه الصهريج. إنهما يتلامسان بأيديهما وشفاههما وعندما ينزلقان في المجرى المتقاطع من منفذ الصهريج يقذف بهما التيار معاً. وبعدئذ..) وفكت يديها المتشابكتين .. (لربما يسافران معاً أيضاً، يداً بيد، يتراقصان عائمان نزلا في الشوارع كلها، ويقومان برقصات عمودية حمقاء كلما وقعا في دوامة على حين غرة.) وقامت بيديها بحركات دائرية سريعة واكتست النافذة بدفقة عارمة من الأمطار. (وينساب الاثنان طافيين إلى البحر، عبر المدينة كلها، قاطعين كل الشعاب المتعاكسة في المجاري، يذهبان إلى كل مكان تريده جميع أنحاء الأرض، تحت اثني عشر حانوتاً من حوانيت التبغ، وثمانية وأربعين من حوانيت المشروبات الروحية واثنين وسبعين من حوانيت البقالة، وعشرة مسارح، وتحت أرجل ثلاثين ألفاً من البشر الذين يسيرون ولا يعلمون أو يفكرون بالصهريج).
    وانساب صوت حنة حالماً، ثم هدأ مرة أخرى.
    (وبعدئذ يمر النهار ويصمت الرعد في الشارع من فوق. ويتوقف المطر. وينتهي فصل الأمطار. وتتساقط قطرات النزيز في الأنفاق ثم تجف. ويهبط المد). وبدت خائبة حزينة لذلك. (ويجري النهر إلى البحر. ويشعر الرجل والمرأة بهجر المياه لهما إذ تدعهما يهبطان شيئاً فشيئاً إلى الأرض، ثم يستقران). وخفضت يديها بحركات تدريجية صغيرة إلى حضنها وهي ترمقهما بثبات. وتفقد أرجلهما الحياة التي أعطتها لهما المياه من الخارج، ثم تطرحهما المياه أرضاً جنباً إلى جنب وتختفي، وتجف الأنفاق، ويمكثان هناك مضطجعين. وتشرق الشمس على العالم العلوي من فوق بينهما يضطجعان هناك في الظلام نائمين حتى المرة القادمة إلى أن تهطل الأمطار).
    وكانت يداها الآن فوق حضنها والراحتان مفتوحتان وتمتمت: (رجل لطيف، وامرأة لطيفة). وحنت رأسها فوق راحتيها وأغمضت عينيها بشدة.
    وبغتة استوت حنة في جلستها وحملقت في أختها وصاحت بمرارة: (هل تعرفين الرجل مَن يكون؟)
    ولم تجب جولييت. كانت تنتظر مشدوهة طيلة الدقائق الخمس الماضية وهي تصغي إلى أختها، وفمها مُلتوٍ شاحب، وكادت حنة تزعق وهي تقول:
    ـ (الرجل هو فرانك، ذاك هو بعينه! وأنا المرأة!)
    ـ (حنة!)
    ـ (نعم. إنه فرانك، هناك تحت!)
    ـ (ولكن فرانك قضى منذ عدة سنوات. وبالتأكيد انه ليس هناك يا حنة!)
    والآن لم تكن حنة تتحدث إلى انسان معين، بل كانت تتحدث إلى كل انسان. تتحدث إلى جولييت وإلى النافذة والحائط والشارع. وصاحت: (مسكين فرانك، أنا أعلم أين ذهب. إنه لم يستطع البقاء في أي مكان من العالم. لقد أفسدته أمه حتى لم يعد يصلح لأي شيء في الدنيا! ولذا فانه رأى الصهريج ورأى انه مكان كتوم رائع. آه يا فرانك، يا مسكين! ويا لك يا حنة من مسكينة. آه يا جولييت لماذا لم أمسك بتلابيب فرانك عندما كان هناك؟ لماذا لم أكافح حتى أكسبه من أمه؟)
    (كفى يا حنة، اسكتي! أتسمعين، اسكتي! وانهارت حنة في الزاوية بجوار النافذة بينهما بقيت يدها مرتفعة على زجاجها، وراحت تبكي بصمت. وبعد دقائق قليلة تناهى إلى سمعها صوت أختها يقول: (هل أتممت حكايتك؟)
    ـ (ماذا؟)
    ـ (إذا كنت قد أتممت، تعالي وساعديني في إكمال هذا. يبدو لي انه لن يكمل أبداً).
    ورفعت حنة رأسها ثم انسلت إلى جوار أختها وقالت: (ماذا تريدينني أن أفعل؟). وتنهدت.
    فقالت جولييت وهي تريها: (هذا، هذا).
    فقالت حنة: (حسناً). وأخذت ترمق الأمطار وهي تحرك يديها بالإبرة والخيط ملاحظة كيف أمسى الشارع مظلماً وبات من العسير رؤية غطاء الصهريج المعدني المستدير، ولم يكن هناك سوى ومضات طفيفة في ذلك الوقت المتأخر من الأمسية الدامسة الظلماء، والبرق يتفرقع في السماء على شكل نسيج عنكبوت.
    مر نصف ساعة. ونعست جولييت في كرسيها، فنزعت نظارتها الزجاجية عن عينيها ووضعتها جانباً مع شغلها، ثم أسندت رأسها إلى الوراء ووسنت للحظة. ولربما كان بعد ثلاثين ثانية أن سمعت الباب الأمامي يفتح بعنف، والريح تعصف إلى الداخل. ثم سمعت وقع خطى تعدو نازلة الممر وتنعطف ثم تسرع طوال الشارع الحالك السواد.
    وسألت جولييت مستيقظة وهي تبحث عن نظارتها: (ماذا؟ مَن هناك؟ هل داخل أحد من الباب يا حنة؟) وحملقت في مقعد النافذة الفارغ حيث كانت أختها جالسة، وصاحت: (حنة!) ثم قفزت من مكانها وراحت تعدو نحو القاعة.
    كان الباب الأمامي مفتوحاً والمطر يتساقط من خلاله ضبابياً ناعماً.
    ووقفت جولييت هناك تمعن النظر في الظلمة البليلة وقالت: (لقد خرجت لبرهة وسترجع حالاً). ثم راحت تهتف: (ألن ترجعي سريعاً يا عزيزتي؟ أجيبيني يا حنة إنك عائدة! حالاً، أليس كذلك أختاه؟).
    وعلا غطاء الصهريج في الخارج ثم انصفق.
    وراحت الأمطار توشوش على صفحة الشارع وانهمرت على الغطاء المغلق طيلة ما تبقى من ذلك الليل

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مياه أعماق المدينة

    تعليقات الزوار ()