العقل البشري طاقة من أكبر الطاقات، ونعمة من أكبر نعم الله على الإنسان (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
"و الفؤاد " يستخدم في القرآن بمعنى العقل، أو القوة الواعية في الإنسان أو القوة المدركة على وجه العموم – ولقد فتن الإنسان بعقله، إذ به استطاع أن يميز بين الأشياء، ويدرك خصائصها، ويستنبط فوائدها، ويشكل صورا جديدة من" المادة " التي وجد نفسه محاطا بها على ظهر الأرض أو في السماوات.
وفي العصور الحديثة – خاصة - زادت فتنة الإنسان بعقله، حين رأى المخترعات التي ينتجها، والكشوف التي يقع عليها، وبلغت الفتنة قمتها بانطلاق الطاقة الذرية وانطلاق الصواريخ. وكانت هذه الفتنة على حساب الروح. على حساب الطاقة التي تتصل بالله وتتصل بالمجهول . وهي فتنة عمياء.. لا تبصر.فلو كانت تبصر ما رضيت أن تقص أجنحة الكائن البشري وتقعده عن الانطلاق، ليجثم على الأرض، في حين أنه قادر على ارتياد الأرض بقدميه في ذات الوقت الذي يرتاد بجناحيه فسحة السماء. ولو كانت تبصر ما رضيت أن تبدد الطاقة الكونية الكبرى، طاقة على الروح، لتضخم الطاقة العقلية وتفرش مساحتها، في حين أن هذا العقل البشري على ضخامته لا يستطيع أن يهتدي وحده، ولا بد له من مدد مشع ينير طريقه في الظلمة.. مدد من طاقة الروح. إن كشوف العلم كلها ومخترعاته ليست هي التي توجه الحياة أو التي تحكمها، إنما الذي يوجهها ويحكمها هو طريقة الاستفادة من كشوف العلم ومخترعاته: أفي سبيل الخير أم في سبيل الشر،وفي سبيل السلم أم في سبيل الحرب. والعقل يميز ولاشك بين الخير والشر،ولكن ليس هو الذي يقرر الطريق! فكثيرا ما قرر عقل الإنسان أن كذا من الأمور خطأ ولا يجوز فعله، ثم اندفع إليه الانحراف روحه فانجرف مع الشهوات!
الروح هي التي تقرر!
الروح الواصلة المهتدية تقرر طريق الخير، وتسخر العقل ليسير في طريقه – والروح المنقطعة الضالة تقرر طريق الشر، وتدفع بالعقل في ذلك الطريق.
و الإسلام دين الفطرة، يحترم الطاقات البشرية كلها فهي هبة الله المنعم الوهاب، ولكنه يعطيها أقدارها الصحيحة، لا يبخسها قدرها، ولا يعطيها فوق قيمتها.ويستغلها جميعا إلى أقصى طاقتها لفائدة المخلوق البشري وصلاح حاله على الأرض. ومن ثم فهو يحترم الطاقة العقلية ويشجعها، ويربيها لتتجه في طريق الخير.
يبدأ الإسلام التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي، فيصون الطاقة العقلية أن تتبدد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها. وهو يعطي الإنسان نصيبه من هذه الغيبيات بالقدر الذي يلبي ميله للمجهول. ولكنه يكل أمر ذلك إلى الروح، فهي القادرة على ذلك والمزودة بوسائل الوصول.
أما العقل فوسيلته إلى الله وإلى معرفة الحق، هي تدبر الظاهر للحس والمدرك بالعقل، ومن ثم يحدد الإسلام مجاله بهذا النطاق، ولا يتركه يغرق في التيه الذي غرقت فيه الفلسفة من قبل واللاهوتيات، فلم تصل إلى شيء حقيقي يستحق ما بذل من جهد، إن لم يكن قد غبشت مرآة الفكر البشري، وشتتت ما ينعكس عليها من أضواء.
ثم بعد ذلك يأخذ في تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين:
- الوسيلة الأولى هي وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي.
- الوسيلة الثانية هي تدبر نواميس الكون وتأمل ما فيها من دقة وارتباط.
والوسيلة الأولى يصل إليها بطائفة من التوجيهات والتدريبات فهو أولا يبدأ بتفريغ العقل من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين، وإنما قامت على مجرد التقليد أو الظن.
فينعي على المقلدين الذين يقولون:(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)(قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟!)وينعي على الذين يتبعون الظن:(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس).
(إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) ثم هو يأمر بالتثبت من كل أمر قبل الاعتقاد واقتفائه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا).
وهي مسؤولية ضخمة، يبرز التعبير ضخامتها بإفراد السمع والفؤاد في مبدأ الأمر ليكون كل منها مسؤولا على حدة، ثم جمعها كلها بعد ذلك، وأشركها في المسؤولية، بهذا الجمع والتوكيد:" أولئك " وذلك كله ليحس الإنسان بعظم التبعة وهو يقدم على الأمر، فلا يأخذ الأمور باستخفاف، ولا يأخذها بلا تثبت وهو عنها مسؤول.
والتوجيهات في هذا الباب كثيرة:فأصحاب الكهف مثلا يقولون: "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم
بسلطان بين؟!"هلا يقدمون دليلا واضحا على هذه الآلهة التي يتخذها القوم من دون الله؟ دليلا يتثبت منه العقل قبل اقتفائه؟ وفي حادث الإفك يقول القرآن:(فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).
و الشهادة ضرورية في إقامة الحدود للتثبت من الأمر. فلا تؤخذ الأمور اعتباطا وإنما ينبغي الوصول فيها إلى اليقين قبل إصدار الحكم ودرء الحدود بالشبهات –وهو مبدأ فقهي إسلامي مأخوذ عن السنة – يشير إلى هذا الاتجاه، وهو ضرورة التثبت الكامل قبل النطق بحكم في أي موضوع.وان الأمر يظل معلقا ما لم يصل الإنسان إلى الدليل القاطع – وكلها توجيهات وتدريبات للطاقة العقلية على العمل الصحيحة ومنهج التفكير السليم.
والوسيلة الثانية: - وهي تدبر نواميس الكون – تطبع العقل بطابع من الدقة والتنظيم.
إن نواميس الكون تجري في دقة عجيبة ونظام لا يختل – وفوق ما يوحيه ذلك للقلب البشري من تقوى الله الصانع المدبر والتوجه إليه في كل أمر، فإنه يعود العقل على دقة النظر وضبط الأحكام. إن دورة الأرض
ودورة الشمس ودورة الأفلاك ليست مضبوطة بالساعة ولا بالدقيقة ولا بالثانية ولا بالثالثة... ولكنها مضبوطة بسرعة الشعاع الذي يقطع (186) ألف ميل في الثانية! والنظر في هذه الدقة المذهلة يعود العقل أن يدقق! فكل خلل في التفكير أو التقدير ينتج عنه أخطاء جسيمة، لو كان يحدث مثلها في الكون لانفلت عقده وتهاوى ما فيه من أفلاك والعقل – حين يرى تلك الدقة والترابط – أن يحاول ضبط أفكاره وربطها، والوصول إلى الكليات التي تربط الجزئيات وتحكمها – كما يرى في نظام الكون الكبير.
وقد انطبع تفكير المسلمين بهذه الدقة العلمية – على الرغم من قلة ما كان بأيديهم يومئذ من الآلات والأدوات – فوصلوا إلى كشوف علمية تثبت لهم الجد في التحصيل والصدق في التفكير، كما تثبت لهم قدرا من الدقة يعتبر مثاليا بالنسبة لذلك الحين. وأبحاث البتاني الذي قاس بالدقة دورة الأرض حول الشمس وحسب بالدقة مواعيد الكسوف والخسوف تعتبر شاهدا على طريقة تأثر العقل الإسلامي بمنهج التربية الإسلامية في تربية العقول. يوجه الإسلام الطاقة العقلية أول ما يوجهها على التأمل في حكمة الله وتدبره وهو أمر أقرب ما يكون إلى مملكة الروح.
الله الخالق المدبر الذي خلق السماوات والأرض بالحق، ويديرها بالحق ذلك موضع التأمل. وهو بحر واسع من التأملات لا ينتهي ولا ينفذ.. ولقد عالجته الفلسفات من أول ظهورها إلى اليوم.ولكن في ذهنيات مجردة جافة لا تبقى بالحياة ولا تصل إلى غاية.بينما يمزجها القرآن بنداوة الروح فتبقي، وتسري الحياة إليها فتهز القلب البشري وتربطه بالله.
إن هذا التأمل ليس مقصودا لذاته، ليس مقصودا به أن يصبح فلسفة! يتعاطى فيها الفلاسفة ويغمضون ويبهمون..ثم لا ينتهون إلى شيء!
إنما غايته إصلاح القلب البشري، وإقامة الحياة في الأرض على أسس من الحق والعدل الأزليين الكامنين في بنية الكون وبنية الحياة.
يكرر القرآن هذه الحقيقة في كثير من آياته:
(وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق)
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق)
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)
(خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون)
(خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين)
(ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا)
(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)
(خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم)
الحق إذن في بنية الكون ذاته يوم خلقه الله. لقد خلقه، فامتزج الحق في كيانه، وارتفع عن الباطل والضلال ؛ فالكون لم يوجد مصادفة، ولم يوجد باطلا، ولم يوجد عبثا، وكذلك الإنسان:
(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).
وفي آية التغابن يربط بين خلق السماوات والأرض بالحق وخلق الإنسان في صورته الحسنة: (خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم) فيجعل خلق الإنسان على صورته التي هو عليها جزءا من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض.كما يربط في آية الجاثية بين خلق السماوات والأرض بالحق، وجزاء كل نفس بما كسبت: (وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون).فيجعل الجزاء الأخروي جزءا من الحق الذي خلقت به السماوات والأرض. كما جعل الرجعى إلى الله حقا ينفي به عن الله I العبث في الخلقة: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) وبذلك يكون الإنسان منذ نشأته إلى رجعته، إلى توفيته الجزاء يوم
الجزاء، قائما بالحق في كل مرحلة، محاطا بالحق في كل خطوة، لا باطل في خلقته ولا عبث ولا لهو ولا انحراف. هذا المعنى عميق جدا في بناء الفكرة الإسلامية، والقرآن لا يزال يلح في توكيده، والتوقيع على الحس البشري ليتنبه إليه..إنه أساس العقيدة الذي تنشأ عليه الحياة.
الحق في السماوات وفي الأرض وفي الناس وفي الحياة. والقرآن ذاته هو الحق. ونزل بالحق: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) وفي هذا الجو المشبع "بالحق" يربي الإسلام النفس البشرية، فيعمق في شعورها الإحساس بالحق حتى يصبح هو العقيدة ويصبح هو الحياة. إن لاشيء يحدث باطلا، ولاشيء يحدث اعتباطا. كل شيء بالحق..ولقد يعجز الذهن البشري أحيانا عن أن يحيط بمعنى بعض الحقائق التي تصادفه في حياته فيضل. يضل فيظن أن الحياة باطل وأن كل شيء فيها عبث لا حكمة فيه.. ومن ثم تتشتت روحه وتنفجر وتتناثر، وتفقد "الحق" الذي يسير كيانها.. فتضيع.
وكأي روح ضالة أضلها هذا الوهم وشردها وشتت كيانها، فعاشت بلا هدف. شقية معذبة. لاهي تصل إلى غاية، ولا هي تقدر على نتاج مفيد.
وكأي روح ضالة أضلها هذا الوهم فغرقت في الشهوات، تغرق في كأسها المدنس شقوة العذاب.
وكأي روح ضالة أضلها هذا الوهم فطغت وتجبرت وراحت تنشر الفساد في الأرض، والمظالم في الناس. وألوان من الضلالات شتى، منبعها كلها هذا الوهم الباطل: أن الحياة بلا غاية والكون بلا ناموس!
من أجل ذلك يهتم الإسلام اهتماما بالغا بلفت الحس البشري إلى الحق في السماوات والأرض والحياة والإنسان.ويجعل التدبر في هذا الأمر جزءا من العقيدة، تقوم به القوة الواعية في الإنسان. وتقوم به في جو من إشراقة الروح، حتى لا تذهب بددا وتنيه في الظلمات:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).
فأولوا الألباب " يتفكرون " يستخدمون قواهم الواعية في تدبر آيات الله في الكون وتأملها.ولكنهم لا يتفكرون فكرا مجردا ذاهلا عن الواقع المحسوس، هناك في الأبراج العاجية، حيث لا يصلون إلى شيء ولا يتفكرون كذلك بمعزل عن الله، فيضلوا، إنما يتفكرون وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم.ومن ثم يتصل الفكر عندهم بالله، ويتصل " العلم " كذلك بالله.
وهم لا يتفكرون في الله وآياته هكذا بلا هدف. وإنما هم يصلون إلى هدفهم سريعا: (ربنا ما خلقت هذا باطلا).فيعرضون لتوهم أنه الحق ويلاحظ أن الآية لم تفصل بين التفكر وبين نتيجة التفكر، ولا حتى بكلمة " يقولون "(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا).فكأنما التفكر ونتيجته شيء واحد متصل متلاحق سريع.ثم هم لا يقفون عند النتيجة " الذهنية " التي انتهوا إليها من التفكر " وعرفوها " لا يقفون عند المعرفة في ذاتها بلا غاية.وإنما تتحرك في الحال قلوبهم وأرواحهم بالتسبيح: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك). ثم لا يقفون عند التسبيح المجرد.. لا يقفون عند مجرد الاعتقاد في الله وتسبيحه. إنما هم يصلون من ذلك إلى الإيمان الكامل الذي يشمل الحياة كلها والأعمال والمشاعر والأفكار.يصلون إلى المنهج الإيماني الذي يعيشون به على الأرض، وينفذونه في واقع الحياة، ويجاهدون في سبيله: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب).
إن هذه الآيات هي المنهج الكامل للتأمل الإسلامي في ملكوت الله. وهي التوجيه الذي يوجه العقل في مهمة من مهامه: مهمة تدبر آيات الله في الكون.
إنها تبدأ بالتفكر وتنتهي بالعمل بمقتضى الدستور " الحق " الذي نزل به القرآن.. والجهاد في سبيل إقرار هذا الدستور، وتسيير دفة الحياة على نهجه وشريعته. ثم تصل إلى الغاية القصوى. تصل إلى الجزاء في الآخرة، فتصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة. وتصل البشر بالله.
منهج مذهل في دقته وتكامله وروعة توجيهه.. كله في ست آيات! وحين يقيس الإنسان هذا اللون من التوجيه للطاقة العقلية في تدبر حكمة الله وتدبيره، بالفلسفة قديمها وحديثها، يدرك في الحال عظم الفرق، وعظمة المنهج الإلهي في تربية العقل البشري ويعلم أنه سبحانه خلق كل شيء بالحق وجعله منهجا لإقامة الحق في الحياة. وقد كان العقل الأوربي شطح وهو يبحث في آيات الكون حتى زعم أن الكون بلا خالق، وأنه حدث مصادفة، وأنه لا قاعدة له!ثم جاء أخيرا إلى حقيقة. فاء إلى شيء من " الحق " الذي خلقت به السماوات والأرض والحياة والإنسان. وبدأ علماء الغرب يعرفون أنهم كانوا خاطئين في شطحهم، مبتعدين عن العلم الصحيح.
يقول (ا.كريسي موريسون) في كتاب "العلم يدعو للإيمان": (إن وجود الخالق تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة.وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض، والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بادئ الكون). (إن الإنسان ليكسب مزيدا لا حد له من التقدم الحسابي في كل وحدة للعلم. غير تحطيم ذرة دالتون- التي كانت تعد أصغر قالب في بناء الكون – إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب وإلكترونات طائرة، قد فتح مجالا لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة تبديلا جوهريا، وإن المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع مجالا لوجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة).
أما الفكر الإسلامي فلم يكن في حاجة إلى هذه الشطحة وهو يتأمل ملكوت الله، أو يبحث في العلوم المختلفة نظريها وتجريبها، يوم كانت أوربا ما تزال غارقة في الظلمات لأنه يفكر مهتديا بالله، ويفكر بعقله المستضيء بإشعاع الروح.
كما وجه الإسلام الطاقة العقلية إلى النظر في حكمة التشريع وسير الأمور في المجتمع على منهج صحيح، وقد وجه القرآن الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض وأحوال الأمم والشعوب على مدار التاريخ، كما وجه العقل البشري إلى استخلاص الطاقة المادية وتذليلها لخدمة الإنسان.
ولذلك يحرص الإسلام أشد الحرص على ربط القلب دائما بالله، وتوجيه العقل- وهو يعمل في استنباط الطاقة المادية في الأرض – إلى حكمة الله من الخلق، وآياته في رحاب الكون لأن العلاقة الدائمة بين العبد والرب في الإسلام هي علاقة المودة والحب والتطلع والرجاء.
و البشر لا يحتاجون إلى أن يصارعوا الله سبحانه ليحصلوا على المعرفة، فهو قد أعطاها لهم واهبا منعما فياضا بالإحسان وهو الذي وهب للناس السمع والأبصار والأفئدة، وهو الذي(جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) "وهو الذي (رزقكم من الطيبات) وهو الذي (سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) وهو الذي (علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فالرد على هذه المواهب الجليلة كلها هو الشكر والعرفان، والمودة والحب، وليس العصيان والكفران.
والعلاقة بين العقل والروح قائمة أبدا لا تنفصم في منهج الإسلام. ومن ثم لا يضل العقل – وهو يتعلم – ولا ينحرف عن طريق الخير.. ولا يستخدم معلوماته في سبيل الشر.والعلاقة بين الروح والمادة قائمة.. فلا تستعبد الإنسان المادة، ولا يقع فريسة للآلة تستبعد وتسيطر عليه.إنه حافظ لكيانه المتكامل، مستمد قوته من الله.ومن ثم يظل هو المسيطر وهو العنصر الإيجابي الفعال.
وتلك طريقة الإسلام في تربية العقل والنفس البشرية.. (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)..
|