كان أحمد هو الوحيد من الشباب اللذين أعرفهم، يعيش حتى الآن دون زواج، على الرغم من بلوغة الثلاثين من العمر، حاولت مرارا أن اقنعه بفكرة الزواج، والبحث عن شريكة الحياة، ولكنه كان يماطل ويماطل، حاولت تحليل موقفه فلم أصل الى شئ، سألت أخوته السبعة وكلهم قد تزوجوا ولديهم اطفال، عن سر بقاء أحمد دون زواج، فلم يكن أحدهم يعرف بالضبط ما هو السبب في ذلك، جلست الى أحمد أنظر اليه، فتأمله فوجدته يافعا وذكيا في تعامله مع الآخرين، ويهتم كثيرا في مظهرة حتى أنني لم اتذكر أني رأيته في حالة مزرية، ناجحا في عمله، متفوقا في حياته، تتوفر لديه كل مقومات النجاح بالنسبة للبيت السعيد، و مع ذلك فقد كان يرفض فكرة الزواج، جميع أخوته وشقيقاته لديهم أطفال، وكانوا جميعا يحاولون الضغط عليه من اجل الزواج، وعندما سألته عن حاله هذا، أجاب بثقة قائلا (عندما أحس أن الزواج بالنسبة الي شيئا ضروريا وأمرا ملحا، فلن أتردد في الاقدام عليه) وهكذا أستقر رأيه على تأجيل قرار الدخول في هذه العلاقة الابدية حتى يدرك اللحظة الحقيقة لقرار الارتباط. فالقرار بالارتباط ليس حكما سريعا تصدره خلال فترة النشوة العاطفية التي تنمو خلال مرحلة ما، وإنما يكون القرار في لحظة تحتاج فعلا الى الزواج، وانه لا طريق اليه إلا به، وإذا لم تكن الرؤية واضحة لديك، والرغبة جامحة، فيما كنت تريد الأرتباط حقا، فعليك بمراجعة الأمر والتأكد من صحة رغبتك.
لأن المقصود من الحكم في الزواج هو الوصف الشرعي (التكليفي) فيختلف حكمه باختلاف الشخص المكلف، أي أن حكم الزواج ينقسم الى خمسة أنواع.
1- الزواج الفرض:
تعريف الفرض (ما طلبه الشارع فعله على وجه اللزوم بدليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة ويكفر صاحبه ان أنكر). فإذا ما كان الشخص قد افتتن بالدنيا ولم يصبر على الزواج بحيث انه لو لم يتزوج فانه سيقع بالحرام وقد يلجأ الى اقتراف جريمة الزنا أو انه قد يتعرض للفتن، فإذا كان قادرا على القيام بالأعباء الزوجية وتوفير متطلباتها، فان الزواج له فرضا وتركه يوقعه في المعصية، لان القاعدة الشرعية تقول (مالا يتوصل الى ترك الحرام إلا به يكون فرضا) فالحرام المحدق بالرجل هو إقدامه على الزنا ومعاشرة النساء المحرمات فيكون الزواج له في هذه الحالة فرضا.
2- الزواج الواجب:
تعريف الواجب: ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم بدليل ظني الثبوت او ظني الدلالة) 000 فيكون الزواج واجبا إذا خاف الشخص الوقوع في دائرة الزنا لما يرى من المفاتن ولم يقدر على مواجهة الشهوات، فيغلب على ظنه انه لو استمر على تلك الحالة فانه قد يقع في الزنا فيكون الزواج له واجبا إذا ما كانت لدية الاستعدادات والقدرة الكافية لتكاليف الزواج 0 قال ابن قدامة المقدسي (من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور ان ترك النكاح فهذا يجب عليه النكاح) (المغني 446).
3- الزواج المحرم:
تعريف المحرم: ما نهى عنه الشارع بدليل قطعي على صفة اللزوم) 00 جاء في شرح التحفة (ويحرم على من لم يخش عنتا ولا يؤدي في حقوق الزوجة) (البهجة في شرح التحفة 1 / 235 – أكمال الإكمال 4/ 5). فإذا كان المكلف غير قادر على القيام بالأعباء الزوجية ومتطلباتها، ولم تتوفر لدية الإمكانيات المادية، كان زواجه ظلما لغيره وكل ما يؤدي الى الحرام فهو حرام فزواجه محرم في هذه الحالة، مثل لو كان الزوج لا يستطيع الأنفاق على زوجته، أو أنه منقطعا عن العمل ولا مورد له، أو كان مثلا مريضا بمرضا معديا يخشى انتقاله لزوجته وأولاده، فإن في هذا إضرارا بالزوجة، فالزواج في هذه الحالة يعتبر ظلما للزوجة والشارع يمنع مثل هذا الزواج للضرر المتحقق، قال الامام القرطبي رحمه الله (فمتى علم الزوج انه يعجز عن نفقة زوجته او صداقها او شئ من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها، حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أدراء حقوقها، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع، كان عليه أن يبين كيلا يغر المرأة من نفسه) (فقه السنة 2/17).
4- الزواج المكروه:
تعريف المكروه: فهو ما نهى عنه الشارع بدليل ظني) ويعتبر الزواج مكروها، إذا غلب على ظن الشخص انه سيظلم زوجته ان تزوج ولن يؤدي حقها على الوجه المطلوب وكما أمر الشارع، كأن يكون ضعيف الشخصية، مهزوز الثقة، غير قادر على تولي زمام الأمور غدا إذا ما تزوج، لارأي له ولا دور، ينصاع للصغير والكبير دون وعي، فمثل هذا لا يصل الى مرتبة اليقين، ولذا فإن حكم زواجه الكراهة لا التحريم، (جاء في كتاب تبين المسالك: ويكره الزواج في حق من لا يشتهيه ولا يرجو نسله، ويقطعه عن الزيادة في الخير فإن لم يقطعه عن الزيادة في الخير جاز) (تبين المسالك ص 10 - الجزء الثالث).
أما إذا كان الشخص يتيقن الوقوع في الزنا أن لم يتزوج، وكان لديه اليقين بأنه لو تزوج فسيظلم زوجته ولن يقدر على إيفاء الحقوق، فحكمه عدم الزواج أولى لأن المحرم لا يبيح المحرم عند الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (الزواج وآثاره) أما الدكتور الشيخ مصطفى السباعي فيرى خلاف ذلك لان مفسدة الزوجة ان حصل فهو خاص بها ويمكن ان تتحملها وحدها أو ان ترضى بها أما مفسدة الزنا فهذا أمر عام ويمتد أثره على المجتمع كما جاء في كتابه (الزواج وانحلاله)
5- الزواج المندوب:
تعريف المندوب: فهو ما طلبه الشارع من غير إلزام) فإذا كان الإنسان لا يخشى الوقوع في الزنا وكان قادرا على القيام بالواجبات الزوجية، فتسمى حالة، بحالة الاعتدال وزاوجه مندوب إليه وفق ما قرره جمهور الفقهاء في المذهب المالكي والمذهب الحنبلي والمذهب الحنفي، مستندين في هذا الى نصوص الشريعة الإسلامية، وقد اختلف بعض الفقهاء في هذا النوع من الزواج فقال مذهب الظاهرية، بأن الزواج فرض على القادر عليه، أما المذهب الشافعي فاعتبروا الأصل في حال الاعتدال الإباحة لا الندب 0 (فتح القدير ج2ص340 – المغني ج6ص446- مهذب الشيرازي2ص35- البدائع ج2 ص 228). قال القاضي عياض رحمه الله (الزواج مندوب في حق كل من يرجى منه النسل (نيل الاوطار للشوكاني 6/231).
وهكذا وضع أحمد حدا لهذه الاستفسارت التي كانت تنهال عليه من أهله واصدقائه، حول موعد زواجه، فأخبرهم بأنه لا يعاني من مشكلة ما، وأنه سعيدا بالطريقة التي يحيا بها حياته، ومتى ما اتخذ القرار المناسب بالارتباط فإنه سوف يخبرهم بذلك، ومنذ ذلك الوقت كف الذين من حوله عن سؤاله، ولكن ظلت والدته تسأله بين الفينة والأخرى إذا ما كان الوقت قد حل ليتخذ قرار الارتباط أم لا.
هل الزواج من العبادات أم من المباحات؟
أختلف الأئمة في حكم الزواج؟ وذلك باختلاف أحوال الناس ومدى حاجتهم الى الزواج، فهو في نظر الأحناف تعتبر سنة مؤكدة، وقال بعضهم هو وجوبا عينيا وعملا لا اعتقادا (بدائع الصنائع) في حين انه عند المذهب الشافعي من المباحات يجوز فعله وتركه، أما أصحابه من أهل الشام فقد قالوا بالوجوب (روضة الطالبين 18/7)، وذهب الحنابلة الى ان الزواج افضل من نوافل العبادة للشاب الذي يخاف الزنا ويعاني من الشهوة، وقال بعضهم بالوجوب كما في إحدى روايات الامام أحمد (المغنى 341/9)، أما المالكية فقالوا ان النكاح يكون واجبا إذا تيقن الوقوع في الزنا لو لم يتزوج، ومندوب لمن قدر عليه ورجا النسل، قال ابن حزم في كتابه المحلى (الزواج واجب على الرجال دون النساء) (المحلى 444/9).
وذهب جمهور أهل العلم في حكم الزواج الى استحبابه للتائق اليه الذي لا يخشي على نفسه الوقوع في الزنا (حاشية ابن عابدين 7/3 – مغني المحتاج 125 / 3).
على ان القول الفصل في هذا الخلاف هو أحوال سيد الخلق محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، الذي أمرنا باتباع سنته والتأسي به، وما كان الله تعالى ليرضى لأشرف أنبيائه إلا أشرف الأحوال، ومن ثم فقد ذكر له حال من قبله من المرسلين وما من عليهم به من نعمة الأزواج ليقفو أثرهم فقال جل وعلا (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) فلانبياء عليهم السلام كانت لهم ذرية وزوجات وحفدة، ولم يمتنعوا عن الزواج على الرغم من الرسالة الربانية التي يبلغونها للناس، فأنت ترى ان الشريعة الإسلامية تحرم على المسلم ان يمتنع عن الزواج ويزهد فيه بنيه الرهبانية والتفرغ للعبادة، لا سيما إذا كان الشاب قادرا عليه، متيسرة له أسبابه ووسائله، ولو كان ترك الزواج ولو للتفرغ للعبادة افضل لأمر الله تعالى به النبي (ص) ولكان أولى الناس به، وتأكيدا لهذا المعنى، فإن الله تعالى حين امتدح عباده الذين شرفهم بالانتساب إليه ووصفهم بخير ما فيهم جعل ختام هذه الصفات الكريمة قوله عز وجل (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمقتين إماما).
يقول الحافظ بن حجر
من خير ما يتخذ الإنسان
في دنياه كيما يستقيم دينه
قلب شكورا او ذاكـر
وزوجــة صالحـة تعينه
وإلى اللقاء في الدرس القادم و (لماذا هي أسس الاختيار السليم؟!)
|