يا عازفَ المزمارِ
|
شرّدني وراءكَ في القفارِ!
|
فإنني شارفتُ أن أبكي
|
على بابِ المدينة كالغريبِ
|
مفارقاً هذي الديارْ
|
يا عازفَ المزمارِ شردّني!
|
لأخلعَ خرقةَ الأحزانِ عن روحي المهيضةِ
|
إنني أقفلتُ شباكي على نفسي الحزينةِ
|
واقتعدتُ الليلَ
|
منسيّاً على بابِ المزارْ
|
فبكيتُ من يأسيْ قليلاً
|
وانصرفتُ كجرّةِ الخمرِ العتيقِ
|
إلى عجوزِ الانتظارْ
|
متنهدٌ قلبيْ،
|
وباكيةٌ دواةُ الحبرِ في روحي
|
وأيامي غبارْ
|
فأنا المشرّدُ تحتَ أمطارِ الشتاء
|
تسوطني الريحُ الجريحةُ،
|
والغيومُ السودُ
|
ترخي فوقَ أكتافي جدائلَ حزنها
|
والقمحُ يدفعني بإيقاعِ الحفيفِ
|
إلى صخورِ الانتحارْ!
|
يا طاعناً في السنّ فاطعني!
|
ويا صفصافُ فاشنقني على أغصان داليةٍ،
|
وكفّنْ يا خريفُ حياتي الثكلى
|
بأوراقِ الدموعِ،
|
ورُدَّني للاصفرارْ!
|
فأنا الغريبُ بلا رسائلَ أو ديارْ!
|
يا ليتني أيقونة في الليلِ
|
يملؤني المسيحُ بحزنهِ
|
ويفيضُ في معناهُ بين جوانحي..
|
يا ليتني أرجوحة عندَ المغيبِ
|
ينامُ عصفورٌ بها
|
وعباءةٌ لتضمّ أحزانَ الغريبْ!
|
من أينَ يأتي الحزنُ يا أمّاهُ؟
|
يأتي من نداءاتِ الهوى المهجورِ،
|
من زغرودةٍ،
|
من خصلةِ الشعرِ التي تلهو بها ريحٌ على
|
شجرِ النحيبْ
|
يا عازفَ المزمارِ شرّدْني
|
أنا المولودُ من ذرفِ الدموعِ
|
على الترابِ،
|
ومن أغاني المهدْ
|
مرّت على وجهي يدُ الريحانِ دافئةً
|
فنمتُ..
|
وكررّتْ حزني على الأيامِ
|
أصواتُ الخريرْ
|
يا سيدَ الأحزانِ مالحةٌ هي الأيامُ
|
والأجراسُ مثخنة بأصداءِ الحداءِ
|
فخلّني للخبزِ يبكيني،
|
وتحملني الأغاني
|
مثل كسراتِ الجرارِ إلي الفقيرْ
|
لا طفلةً نسيتْ سريري
|
خلفَ ذاك الغيم مهتزّاً،
|
ولا ريحاً مضتْ بغناءِ أميَ للجبالِ
|
كأن هذا الغيمَ أيلولي المشرّدُ،
|
والنواعيرَ العتيقةَ
|
فصلُ مرثاتي الأخيرْ
|
يا سيدَ الأحزانِ أثكلني حبيبيْ
|
الأرضُ موحشةٌ بدونِ يديهِ
|
والأيامُ باكيةٌ كتمثالٍ ضريرْ
|
دعني أحكُّ بقبرهِ النائي
|
جدائلَ شعريَ السوداء
|
واتركني جريحَ الروحِ
|
نوّاحاً على وترِ الهجيرْ!
|
ليصيرَ معنى الليلِ والأحزانِ معنىً واحدا
|
وتصيرَ مريمةُ المراثي
|
قلبَ هذي الأرضِ إن غابوا
|
وإن صلبوا
|
وإن مالوا على كتبِ الطفولةِ تائبينْ
|
كلُّ النواحةِ أنني كوخٌ حزينْ
|
ترعاهُ أغنيةٌ مهجّرةٌ
|
ويحرسهُ سياجُ الفلّ
|
من حزن العصافيرِ الطعينةِ
|
والحمامُ الغضُّ ينتظرُ الرسائلَ
|
من غيابِ الراحلينْ
|
مروا على كوخي وضاعوا
|
سبعُ غيماتٍ بكتْ فوقي
|
ومالتْ شجرةُ الأرزِ الكليمةِ للغروبِ
|
وأجهشتْ بالدمعِ فوق الياسمينْ
|
يا ليتنا ورقٌ
|
لنسقطَ فوقَ أرضِ الدمعِ
|
من غصنِ الحياةِ!
|
لكي نناديهم بأسماءِ الكهولةِ
|
كلما مرّ الخريفُ على كهولتنا:
|
خذوا دمنا
|
يا راحلينَ إلى الجنوبْ!
|
مروا كغيمِ الصيفِ في صفصافنا العالي
|
وصاروا كالنصوبْ!
|
مروا وراحوا وردةً في الريحِ
|
يا شجرَ الذين نحبهم!
|
وقفوا وراءَ حدود حسرتنا
|
كأصنامِ الغروبْ
|
مزمار يا مزمارُ نوّحْ في ليالينا
|
فلعلهمْ يأتونْ!
|
تشتاقهمْ نفسيْ فيؤلمها الضنى
|
وتزورهمْ بالسرّ روحي
|
عندما يبكونْ
|
تركوا السوادَ لليلتي
|
وتراجعوا نحو الفراقْ
|
سأعولُ ما نبحتْ ذئابٌ في دميْ،
|
وأنوحُ ما ناحَ الحمامُ على العراقْ!
|
لو كنتَ يا مزمارُ توأمَ حنطتي بالدمعِ
|
كنتُ بكيتُ مثلَ الغيمِ في شجر النخيلْ!
|
لو كنتَ رجعَ ندامتيْ في الحبِّ
|
كنتُ زرعتُ في حقلِ الغروبِ قسيمتي
|
لأصيرَ أيّوبَ الرحيلْ!
|
لو كانَ أنكَ ثاكلي
|
لرفعتُ صوتيَ بالبكاءِ على الليالي،
|
واستعرتُ من الحمامِ الحرّ حنجرةَ الهديلْ
|
وبكيتُ طولَ العمرِ من غابوا
|
ومن أيامهم في الأرضِ أضرحةٌ
|
وغربتهم ترابُ
|
يا لابسي ندماً عباءاتِ الحدادِ على السوادِ
|
ترفقّوا بالروحِ!
|
ولتصغي السماءُ لآهتي،
|
ولدمعي المذروف
|
فليصغي البكاءُ المستطابُ!
|
أنا نأمةُ الصوفيِّ في حزن اليمامةِ
|
تُنكرُ الأحزانُ أرداني، ويألفني الغيابُ
|