عجوز الانتظار

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

يا عازفَ المزمارِ‏

شرّدني وراءكَ في القفارِ!‏

فإنني شارفتُ أن أبكي‏

على بابِ المدينة كالغريبِ‏

مفارقاً هذي الديارْ‏

يا عازفَ المزمارِ شردّني!‏

لأخلعَ خرقةَ الأحزانِ عن روحي المهيضةِ‏

إنني أقفلتُ شباكي على نفسي الحزينةِ‏

واقتعدتُ الليلَ‏

منسيّاً على بابِ المزارْ‏

فبكيتُ من يأسيْ قليلاً‏

وانصرفتُ كجرّةِ الخمرِ العتيقِ‏

إلى عجوزِ الانتظارْ‏

متنهدٌ قلبيْ،‏

وباكيةٌ دواةُ الحبرِ في روحي‏

وأيامي غبارْ‏

فأنا المشرّدُ تحتَ أمطارِ الشتاء‏

تسوطني الريحُ الجريحةُ،‏

والغيومُ السودُ‏

ترخي فوقَ أكتافي جدائلَ حزنها‏

والقمحُ يدفعني بإيقاعِ الحفيفِ‏

إلى صخورِ الانتحارْ!‏

يا طاعناً في السنّ فاطعني!‏

ويا صفصافُ فاشنقني على أغصان داليةٍ،‏

وكفّنْ يا خريفُ حياتي الثكلى‏

بأوراقِ الدموعِ،‏

ورُدَّني للاصفرارْ!‏

فأنا الغريبُ بلا رسائلَ أو ديارْ!‏

يا ليتني أيقونة في الليلِ‏

يملؤني المسيحُ بحزنهِ‏

ويفيضُ في معناهُ بين جوانحي..‏

يا ليتني أرجوحة عندَ المغيبِ‏

ينامُ عصفورٌ بها‏

وعباءةٌ لتضمّ أحزانَ الغريبْ!‏

من أينَ يأتي الحزنُ يا أمّاهُ؟‏

يأتي من نداءاتِ الهوى المهجورِ،‏

من زغرودةٍ،‏

من خصلةِ الشعرِ التي تلهو بها ريحٌ على‏

شجرِ النحيبْ‏

يا عازفَ المزمارِ شرّدْني‏

أنا المولودُ من ذرفِ الدموعِ‏

على الترابِ،‏

ومن أغاني المهدْ‏

مرّت على وجهي يدُ الريحانِ دافئةً‏

فنمتُ..‏

وكررّتْ حزني على الأيامِ‏

أصواتُ الخريرْ‏

يا سيدَ الأحزانِ مالحةٌ هي الأيامُ‏

والأجراسُ مثخنة بأصداءِ الحداءِ‏

فخلّني للخبزِ يبكيني،‏

وتحملني الأغاني‏

مثل كسراتِ الجرارِ إلي الفقيرْ‏

لا طفلةً نسيتْ سريري‏

خلفَ ذاك الغيم مهتزّاً،‏

ولا ريحاً مضتْ بغناءِ أميَ للجبالِ‏

كأن هذا الغيمَ أيلولي المشرّدُ،‏

والنواعيرَ العتيقةَ‏

فصلُ مرثاتي الأخيرْ‏

يا سيدَ الأحزانِ أثكلني حبيبيْ‏

الأرضُ موحشةٌ بدونِ يديهِ‏

والأيامُ باكيةٌ كتمثالٍ ضريرْ‏

دعني أحكُّ بقبرهِ النائي‏

جدائلَ شعريَ السوداء‏

واتركني جريحَ الروحِ‏

نوّاحاً على وترِ الهجيرْ!‏

ليصيرَ معنى الليلِ والأحزانِ معنىً واحدا‏

وتصيرَ مريمةُ المراثي‏

قلبَ هذي الأرضِ إن غابوا‏

وإن صلبوا‏

وإن مالوا على كتبِ الطفولةِ تائبينْ‏

كلُّ النواحةِ أنني كوخٌ حزينْ‏

ترعاهُ أغنيةٌ مهجّرةٌ‏

ويحرسهُ سياجُ الفلّ‏

من حزن العصافيرِ الطعينةِ‏

والحمامُ الغضُّ ينتظرُ الرسائلَ‏

من غيابِ الراحلينْ‏

مروا على كوخي وضاعوا‏

سبعُ غيماتٍ بكتْ فوقي‏

ومالتْ شجرةُ الأرزِ الكليمةِ للغروبِ‏

وأجهشتْ بالدمعِ فوق الياسمينْ‏

يا ليتنا ورقٌ‏

لنسقطَ فوقَ أرضِ الدمعِ‏

من غصنِ الحياةِ!‏

لكي نناديهم بأسماءِ الكهولةِ‏

كلما مرّ الخريفُ على كهولتنا:‏

خذوا دمنا‏

يا راحلينَ إلى الجنوبْ!‏

مروا كغيمِ الصيفِ في صفصافنا العالي‏

وصاروا كالنصوبْ!‏

مروا وراحوا وردةً في الريحِ‏

يا شجرَ الذين نحبهم!‏

وقفوا وراءَ حدود حسرتنا‏

كأصنامِ الغروبْ‏

مزمار يا مزمارُ نوّحْ في ليالينا‏

فلعلهمْ يأتونْ!‏

تشتاقهمْ نفسيْ فيؤلمها الضنى‏

وتزورهمْ بالسرّ روحي‏

عندما يبكونْ‏

تركوا السوادَ لليلتي‏

وتراجعوا نحو الفراقْ‏

سأعولُ ما نبحتْ ذئابٌ في دميْ،‏

وأنوحُ ما ناحَ الحمامُ على العراقْ!‏

لو كنتَ يا مزمارُ توأمَ حنطتي بالدمعِ‏

كنتُ بكيتُ مثلَ الغيمِ في شجر النخيلْ!‏

لو كنتَ رجعَ ندامتيْ في الحبِّ‏

كنتُ زرعتُ في حقلِ الغروبِ قسيمتي‏

لأصيرَ أيّوبَ الرحيلْ!‏

لو كانَ أنكَ ثاكلي‏

لرفعتُ صوتيَ بالبكاءِ على الليالي،‏

واستعرتُ من الحمامِ الحرّ حنجرةَ الهديلْ‏

وبكيتُ طولَ العمرِ من غابوا‏

ومن أيامهم في الأرضِ أضرحةٌ‏

وغربتهم ترابُ‏

يا لابسي ندماً عباءاتِ الحدادِ على السوادِ‏

ترفقّوا بالروحِ!‏

ولتصغي السماءُ لآهتي،‏

ولدمعي المذروف‏

فليصغي البكاءُ المستطابُ!‏

أنا نأمةُ الصوفيِّ في حزن اليمامةِ‏

تُنكرُ الأحزانُ أرداني، ويألفني الغيابُ