حداءٌ بعيدٌ على مغربِ الشمسِ
|
يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ،
|
والغيمُ يعبرُ من خلفِ نافذةِ العمرِ
|
مثل بقايا المواويلِ...
|
لم تبقَ إلا أقلُّ الرياحِ نحيباً،
|
وغيرُ هشيرٍ لعشِّ الحمامهْ.
|
ولم تبقَ غيرُ البراري التي
|
يهرعُ القلبُ نحو حواكيرها
|
فاغراً فاهُ كالذئبِ،
|
وهو يراكضُ أنثاه
|
في شهوةِ الموتِ
|
حتى تقوم القيامهْ.
|
وغيرُ صراخِ الحنينِ المريرِ
|
إلى ما فقدناه في لجّةِ الليل،
|
والصلواتُ التي تتقطّرُ تحتَ الصفاءِ
|
الإلهيّ أدعيةً ويتامى.
|
كأنْ طارَ طيرُ صباحي الحزينُ
|
على حقلِ آسٍ جريحٍ
|
فهوَّم في الأفقِ الطلقِ كالسيفِ،
|
ثم تهاوى على زهرةِ الروحِ
|
مثلَ قميصِ الندامهْ.
|
* * *
|
حداءٌ شجيُّ المواويلِ
|
يطرحني كالربابةِ
|
في طرقاتِ الرحيلِ
|
ولكنني بعدَ أنْ يتعبَ العمرُ
|
أصرخُ من ظمئيْ:
|
اسقني الماءَ عمرو!
|
اسقني الماءَ!
|
أحسبُ أني أراها
|
أرى قلبها واقفاً في الشمالِ الحزينْ!
|
فتاةٌ بعمرِ الرياحينِ.
|
وخّطها الشيبُ،
|
واصفرَّ من حولها ورقُ العمرِ
|
والياسمينْ.
|
كأنْ مرَّ يومانِ أو بعض يومٍ
|
على رحلةِ الأمسِ
|
حتى غدتْ حمصُ قفراءَ
|
أينَ الحزينةُ بينَ النساءِ؟
|
وأين مآذنها الباكياتُ
|
على قمرِ العشقِ؟
|
كم مرَّ منها على الأرضِ؟
|
مرَّ زمانٌ مديدٌ
|
فهذي البيادرُ ممحوّةُ القمحِ،
|
والأرضُ موغلةٌ في السنينْ.
|
وحمصُ حنينُ الغريبِ إلى الموتِ!
|
محكومةٌ بالنواحِ نواعيرها السودُ،
|
والحورُ وهو يميلُ مع الريحِ
|
كامرأةٍ خاطئهْ..
|
والهواءُ الأحنُّ على السروِ عند الغروبْ.
|
كذئبٍ من الدمعِ يقعي بجانبها
|
حزنُهَا البدويُّ
|
ويغمضُ عينينِ معتمتينِ على الموتِ
|
في جزعٍ
|
مثل فزاعةٍ للنصوبْ.
|
وحمصُ لفيفُ الحمامِ
|
الذي نقتفيهِ إذا حاقنا الموتُ،
|
والخمرُ قبلَ ارتعاشِ النمالِ
|
على خَدَرِ الروحِ،
|
والسكنُ الأبديُّ إلى امرأةٍ من ذنوبْ.
|
وحمصُ الفتاة التي خصَّها الوعرُ بالثكلِ
|
حتى استمالتْ إليها المواويلَ!
|
عَمَّرَهَا الليلُ من شوقهِ للتأوّهِ.
|
كي يتأمّلَ رجعَ المياهِ على ركبتيها،
|
ويغسلَ في جدولِ الحبِّ أعضاءهُ بالشقاءْ.
|
وحمصُ امرأهْ
|
أبدعتها البحيراتُ
|
كي تتهادى عليها طيورُ الإوزِّ الحزينُ،
|
ويأتمَّ شاطئها الأنبياءْ.
|
وحمصُ البناتُ اللواتي يزغردنَ
|
قبلَ تفتّحِ ريحانهنَ على شهوةِ الحزنِ،
|
والانتظارُ المريرُ لموجِ الأنوثةِ
|
وهو يضرّجُ بالكحلِ ضلعَ النساءْ.
|
فتاةٌ تسيّجُ حقلاً من القمحِ بالقطنِ
|
كيما تنادي على قمرٍ ضائعٍ
|
في سوادِ السماءْ.
|
قديماً أهالَ عليها الحداةُ عتاباتهمْ
|
واستحالوا رعاةً
|
يطوفونَ حول الطلولِ
|
وهم يقرعونَ طبولَ الفراقِ
|
ويرثونَ كلَّ المدنْ.
|
وجثا قربَ مرقدها الأبديّ
|
مغنِّي الربابِ الحزينُ
|
وراحَ يموّلُ في ظلمةِ الليلِ
|
للحبِّ والحزنِ
|
ذاكَ الغناءَ الشجيّْ.
|
فعلَّمها الحزنَ
|
قبلَ بكاءِ الحمامِ على راحتيها،
|
وقبلَ رحيل المحبيّنَ صيفاً
|
إليها لينتحروا
|
تحتَ حرِّ حزيرانها الشبقيّْ.
|
وقبلَ صعودِ الحليبِ إلى نهدِ (وردٍ)،
|
وتلويحها الساحليِّ على شجرِ الهذيانِ
|
ومسِّ ابن رغبانَ بالجنِّ
|
وهو يضرّجُ بالندمِ المرِّ وجهَ
|
شقيقِ الفراتِ الشقيّْ.
|
فقامتْ إلى النهرِ تدعوهُ:
|
يا دائمَ الحزنِ عندَ جذوعِ النواعيرِ!
|
خذني بمجراكَ أرملةً للخريرِ!
|
الذي رعرعتهُ مواويلُ أمي
|
وهي تهزُّ سريري،
|
وردّدهُ صوتُهَا القرويّْ.
|
أَبى النهرُ أن يتأوّهَ إلاَّ لمجراهُ بينَ الصخورِ..
|
شقيقُ الحقولِ الحزانى،
|
ووارثُ ذرفِ الدموعِ!
|
فأرختْ على كتفِ القمح صفرتها الساحليّةَ
|
فيما الضفائرُ شاردةٌ في مهبٍّ قصيّْ.
|
تموِّجُ في الريحِ ترجيعَهَا المستجيرَ
|
وتصرخُ عبرَ الفيافي
|
صراخَ الحنينِ إِلى المفتقدْ.
|
:أنا حمصُ
|
زهرةُ حنّائكم في ليالي الزفافِ،
|
وزهراءُ بنتُ الهديلِ
|
التي تتراقصُ مثلَ الزغاريدِ
|
فوقَ سماءِ الأحدْ.
|
أنا المستحّمةُ في نبعةِ الليلِ،
|
أولُ أنثى اشتهاها هلالُ الربيعِ
|
وصارَ حزيناً
|
يهيمُ على نفسهِ في الغيومِ
|
ولا يلتقي بامرأهْ.
|
أنا حمصُ معشوقةُ الشعراءِ
|
الذين مضى عمرهمْ في اقتفائيْ،
|
وضيَّعتهمْ في الطريقِ إليّْ.
|
ولكنها الآنَ ضلّيلةُ الألمِ المرِّ
|
متروكة للرياحِ ضفائرُهَا الهاشلاتُ،
|
ومجروحة روحها بالحداءِ الجنوبيْ.
|
ينوحُ القَطا في براري صباها الحزينةِ
|
من دونِ إلفٍ،
|
ويعدو ابن آوى المهجّرُ
|
في ظلمةِ الوعرِ
|
خلفَ فراديسَ ضائعةٍ،
|
ويشقُّ كما الطفل قمصانَهُ
|
لهلالِ المساءِ النبيّْ.
|
ويهرعُ نحو خرائبها في المغيبِ غريبٌ ونخلتهُ،
|
قرويٌّ وحنطتهُ،
|
جبليٌّ وسروتهُ راجعينَ
|
ليرثوا بها حزنها البدويّْ!
|
***
|
حداءٌ شجيُّ المواويلِ
|
يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ
|
والريحُ تلفحُ زيتونةَ الانتظارِ العجوزِ
|
ببابِ الأحدْ.
|
كأنْ حمص بنتٌ تدقُّ على بابِ
|
حبٍّ قديم.
|
وما منْ أحدْ.
|
غيرُ ذاكَ الخيالِ الذي يتراءى
|
على حائطٍ من ظلالِ الأبدْ.
|
ولكنها حينَ ينفتحُ البابُ
|
تلمحُ ظلاً ضئيلاً
|
محتهُ سنون الكآبةِ
|
يخرجُ من وحشةِ الصمتِ
|
ثم يسيرُ (ولا يلتقي بأحدْ).
|
فيا ليتَ تعرفُ أنّيْ
|
أنا ذلكَ الشبحُ المريميُّ الحزينْ
|
ويا ليتها حين تبكي الرياحُ على شجرِ الحورِ
|
تعرفُ أن نحيبَ الحواكيرِ رَجْعُ صدايَ
|
أنا البدويُّ الذي راحَ يحدو
|
على مغربِ الشمسِ:
|
لا تتركوني وحيداً
|
أقاتلُ وحشَ السنينْ!
|