أرملة مغني الرباب الحزين

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : طالب همّاش | المصدر : www.adab.com

 

حداءٌ بعيدٌ على مغربِ الشمسِ‏

يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ،‏

والغيمُ يعبرُ من خلفِ نافذةِ العمرِ‏

مثل بقايا المواويلِ...‏

لم تبقَ إلا أقلُّ الرياحِ نحيباً،‏

وغيرُ هشيرٍ لعشِّ الحمامهْ.‏

ولم تبقَ غيرُ البراري التي‏

يهرعُ القلبُ نحو حواكيرها‏

فاغراً فاهُ كالذئبِ،‏

وهو يراكضُ أنثاه‏

في شهوةِ الموتِ‏

حتى تقوم القيامهْ.‏

وغيرُ صراخِ الحنينِ المريرِ‏

إلى ما فقدناه في لجّةِ الليل،‏

والصلواتُ التي تتقطّرُ تحتَ الصفاءِ‏

الإلهيّ أدعيةً ويتامى.‏

كأنْ طارَ طيرُ صباحي الحزينُ‏

على حقلِ آسٍ جريحٍ‏

فهوَّم في الأفقِ الطلقِ كالسيفِ،‏

ثم تهاوى على زهرةِ الروحِ‏

مثلَ قميصِ الندامهْ.‏

* * *‏

حداءٌ شجيُّ المواويلِ‏

يطرحني كالربابةِ‏

في طرقاتِ الرحيلِ‏

ولكنني بعدَ أنْ يتعبَ العمرُ‏

أصرخُ من ظمئيْ:‏

اسقني الماءَ عمرو!‏

اسقني الماءَ!‏

أحسبُ أني أراها‏

أرى قلبها واقفاً في الشمالِ الحزينْ!‏

فتاةٌ بعمرِ الرياحينِ.‏

وخّطها الشيبُ،‏

واصفرَّ من حولها ورقُ العمرِ‏

والياسمينْ.‏

كأنْ مرَّ يومانِ أو بعض يومٍ‏

على رحلةِ الأمسِ‏

حتى غدتْ حمصُ قفراءَ‍‏

أينَ الحزينةُ بينَ النساءِ؟‏

وأين مآذنها الباكياتُ‏

على قمرِ العشقِ؟‏

كم مرَّ منها على الأرضِ؟‏

مرَّ زمانٌ مديدٌ‏

فهذي البيادرُ ممحوّةُ القمحِ،‏

والأرضُ موغلةٌ في السنينْ.‏

وحمصُ حنينُ الغريبِ إلى الموتِ!‏

محكومةٌ بالنواحِ نواعيرها السودُ،‏

والحورُ وهو يميلُ مع الريحِ‏

كامرأةٍ خاطئهْ..‏

والهواءُ الأحنُّ على السروِ عند الغروبْ.‏

كذئبٍ من الدمعِ يقعي بجانبها‏

حزنُهَا البدويُّ‏

ويغمضُ عينينِ معتمتينِ على الموتِ‏

في جزعٍ‏

مثل فزاعةٍ للنصوبْ.‏

وحمصُ لفيفُ الحمامِ‏

الذي نقتفيهِ إذا حاقنا الموتُ،‏

والخمرُ قبلَ ارتعاشِ النمالِ‏

على خَدَرِ الروحِ،‏

والسكنُ الأبديُّ إلى امرأةٍ من ذنوبْ.‏

وحمصُ الفتاة التي خصَّها الوعرُ بالثكلِ‏

حتى استمالتْ إليها المواويلَ!‏

عَمَّرَهَا الليلُ من شوقهِ للتأوّهِ.‏

كي يتأمّلَ رجعَ المياهِ على ركبتيها،‏

ويغسلَ في جدولِ الحبِّ أعضاءهُ بالشقاءْ.‏

وحمصُ امرأهْ‏

أبدعتها البحيراتُ‏

كي تتهادى عليها طيورُ الإوزِّ الحزينُ،‏

ويأتمَّ شاطئها الأنبياءْ.‏

وحمصُ البناتُ اللواتي يزغردنَ‏

قبلَ تفتّحِ ريحانهنَ على شهوةِ الحزنِ،‏

والانتظارُ المريرُ لموجِ الأنوثةِ‏

وهو يضرّجُ بالكحلِ ضلعَ النساءْ.‏

فتاةٌ تسيّجُ حقلاً من القمحِ بالقطنِ‏

كيما تنادي على قمرٍ ضائعٍ‏

في سوادِ السماءْ.‏

قديماً أهالَ عليها الحداةُ عتاباتهمْ‏

واستحالوا رعاةً‏

يطوفونَ حول الطلولِ‏

وهم يقرعونَ طبولَ الفراقِ‏

ويرثونَ كلَّ المدنْ.‏

وجثا قربَ مرقدها الأبديّ‏

مغنِّي الربابِ الحزينُ‏

وراحَ يموّلُ في ظلمةِ الليلِ‏

للحبِّ والحزنِ‏

ذاكَ الغناءَ الشجيّْ.‏

فعلَّمها الحزنَ‏

قبلَ بكاءِ الحمامِ على راحتيها،‏

وقبلَ رحيل المحبيّنَ صيفاً‏

إليها لينتحروا‏

تحتَ حرِّ حزيرانها الشبقيّْ.‏

وقبلَ صعودِ الحليبِ إلى نهدِ (وردٍ)،‏

وتلويحها الساحليِّ على شجرِ الهذيانِ‏

ومسِّ ابن رغبانَ بالجنِّ‏

وهو يضرّجُ بالندمِ المرِّ وجهَ‏

شقيقِ الفراتِ الشقيّْ.‏

فقامتْ إلى النهرِ تدعوهُ:‏

يا دائمَ الحزنِ عندَ جذوعِ النواعيرِ!‏

خذني بمجراكَ أرملةً للخريرِ!‏

الذي رعرعتهُ مواويلُ أمي‏

وهي تهزُّ سريري،‏

وردّدهُ صوتُهَا القرويّْ.‏

أَبى النهرُ أن يتأوّهَ إلاَّ لمجراهُ بينَ الصخورِ..‏

شقيقُ الحقولِ الحزانى،‏

ووارثُ ذرفِ الدموعِ!‏

فأرختْ على كتفِ القمح صفرتها الساحليّةَ‏

فيما الضفائرُ شاردةٌ في مهبٍّ قصيّْ.‏

تموِّجُ في الريحِ ترجيعَهَا المستجيرَ‏

وتصرخُ عبرَ الفيافي‏

صراخَ الحنينِ إِلى المفتقدْ.‏

:أنا حمصُ‏

زهرةُ حنّائكم في ليالي الزفافِ،‏

وزهراءُ بنتُ الهديلِ‏

التي تتراقصُ مثلَ الزغاريدِ‏

فوقَ سماءِ الأحدْ.‏

أنا المستحّمةُ في نبعةِ الليلِ،‏

أولُ أنثى اشتهاها هلالُ الربيعِ‏

وصارَ حزيناً‏

يهيمُ على نفسهِ في الغيومِ‏

ولا يلتقي بامرأهْ.‏

أنا حمصُ معشوقةُ الشعراءِ‏

الذين مضى عمرهمْ في اقتفائيْ،‏

وضيَّعتهمْ في الطريقِ إليّْ.‏

ولكنها الآنَ ضلّيلةُ الألمِ المرِّ‏

متروكة للرياحِ ضفائرُهَا الهاشلاتُ،‏

ومجروحة روحها بالحداءِ الجنوبيْ.‏

ينوحُ القَطا في براري صباها الحزينةِ‏

من دونِ إلفٍ،‏

ويعدو ابن آوى المهجّرُ‏

في ظلمةِ الوعرِ‏

خلفَ فراديسَ ضائعةٍ،‏

ويشقُّ كما الطفل قمصانَهُ‏

لهلالِ المساءِ النبيّْ.‏

ويهرعُ نحو خرائبها في المغيبِ غريبٌ ونخلتهُ،‏

قرويٌّ وحنطتهُ،‏

جبليٌّ وسروتهُ راجعينَ‏

ليرثوا بها حزنها البدويّْ!‏

***‏

حداءٌ شجيُّ المواويلِ‏

يُصدي على شجرِ الوحشةِ المرِّ‏

والريحُ تلفحُ زيتونةَ الانتظارِ العجوزِ‏

ببابِ الأحدْ.‏

كأنْ حمص بنتٌ تدقُّ على بابِ‏

حبٍّ قديم.‏

وما منْ أحدْ.‏

غيرُ ذاكَ الخيالِ الذي يتراءى‏

على حائطٍ من ظلالِ الأبدْ.‏

ولكنها حينَ ينفتحُ البابُ‏

تلمحُ ظلاً ضئيلاً‏

محتهُ سنون الكآبةِ‏

يخرجُ من وحشةِ الصمتِ‏

ثم يسيرُ (ولا يلتقي بأحدْ).‏

فيا ليتَ تعرفُ أنّيْ‏

أنا ذلكَ الشبحُ المريميُّ الحزينْ‍‏

ويا ليتها حين تبكي الرياحُ على شجرِ الحورِ‏

تعرفُ أن نحيبَ الحواكيرِ رَجْعُ صدايَ‏

أنا البدويُّ الذي راحَ يحدو‏

على مغربِ الشمسِ:‏

لا تتركوني وحيداً‏

أقاتلُ وحشَ السنينْ!‏